ـ[حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة]ـ
المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: ١٣٠٧هـ)
المحقق: د مصطفى الخن - ومحي الدين ستو
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
الطبعة: الثانية، ١٤٠١هـ/ ١٩٨١م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Bog aan la aqoon
مُقَدّمَة الْمُؤلف
لَا يخفى عَلَيْك أَن النِّسَاء نصف هَذِه الْأمة بل أَكْثَرهَا وَهن شقائق الرِّجَال فِي جَمِيع مَا ورد من الشَّرِيعَة الحقة إِلَّا أَشْيَاء خصهن الله تَعَالَى وَرَسُوله بهَا من دون الرِّجَال وَقد تفضل عَلَيْهِنَّ كَمَا تفضل عَلَيْهِم بأنواع من الإفضال فَلَهُنَّ مَا لَهُم وعليهن مَا عَلَيْهِم فِي جملَة الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام وَهِي أَبْوَاب كَثِيرَة طيبَة جدا لَا يَتَّسِع لذكرها الْمقَام كَيفَ وَمَا من خِصَال حَسَنَة نزل بهَا الْقُرْآن والْحَدِيث إِلَّا وَهِي مَطْلُوب مِنْهُنَّ فعلهَا وَمَا من شيم سَيِّئَة نطق بهَا الْكتاب وَالسّنة إِلَّا وَهِي مَقْصُود مِنْهُنَّ تَركهَا لكني خصصت هَذَا الْكتاب بِبَيَان مَا ورد فِي ذكرهن على الْخُصُوص وَهَذَا شطر علم من عُلُوم الدَّين وشطره الْبَاقِي مُشْتَرك بَينهم وبينهن بِالْيَقِينِ
وَكم من تفاسير للآيات الْبَينَات وَرِوَايَات الْأَحَادِيث والدرايات جاءتنا من قبل نسَاء الْأَنْصَار والمهاجرات حَتَّى إِن نصف هَذَا الْعلم نقل إِلَيْنَا من عالمتهن عَائِشَة الصديقة ﵂ وَكَانَت أعلمهن بأيام الله وأشعار الْعَرَب وَأَسْبَاب نزُول الْآي وأرواهن لأحاديثه ﷺ وَآله من أَبْوَاب كَثِيرَة من الشَّرَائِع وَكَانَ لَهَا قُوَّة الِاجْتِهَاد فِي عُلُوم الْملَّة الصادقة
فَمن أتاح الله لَهُ علم هَذَا الْكتاب وَكَانَ قد رزق سائره الْمُشْتَرك
1 / 15
بَينهمَا من قبل فقد فَازَ بالقدح الْمُعَلَّى فِي مجَالِس أولي الْعلم والألباب وَإِيَّاك أَن تمر بِمَا فِي هَذَا السّفر من نفائس الْأَخْبَار والْآثَار ومحاسن آيَات الله الْوَاحِد الْغفار على غَفلَة مِنْك غير مبال بهَا بل عَلَيْك أَن تستفيد بِتِلْكَ الدَّلَائِل وتستفيد بتيك المخايل وتشيعها فِيهِنَّ وتحملهن على تعلمه وتعليمه لغيرهن مَا استطعن فان الله شَاكر لمن شكر ذَاكر لمن ذكر غَافِر لمن تَابَ وأناب إِلَيْهِ واستغفر والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ وتحلى بِعلم كل أَمر مِنْهُنَّ شَره وخيره
وَإِذا عسر عَلَيْك فهم شَيْء من مباني الْآي وَالسّنَن ومعانيها فَارْجِع إِلَى تفاسير الْكتاب الْمُعْتَمد عَلَيْهَا فِي هَذَا الْبَاب وشروح كتب الصِّحَاح وَالسّنَن من جمَاعَة من أهل الْأَلْبَاب كفتح الْبَيَان وَفتح الْبَارِي وَالرَّوْضَة الندية والنيل والسيل وَأَخَوَاتهَا فَإِن فِيهَا مَا يرشدك إِلَى الْحق بِالْقبُولِ والاتباع ويغنيك عَن الْميل إِلَى كتب الْفُرُوع الَّتِي لفقها أهل الرَّأْي وأرباب الابتداع وَلَو لم أكن فِي شغل شاغل وفكر هائل لأتيتك بذلك كُله ونبأتك بكثيره وقله وَحَيْثُ إِن آيَات الْكتاب متصفة بِالْبَيِّنَاتِ وَأَحَادِيث النَّبِي ﷺ مَوْصُوفَة بِأَن لَيْلهَا كنهارها فِي الوضوح واللمعات لَا يحْتَاج الْعَالم بهما وعارفهما إِلَى غَيرهمَا فِي هَذِه الشَّرَائِع والأبواب إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَهَذَا الْكتاب مَعَ اختصاره واقتصاره فِي جمع آيَاته وآثاره بَين لَا يتقنع وجلي لَا يتبرقع وَفِيه كِفَايَة ومقنع وبلاغ لمن لَهُ هِدَايَة فاصبر عَلَيْهِ صبرا جميلا فَخير الحَدِيث كتاب الله وَخير الْهدى هدي مُحَمَّد وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل بِدعَة ضَلَالَة وَمن أصدق من الله وَرَسُوله قيلا وَبِأَيِّ حَدِيث بعده يُؤمنُونَ وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون
1 / 16
الْكتاب الأول فِي آيَات الْكتاب الْعَزِيز
1 / 17
١ - بَاب مَا نزل فِي إسكان الْأَبَوَيْنِ آدم وحواء فِي الْجنَّة وإزلال الشَّيْطَان لَهما عَنْهَا
﴿يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة وكلا مِنْهَا رغدا حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾
قَالَ الله تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة ﴿يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة﴾ أَي اتخذ الْجنَّة مأوى ومنزلا وَهُوَ مَحل السّكُون وَالزَّوْج هِيَ حَوَّاء بِالْمدِّ وَالزَّوْج فِي اللُّغَة الفصيحة بِغَيْر هَاء وَقد جَاءَ بهاء قَلِيلا كَمَا فِي صَحِيح مُسلم قَالَ يَا فلَان هَذِه زَوْجَتي فُلَانُهُ الحَدِيث وَكَانَ خلق حَوَّاء من ضلعه الْيُسْرَى فَلِذَا كَانَ كل إِنْسَان نَاقِصا ضلعا
1 / 19
من الْجَانِب الْأَيْسَر فجهة الْيَمين أضلاعها ثَمَانِي عشرَة وجهة الْيَسَار أضلاعها سبع عشرَة وقصة خلقهَا مبسوطة فِي كتب السّنة
وَاخْتلفُوا فِي الْجنَّة الَّتِي أَمر آدم وزوجه بسكناها فَقيل إِنَّهَا كَانَت فِي الأَرْض وَقيل هِيَ دَار الْجَزَاء وَالثَّوَاب وَقد استوعب الْعَلامَة ابْن الْقيم فِي كِتَابه حادي الْأَرْوَاح الى بِلَاد الأفراح أَدِلَّة الْفَرِيقَيْنِ وَلكُل وجهة هُوَ موليها وَصحح بَعضهم القَوْل الأول وَمِنْهُم من صحّح القَوْل الثَّانِي وَقيل كِلَاهُمَا مُمكن فَلَا وَجه للْقطع وَالْأولَى الْوَقْف وَالله تَعَالَى أعلم
وَقَالَ تَعَالَى ﴿فأزلهما﴾ أَي استزل آدم وحواء الشَّيْطَان عَنْهَا أَي الْجنَّة ودعاهما إِلَى الزلة وَهِي الْخَطِيئَة وَقيل نحاهما قيل إِنَّه كَانَ ذَلِك بمشافهة مِنْهُ لَهما وَإِلَيْهِ ذهب الْجُمْهُور مستدلين بقوله تَعَالَى ﴿وقاسمهما إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين﴾ والمقاسمة ظَاهرهَا المشافهة وَقيل لم يصدر مِنْهُ إِلَّا مُجَرّد الوسوسة والمفاعلة لَيست على بَابهَا بل للْمُبَالَغَة وَقيل غير ذَلِك ﴿فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ أَي صرفهما عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ من الطَّاعَة إِلَى الْمعْصِيَة وَقيل الضَّمِير إِلَى الْجنَّة وعَلى هَذَا فالفعل مضمن معنى أبعدهُمَا وَإِنَّمَا نسب ذَلِك إِلَى الشَّيْطَان لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تولى إغواء آدم حَتَّى أكل من الشَّجَرَة
