محيي الدين أعظم من حمل قلما في دنيا التصوف، إبانة وفصاحة وفيضا وكشفا، وهو يرد كل تلك الصفات وهذه الخصائص المتفردة إلى هذا المقام، الذي يحدثنا عنه فيقول: «الفتح في العبارة لا يكون إلا للمحمدي الكامل، وأقوى مقام صاحب هذا الفتح الصدق في جميع أقواله وحركاته وسكونه، إلى أن يبلغ به الصدق أن يعرف صاحبه وجليسه ما في ظاهره وباطنه من حركة ظاهرة أو باطنة؛ بحيث لا يمكن لصاحب هذا الفتح أن يصور كلاما في نفسه، ويرتبه في فكره ثم ينطق به بعد ذلك، بل زمان تصوره لذلك اللفظ الذي يعبر به عما في نفسه زمان قيام ذلك المعنى في نفسه وصورته، فيفتح الله له في العبارة؛ فيعرب بقلمه أو بلفظه عما تنفسه بنفسه، ومن علامات هذا الفتح: استصحاب الخشوع، وتوالي الاقشعرار عليه في جسده؛ بحيث أن يحس أن أجزائه قد تفرقت، وهذا فتح ما لقيت في عمري فيمن لقيته من رجال الله على كثرتهم أثرا منه في أحد، وقد يكون في الزمان رجال لهم هذا الفتح ولم ألقهم، غير أني منهم بلا شك عندي ولا ريب؛ فلله الحمد على ذلك ...»
وهنا آية من آيات محيي الدين، فهو يرد فصاحة اللفظ وجمال التعبير وروعة الفكرة عنده، إلى الصدق في التعبير عن الأحاسيس؛ بحيث لا يزوق كلاما ولا ينمق لفظا، بل لفظه هو تنفسه، وتصوره هو قوله.
مقام القيومية
ولظفره بهذا المقام قصة توضح الهدف والغاية، وهي من مواقف العقول، ومن آيات الفيض والوهب. قال: «لقيت أبا عبد الله بن جنيد من شيوخ الطائفة، وكان معتزلي المذهب، يقول بخلق أفعال العبد، فشرحت له الأمر حتى رجع إلى قولنا، وكان قد أتى إلى زيارتنا، فلما رجع إلى بلده مشيت إلى زيارته في بلده، ورددته عن مذهبه، وكذلك جميع أصحابه فشكرا لله.»
ثم يقول: «إنه كان متحيرا في هذه المسألة المعقدة، لا يدري اليقين فيها، وما فتح له فيها برأي قاطع على الوجه الذي لا شك فيه.
حتى كان ذات ليلة، وهي ليلة السبت السادس من رجب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، فإنه لم يتخلص لي إضافة خلق الأعمال لأحد الجانبين، ويعسر عندي الفصل بين الكسب الذي يقول به قوم، وبين الخلق الذي يقول به قوم؛ فأوقفني الحق بكشف بصري على خلقه المخلوق الأول، الذي لم يتقدمه مخلوق؛ إذ لم يكن إلا الله. وقال لي: هل هنا أمر يوجب التلبيس والحيرة؟ قلت: لا. قال: هكذا جميع ما تراه من المحدثات، ما لأحد فيه أثر ولا شيء من الخلق؛ فأنا أخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب، فتكون عن أمري، خلقت النفخ في عيسى، وخلقت التكوين في الطائر.
وسألته - سبحانه - سؤالا، فقال: إذا طالعتك بأمر فالزم الأدب، واسمع وأنصت. قلت: ذلك لك، اخلق السمع حتى أسمع، واخلق الإنصات حتى أنصت، وما يخاطبك الآن سوى ما خلقت. فقال لي: ما أخلق إلا ما علمت وما علمت إلا ما هو المعلوم عليه، فلله الحجة البالغة ، وقد أعلمتك بهذا فيما سلف، فالزم مشاهدة فليس سواه، يرجع خاطرك ولا تأمن حتى ينقطع التكليف، ولا ينقطع حتى تجوز على الصراط.»
وهذا هو مقام القيومية، فكل شيء يقوم بالله، ومن الله، وله - سبحانه - خلق العبد وأفعاله، يخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب، تعالى الله الواحد الوهاب.
مقام حلاوة الفتح
وحلاوة الفتح مقام حظي به محيي الدين ونعم، وهو لذة ربانية وحلاوة إلهية، يهبها الله لمن يصطفي ويختار من عباده، يقول محيي الدين: «ومن أصحاب هذا الفتح من تلازمه هذه الحلاوة ساعة أو يوما أو أكثر، كل حسب ما يوهب؛ فليس لبقائها زمن، فإنه اختلف علينا بقاؤها فوقنا نزلت علينا في قضية من قضايا الذوق، فدامت ساعة ثم ارتفعت، ونزلت في واقعة أخرى فدامت أياما.
Bog aan la aqoon