Industrie ؛ وهو ما يترجم الآن ب «الصناعة»؛ لما كانت الصناعة روح العمران. «فليكن هذا الوطن مكانا لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع». ووضع الطهطاوي الهوية داخل الموقف الحضاري الثلاثي: تأصيلها في الموروث القديم في «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، وانفتاحها على التراث الغربي في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وتنظيره المباشر للواقع في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» لبناء الدولة المصرية الحديثة. واستمر في نفس التيار علي مبارك في «الخطط التوفيقية»؛ لاستكمال بناء الدولة التي بدأها محمد علي. وبلغت الذروة حول ثورة 1919م ودستور 1923م وإنشاء الجامعة المصرية 1925م. إلا أن الثورات العربية الأخيرة بقيادة الضباط الأحرار في الخمسينيات والستينيات قضت عليها باسم الدولة الوطنية، والتحرر الوطني، وبناء الدولة، وتأسيس القطاع العام، والتخطيط؛ مما يحتاج إلى سلطة مركزية ممثلة في الحزب والجيش والدولة. ثم تحولت الدولة الوطنية إلى دولة أمنية قاهرة، تجد أحلافها وأنصارها في الخارج أمريكا وإسرائيل. ثم جاءت الثورات العربية الأخيرة لتقضي عليها، وما زال النضال مستمرا بين الثورة الشعبية والاستبداد العسكري؛ مع الحذر من الاستبداد الديني البديل.
وأخذت الهوية الإصلاحية اتجاها يربط بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد؛ بناء على حديث المجددين: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». وفسرت الهوية الإسلامية في ظرف القرن التاسع عشر الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وأول من فكر في «لاهوت الأرض» لإعادة بناء اللاهوت القديم؛ من أجل تحرير الأرض، فالله «إله السموات والأرض»،
رب السموات والأرض ،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، كما فكر في الإسلام والاشتراكية، «عجبت لك أيها الفلاح؛ تشق الأرض بفأسك، ولا تشق قلب ظالمك». فكر في وحدة الأمة، والتوحيد بين الدين والقومية.
5
وفجرت تعاليمه الثورة العرابية عندما قال أحمد عرابي أمام الخديو توفيق: «إن الله خلقنا أحرارا ولم يخلقنا عقارا، والله لا نورث بعد اليوم». وخشي تلميذه محمد عبده من هذه الثورة الإصلاحية؛ فآثر التدريج والبداية بالتعليم وتغيير الأخلاق، فكان وراء إنشاء كلية دار العلوم ثم الجامعة المصرية، فتراجعت الحركة الإصلاحية إلى الوراء كحلقة سلفية على يد محمد عبده بعد فشل العرابيين، ثم تراجعت سلفية مرة أخرى على يد تلميذه رشيد رضا، بعد انهيار الخلافة الإسلامية في تركيا في 1924م بعد الثورة الكمالية عام 1923م. وبعد أن نشطت الحركة الإصلاحية من جديد على يد حسن البنا تلميذ رشيد رضا في «دار العلوم»، وإنشاء جماعة الإخوان المسلمين؛ نشطت الحركة الإسلامية في حرب فلسطين 1948م، وكانت أحد مكونات الثورة المصرية في 1952م. اصطدمت مع الضباط الأحرار في 1954م، وكانت النتيجة دخول السجون والتعذيب. فتحول سيد قطب من مفكر اشتراكي صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية» و«السلام العالمي والإسلام»، إلى «المستقبل لهذا الدين»، و«معالم في الطريق». يقول فيه بالحاكمية وتطبيق الشريعة الإسلامية، وأنه لن يغير هذا المجتمع إلا جيل قرآني فريد تحت شعار «لا إله إلا الله» ... فخرج إسلام غاضب ثائر، يريد أن يهدم قبل أن يبني، ويقوض قبل أن يشيد، يكفر حكم البشر، ولا يطيع إلا حكم الله. فانتهت التيارات الثلاثة إلى السلفية، وهو ما ظهر في قوتها في الانتخابات الأخيرة؛ سواء في حزب «الحرية والعدالة» أو حزب «النور» اللذين أخذا نحو 65٪ من الأصوات.
ثالثا: الهوية والاغتراب الديني
يؤدي فقدان الهوية والتوحد مع النفس حرصا على انقسامها إلى أشكال عديدة من الاغتراب؛ أهمها الاغتراب الديني والاغتراب السياسي. يظهر الاغتراب الديني في علم العقائد وفي التصوف؛ إذ تقوم العقائد على قسمة العالم قسمين: الأعلى والأدنى، الخالق والمخلوق، الأبدي والزمني، الخالد والفاني ... الأول تستريح إليه النفس، والثاني تشقى فيه. الأول بيده كل شيء؛ العلم والفعل؛ يرسل العلم ويوجه الفعل، والثاني يتلقى العلم، ويحقق الفعل. وفي الأغلب تتحقق الهوية خارج العالم، في عالم مفارق، عالم علوي يتجاوز هذا العالم، يسميه اللاهوتيون والصوفية «الله». وهو عند المتكلمين نظرية في الذات والصفات والأفعال والأسماء، وتعني إخراج الكمال من داخل الإنسان إلى خارجه، وتفريغه من المثل العليا، ثم تشخيصها وتقديسها وعبادتها. فصفات الذات الست: الوجود، والقدم، والبقاء، ولا مكان، ولا صورة له، وواحد؛ هي صفات الحبيب، ما تعشقه النفس، وجود الحبيب وأنه يعرفه من قديم الزمان، وباق إلى الأبد، خالد لا يموت، لا مكان له، وإلا وقعنا في التجسيم، بل في كل مكان، ولا صورة له، وإلا وقعنا في التشبيه، وواحد ليس كمثله شيء، فرد لا مثيل له. أما الصفات فهي سبع، هي أيضا المثل التي تعشقها الذات وتحب أن تكونها أو أن يعاملها الآخرون بها: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة. فالإنسان يود أن يكون عالما ولكنه لا يستطيع؛ فيتحول العلم إلى مثل أعلى ولا يتنازل عنه، ولما كان صعب التحقيق، فإنه يعظمه ويبجله ويقدسه؛ فيتحول إلى صفة للإله أو إلى الإله. وكذلك يتم نفس الشيء للقدرة؛ يريد الإنسان أن يكون قادرا ولكنه لا يستطيع، ولا يتخلى عن القدرة كمثل أعلى؛ فتتحول إلى صفة إلهية للإله. ويتم نفس الشيء بالنسبة إلى الحياة؛ يريد الإنسان أن يكون حيا ولكنه يموت، ولا يستطيع أن يتخلى عن الحياة كهدف أسمى؛ يقدسها ويحولها إلى صفة إلهية. ويتم نفس الشيء بالنسبة إلى السمع والبصر والكلام والإرادة؛ يريد الإنسان أن يكون سليما في إدراكه، ولكنه لا يستطيع لقصوره الجسمي، فيحولها إلى آمال لديه كي تتحقق، فإذا لم تتحقق يحولها إلى مثل عليا للوعي الإنساني ويقدسها بل ويؤلهها. أما الأسماء التسعة والتسعون فإنها أيضا تمثل آمال الإنسان في الرحمة والقوة والعظمة. تكشف في مجموعها عن وعي الإنسان بذاته الذي تحول إلى الله كوعي ذاتي؛ وعي الإنسان بالعالم أو بالطبيعة، وإلى وعي الإنسان بنفسه.
6
وقد يكون منها بعض المعاني السلبية؛ مثل: المتكبر، والجبار، والقهار.
Bog aan la aqoon