وَبِالْجُمْلَةِ فهبط آدم على سرنديب من أَرض الْهِنْد على جبل يُقَال لَهُ نود وأهبطت حَوَّاء على جدة وهما أصل هَذَا النَّوْع الانساني وَعَن ابْن عَبَّاس ﵄ قَالَ مَا سكن آدم الْجنَّة إِلَّا مَا بَين صَلَاة الْعَصْر
1 / 20
إِلَى غرُوب الشَّمْس أخرجه عبد بن حميد وَالْحَاكِم وَصَححهُ وَعنهُ مَا غَابَتْ الشَّمْس من ذَلِك الْيَوْم حَتَّى أهبط من الْجنَّة وَعَن الْحسن قَالَ لبث آدم فِي الْجنَّة سَاعَة من نَهَار وَتلك السَّاعَة مائَة وَثَلَاثُونَ سنة من أَيَّام الدُّنْيَا
وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ﷺ قَالَ لَوْلَا لم تخن أُنْثَى زَوجهَا أخرجه البُخَارِيّ وَالْحَاكِم
وَقد روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ حكايات فِي صفة هبوط آدم وزوجه من الْجنَّة وَمَا أهبط مَعَهُمَا وَمَا صنعا عِنْد وصولهما إِلَى الأَرْض فَلَا حَاجَة لنا ببسط جَمِيع ذَلِك فِي هَذَا الْكتاب وَذكر طرفا مِنْهَا ابْن الْقيم فِي الْحَادِي فَرَاجعه
٢ - بَاب مَا نزل فِي ذبح الْأَبْنَاء واستحياء النِّسَاء
﴿يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم﴾ الذّبْح فِي الأَصْل الشق وَهُوَ فري أوداج الْمَذْبُوح وَهل نسَاء جمع نسْوَة أَو جمع امْرَأَة من حَيْثُ الْمَعْنى قَولَانِ وَالْمرَاد يتركون نساءكم أَحيَاء ليستخدموهن ويمتهنوهن عبر عَن الْبَنَات باسم النِّسَاء لِأَنَّهُ جنس يصدق عَلَيْهِنَّ وَلَا يخفى مَا فِي قتل الْأَبْنَاء واستحياء الْبَنَات للْخدمَة وَنَحْوهَا من إِنْزَال الذل بهم وإلصاق الإهانة الشَّدِيدَة بجميعهم لما فِي ذَلِك من الْعَار وَيُشِير إِلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم﴾
1 / 21
٣ - بَاب مَا نزل فِي الْإِحْسَان إِلَى الْوَالِدين
﴿وَإِذ أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله وبالوالدين إحسانا﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِذ أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله وبالوالدين إحسانا﴾ قَالَ مكي هَذَا الْمِيثَاق أَخذه الله عَلَيْهِم فِي حياتهم على ألسن أَنْبِيَائهمْ وَالْجُمْلَة خبر بِمَعْنى النَّهْي وَهُوَ أبلغ من صَرِيح النَّهْي لما فِيهِ من الاعتناء بشأن الْمنْهِي عَنهُ وتأكد طلب امتثاله حَتَّى كَأَنَّهُ امتثل وَأخْبر عَنهُ وَعبادَة الله إِثْبَات توحيده وتصديق رسله وَالْعَمَل بِمَا أنزل الله فِي كتبه وَالْمرَاد بِالْإِحْسَانِ معاشرة الْأَبَوَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ والتواضع لَهما وامتثال أَمرهمَا وَسَائِر مَا أوجبه الله على الْوَلَد لوَالِديهِ من الْحُقُوق وَمِنْه الْبر بهما وَالرَّحْمَة لَهما وَالنُّزُول عِنْد أَمرهمَا فِيمَا لَا يُخَالف أَمر الله وَأمر رَسُوله ﷺ ويوصل إِلَيْهِمَا مَا يحتاجان إِلَيْهِ وَلَا يؤذيهما وَإِن كَانَا كَافِرين وَأَن يدعوهما إِلَى الْإِيمَان بالرفق واللين وَكَذَا إِن كَانَا فاسقين يأمرهما بِالْمَعْرُوفِ من غير عنف وَلَا يَقُول لَهما أُفٍّ
٤ - بَاب مَا نزل فِي ابْن مَرْيَم ﵉
﴿وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات﴾ أَي الدلالات الواضحات الْمَذْكُورَة فِي سُورَة آل عمرَان والمائدة وَقيل هِيَ الْإِنْجِيل وَاسم عِيسَى بالسُّرْيَانيَّة يسوع وَمَرْيَم بِمَعْنى الْخَادِم وَقيل هُوَ اسْم علم لَهَا كزيد من الرِّجَال
1 / 22
٥ - بَاب مَا نزل فِي التَّفْرِيق بَين الْمَرْء وزوجه
﴿فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿فيتعلمون مِنْهُمَا﴾ أَي من الْملكَيْنِ ﴿مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه﴾ أَي سحرًا يكون سَببا فِي التَّفْرِيق بَينهمَا كالنفث فِي العقد وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يحدث الله تَعَالَى عِنْده الْبغضَاء وَالْخلاف بَين الزَّوْجَيْنِ على حسب الْعَادة الإلهية من خلق المسببات عقب الْأَسْبَاب العادية ابتلاء من الله تَعَالَى وَفِي الْآيَة دلَالَة على أَن للسحر تَأْثِيرا فِي نَفسه وَحَقِيقَة ثَابِتَة وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا الْمُعْتَزلَة وَأَبُو حنيفَة ﴿وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ﴾ يَعْنِي السحر لأَنهم يقصدون بِهِ الْعَمَل أَو لِأَن الْعلم يجر إِلَى الْعَمَل غَالِبا قَالَ أَبُو السُّعُود فِيهِ إِن الاجتناب عَمَّا لَا تؤمن غوائله خير كتعلم الفلسفة الَّتِي لَا يُؤمن أَن تجر إِلَى الغواية انْتهى
٦ - بَاب مَا نزل فِي قصاص الْأُنْثَى
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ أستدل بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الذّكر لَا يقتل
1 / 23
بِالْأُنْثَى إِلَّا إِذا سلم أَوْلِيَاء الْمَرْأَة الزِّيَادَة على دِيَتهَا من دِيَة الرجل وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَالثَّوْري وَأَبُو ثَوْر وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه يقتل الرجل بِالْمَرْأَةِ وَلَا زِيَادَة وَهُوَ الْحق وَقد بسط الشَّوْكَانِيّ ﵀ الْبَحْث فِي نيل الأوطار فَرَاجعه
٧ - مَا نزل فِي وَصِيَّة الْوَالِدين
﴿كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِالْمَعْرُوفِ﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِالْمَعْرُوفِ﴾ الْوَصِيَّة هُنَا عبارَة عَن الْأَمر بالشَّيْء بعد الْمَوْت وَقد اتّفق أهل الْعلم على وُجُوبهَا على من عَلَيْهِ دين أَو عِنْده وَدِيعَة أَو نَحْوهَا وَأما إِن لم يكن كَذَلِك فَذهب أَكْثَرهم إِلَى أَنَّهَا غير وَاجِبَة عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ فَقِيرا أَو غَنِيا وَقَالَت طَائِفَة إِنَّهَا وَاجِبَة
وَذَهَبت جمَاعَة إِلَى أَن الْآيَة محكمَة وَالْمرَاد بهَا من الْوَالِدين من لَا يَرث كالأبوين الْكَافرين وَمن هُوَ فِي الرّقّ قَالَ ابْن الْمُنْذر أجمع كل من يحفظ عَنهُ من أهل الْعلم على أَن الْوَصِيَّة لَهما جَائِزَة وَقَالَ كثير من أهل الْعلم إِنَّهَا مَنْسُوخَة بِآيَة الْمَوَارِيث وَقيل نسخ الْوُجُوب وَبَقِي النّدب
1 / 24
٨ - بَاب مَا نزل فِي حل الرَّفَث إِلَى النِّسَاء ومباشرتهن فِي ليَالِي الصَّوْم
﴿أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ﴾ ﴿فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم﴾ ﴿وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم﴾ الرَّفَث كِنَايَة عَن الْجِمَاع قَالَ الزّجاج هُوَ كلمة جَامِعَة لكل مَا يُرِيد الرجل من امْرَأَته وَكَذَا قَالَ الْأَزْهَرِي وَقيل أَصله الْفُحْش وَلَيْسَ هُوَ المُرَاد هُنَا وعدي بإلى لتَضَمّنه معنى الْإِفْضَاء ﴿هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ﴾ جعل النِّسَاء لباسا للرِّجَال وَالرِّجَال لباسا لَهُنَّ لامتزاج كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْآخرِ عِنْد الْجِمَاع كالامتزاج الَّذِي يكون بَين الثَّوْب ولابسه قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَغَيره يُقَال للْمَرْأَة لِبَاس وفراش وَإِزَار وَقيل إِنَّمَا جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا لباسا للْآخر لِأَنَّهُ يستره عِنْد الْجِمَاع عَن أعين النَّاس وَعَن ابْن عَبَّاس ﵄ هن سكن لكم وَأَنْتُم سكن لَهُنَّ قيل لَا يسكن شَيْء إِلَى شَيْء كسكون إِحْدَى الزَّوْجَيْنِ إِلَى الآخر وَقَالَ الدُّخُول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس والمس هِيَ الْجِمَاع فَإِن الله حييّ كريم يكني بِمَا شَاءَ
وَقَالَ تَعَالَى ﴿فَالْآن باشروهن﴾ أَي جامعوهن فَهُوَ حَلَال لكم فِي ليَالِي الصَّوْم وَسميت المجامعة مُبَاشرَة لتلاصق بشرة كل وَاحِد بِصَاحِبِهِ ﴿وابتغوا مَا كتب الله لكم﴾ أَي ابْتَغوا بِمُبَاشَرَة نِسَائِكُم حُصُول مَا هُوَ مُعظم الْمَقْصُود من النِّكَاح وَهُوَ حُصُول النَّسْل وَالْولد وَقيل ابْتَغوا مَا كتب الله لكم من الْإِمَاء والزوجات
1 / 25
وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد﴾ قيل المُرَاد الْجِمَاع وَقيل يَشْمَل التَّقْبِيل واللمس إِذا كَانَا بِشَهْوَة لَا إِذا كَانَا بغَيْرهَا فهما جائزان قَالَه عَطاء وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْمُنْذر وَغَيرهم
٩ - بَاب مَا نزل فِي أجر النَّفَقَة للْوَالِدين
﴿مَا أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿مَا أنفقتم من خير فللوالدين﴾ قدمهما لوُجُوب حَقّهمَا على الْوَلَد لِأَنَّهُمَا السَّبَب فِي وجوده ﴿والأقربين واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل﴾ انْظُر إِلَى هَذَا التَّرْتِيب الْحسن العجيب فِي كَيْفيَّة الْإِنْفَاق كَيفَ فَصله
١٠ - بَاب مَا نزل فِي نِكَاح المشركات
﴿وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن﴾ أَي لَا تتزوجوا وَالْمرَاد بِالنِّكَاحِ العقد لَا الْوَطْء وَفِي هَذِه الْآيَة النَّهْي عَن نِكَاح المشركات قيل المُرَاد بهَا الوثنيات وَقيل تعم الكتابيات لما أخرج البُخَارِيّ عَن ابْن عمر قَالَ حرم الله نِكَاح المشركات على الْمُسلمين وَلَا أعرف
1 / 26
شَيْئا من الْإِشْرَاك أعظم من أَن تَقول الْمَرْأَة إِن رَبهَا عِيسَى وَهُوَ عبد من عباد الله
قَالَت طَائِفَة جَاءَت آيَة الْمَائِدَة فخصصت الكتابيات من هَذَا الْعُمُوم وَهُوَ القَوْل الراسخ عَن مقَاتل بن حَيَّان قَالَ نزلت هَذِه الْآيَة فِي أبي مرْثَد الغنوي وَكَانَ قد اسْتَأْذن النَّبِي ﷺ فِي عنَاق أَن يَتَزَوَّجهَا وَكَانَت ذَات حَظّ من الْجمال وَهِي مُشركَة وَأَبُو مرْثَد يَوْمئِذٍ مُسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله إِنَّهَا تعجبني فَأنْزل الله ﴿وَلَا تنْكِحُوا المشركات﴾ الْآيَة أخرجه ابْن أبي حَاتِم وَابْن الْمُنْذر ﴿وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة﴾ أَي رقيقَة مُؤمنَة أَنْفَع وَأصْلح وَأفضل من حرَّة مُشركَة وَيُسْتَفَاد مِنْهُ تَفْضِيل الْحرَّة المؤمنة على الْحرَّة المشركة بِالْأولَى قَالَ ابْن عَرَفَة يَجِيء التَّفْضِيل فِي كَلَامهم إِيجَابا للْأولِ ونفيا عَن الثَّانِي فعلى هَذَا يلْزم عدم الْخَيْر فِي المشركة مُطلقًا ﴿وَلَو أَعجبتكُم﴾ أَي المشركة من جِهَة كَونهَا ذَات جمال أَو مَال أَو نسب أَو شرف قَالَ السُّيُوطِيّ وَهَذَا مَخْصُوص بِغَيْر الكتابيات بِآيَة ﴿وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب﴾ ﴿وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين﴾ أَي لَا تزوجوا الْكفَّار بالمؤمنات خطاب للأولياء ﴿حَتَّى يُؤمنُوا﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيّ أَجمعت الْأمة على أَن الْمُشرك لَا يطَأ المؤمنة بِوَجْه لما فِي ذَلِك من الغضاضة على الْإِسْلَام ﴿ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم﴾ أَي بحسنه وجماله وَنسبه وَمَاله
1 / 27
١١ - بَاب مَا نزل فِي عدم قرب النِّسَاء حَتَّى يطهرن
﴿ويسألونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن فَإِذا تطهرن فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿ويسألونك عَن الْمَحِيض﴾ وَهُوَ اسْم الْحيض أَي الْحَدث وأصل الْكَلِمَة من السيلان والانفجار ﴿قل هُوَ أَذَى﴾ أَي شَيْء يتَأَذَّى بِهِ أَي برائحته والأذى كِنَايَة عَن القذر أَو مَحَله ﴿فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض﴾ أَي اجتنبوهن واتركوا وطأهن فِي زمَان الْمَحِيض إِن حمل الْمَحِيض على الْمصدر أَو فِي مَحل الْحيض إِن حمل على الِاسْم وَالْمرَاد مِنْهُ ترك المجامعة لَا ترك المجالسة أَو الملابسة فَإِن ذَلِك جَائِز بل يجوز الِاسْتِمْتَاع بِهن مَا عدا الْفرج أَو مَا دون الْإِزَار على خلاف فِي ذَلِك وَلَا خلاف بَين أهل الْعلم فِي تَحْرِيم وَطْء الْحَائِض وَهُوَ مَعْلُوم من ضَرُورَة الدَّين ﴿وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن﴾ قريء بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف وَالطُّهْر انْقِطَاع الْحيض والتطهر الِاغْتِسَال وبسبب اخْتِلَاف الْقُرَّاء اخْتلف أهل الْعلم فَذهب الْجُمْهُور إِلَى منع الْجِمَاع حَتَّى تتطهر بِالْمَاءِ وَقَالَ
1 / 28
آخَرُونَ حلت لزَوجهَا وَإِن لم تَغْتَسِل وَرجح الطَّبَرِيّ قِرَاءَة التَّشْدِيد وَالْأولَى أَن يُقَال إِن الله تَعَالَى جعل للْحلّ غايتين كَمَا تَقْتَضِيه القراءتان إِحْدَاهمَا انْقِطَاع الدَّم وَالْأُخْرَى التطهر مِنْهُ والغاية الْأُخْرَى مُشْتَمِلَة على زِيَادَة على الْغَايَة الأولى فَيجب الْمصير إِلَيْهَا وَقد دلّ على أَن الْغَايَة الْأُخْرَى هِيَ الْمُعْتَبرَة وَقَوله سُبْحَانَهُ بعد ذَلِك ﴿فَإِذا تطهرن﴾ فَإِن ذَلِك يُفِيد أَن الْمُعْتَبر التطهر لَا مُجَرّد انْقِطَاع الدَّم وَقد تقرر أَن الْقِرَاءَتَيْن بِمَنْزِلَة الْآيَتَيْنِ فَكَمَا أَنه يجب الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ الْمُشْتَملَة إِحْدَاهمَا على زِيَادَة بِالْعَمَلِ بِتِلْكَ الزِّيَادَة كَذَلِك يجب الْجمع بَين الْقِرَاءَتَيْن ﴿فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله﴾ أَي فجامعوهن وكنى عَنهُ بالإتيان وَالْمرَاد أَنهم يجامعونهن فِي المأتى الَّذِي أَبَاحَهُ الله وَهُوَ الْقبل وَقيل من قبل الْحَلَال لَا من قبل الزِّنَى ﴿إِن الله يحب التوابين﴾ من إتْيَان النِّسَاء فِي أدبارهن أَو فِي الْمَحِيض ﴿وَيُحب المتطهرين﴾ من الْجَنَابَة والأحداث والعموم أولى
١٢ - بَاب مَا نزل فِي مَوضِع إتْيَان النِّسَاء
﴿نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم﴾
قَالَ تَعَالَى (نِسَاؤُكُمْ حرث لكم) لفظ الْحَرْث يُفِيد أَن الْإِبَاحَة لم تقع إِلَّا فِي الْفرج الَّذِي هُوَ الْقبل خَاصَّة إِذْ هُوَ مزدرع الذُّرِّيَّة كَمَا أَن الْحَرْث مزدرع النَّبَات فقد شبه مَا يلقى فِي أرحامهن من النطف الَّتِي مِنْهَا النَّسْل بِمَا يلقى فِي الأَرْض من البزور الَّتِي مِنْهَا النَّبَات بِجَامِع أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مَادَّة لما يحصل مِنْهُ ﴿فَأتوا حَرْثكُمْ﴾ أَي مَحل زرعكم واستنباتكم الْوَلَد وَهُوَ الْقبل وَهَذَا على سَبِيل التَّشْبِيه جعل فرج الْمَرْأَة كالأرض
1 / 29
والنطفة كالبزر وَالْولد كالزرع ﴿أَنى شِئْتُم﴾ أَي أَي من أَي جِهَة شِئْتُم من خلف وَقُدَّام وباركة ومستلقية ومضطجعة وقائمة وَقَاعِدَة ومقبلة ومدبرة إِذا كَانَ فِي مَوضِع الْحَرْث
وَقد ذهب السّلف وَالْخلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين إِلَى أَن إتْيَان الزَّوْجَة فِي دبرهَا حرَام وروى عَن مَالك من طرق مَا يَقْتَضِي إِبَاحَة ذَلِك وَفِي أسانيدها ضعف وَأخرج الشَّيْخَانِ وَأهل السّنَن وَغَيرهم عَن جَابر قَالَ كَانَت الْيَهُود تَقول إِذا أَتَى الرجل امْرَأَة من خلفهَا فِي قبلهَا ثمَّ حملت جَاءَ الْوَلَد أَحول فَنزلت ﴿نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم﴾ أَي إِن شَاءَ مجبية وَإِن شَاءَ غير مجبية بِحَيْثُ يكون ذَلِك فِي صمام وَاحِد وَقد رُوِيَ هَذَا عَن جمَاعَة من السّلف وصرحوا أَنه السَّبَب والصمام السَّبِيل وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ جَاءَ عمر إِلَى رَسُول الله ﷺ فَقَالَ يَا رَسُول الله هَلَكت قَالَ وَمَا أهْلكك قَالَ حولت رحلي اللَّيْلَة فَلم يرد عَلَيْهِ شَيْئا فَأوحى الله إِلَى رَسُوله هَذِه الْآيَة ﴿نِسَاؤُكُمْ حرث لكم﴾ يَقُول أقبل وَأدبر وَاتَّقِ الدبر والحيضة أخرجه أَحْمد وَعبد بن حميد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَالنَّسَائِيّ والضياء فِي المختارة وَغَيرهم وَأخرج الشَّافِعِي فِي الْأُم وَابْن أبي شيبَة وَأحمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن الْمُنْذر وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من طَرِيق خُزَيْمَة بن ثَابت أَن سَائِلًا سَأَلَ رَسُول الله ﷺ عَن إتْيَان النِّسَاء فِي أدبارهن فَقَالَ حَلَال أَو لَا بَأْس فَلَمَّا ولى دَعَاهُ فَقَالَ كَيفَ قلت أَمن دبرهَا فِي قبلهَا فَنعم أم من دبرهَا فَلَا إِن الله لَا يستحي من الْحق لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن
1 / 30
وَقد ورد النَّهْي عَن ذَلِك من طرق وَقد ثَبت نَحْو ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مَرْفُوعا وموقوفا
وَقد روى القَوْل بحله عَن بَعضهم وَلَيْسَ فِي أَقْوَال هَؤُلَاءِ حجَّة الْبَتَّةَ وَلَا يجوز لأحد أَن يعْمل بأقوالهم فَإِنَّهُم لم يَأْتُوا بِدَلِيل يدل على الْجَوَاز فَمن زعم مِنْهُم أَنه فهم ذَلِك من الْآيَة فقد أَخطَأ فِي فهمه فقد فَسرهَا لنا رَسُول الله ﷺ وأكابر أَصْحَابه بِخِلَاف مَا قَالَه هَذَا المخطيء فِي فهمه كَائِنا من كَانَ وأينما كَانَ وَمن زعم مِنْهُم أَن سَبَب نزُول الْآيَة أَن رجلا أَتَى امْرَأَته فِي دبرهَا فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يدل على أَن الْآيَة أحلّت ذَلِك وَمن زعم ذَلِك فقد أَخطَأ بل الَّذِي تدل عَلَيْهِ الْآيَة أَن ذَلِك حرَام فكون ذَلِك هُوَ السَّبَب لَا يسْتَلْزم أَن تكون الْآيَة نازلة فِي تَحْلِيله فَإِن الْآيَات النَّازِلَة على أَسبَاب تَأتي تَارَة بتحليل هَذَا وَتارَة بِتَحْرِيمِهِ
١٣ - بَاب مَا نزل فِي الْإِيلَاء من النِّسَاء
﴿للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر فَإِن فاؤوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم وَإِن عزموا الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر﴾ الْإِيلَاء أَن يحلف أَن لَا يطَأ امْرَأَته أَكثر من أَرْبَعَة أشهر فَمَا دونهَا فَإِن حلف على أَرْبَعَة أشهر فَمَا دونهَا لم يكن مؤليا وَكَانَت يَمِينا مَحْضَة وَبِهَذَا قَالَ
1 / 31
مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَقَالَ الثَّوْريّ وَأهل الْكُوفَة الْإِيلَاء أَن يحلف على أَرْبَعَة أشهر فَصَاعِدا وَقَالَ أبن عَبَّاس لَا يكون مؤليا حَتَّى يحلف أَن لَا يَمَسهَا أبدا وَلَفظ من نِسَائِهِم يَشْمَل الْحَرَائِر وَالْإِمَاء إِذا كن زَوْجَات وَكَذَلِكَ يدْخل تَحت قَوْله يؤلون العَبْد إِذا حلف من زَوجته قَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر إيلاؤه كَالْحرِّ وَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة إِن أَجله شَهْرَان وَقَالَ الشّعبِيّ إِيلَاء الْأمة نصف إِيلَاء الْحرَّة
والتربص التأني والتأخر وَإِنَّمَا وَقت الله بِهَذِهِ الْمدَّة دفعا للضرار عَن الزَّوْجَة وَقد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يؤلون السّنة والسنتين وَأكْثر من ذَلِك يقصدون بذلك ضرار النِّسَاء وَقد قيل إِن الْأَرْبَعَة الْأَشْهر هِيَ الَّتِي لَا تطِيق الْمَرْأَة الصَّبْر عَن زَوجهَا زِيَادَة عَلَيْهَا ﴿فَإِن فاؤوا﴾ أَي رجعُوا فِيهَا أَو بعْدهَا عَن الْيَمين إِلَى الْوَطْء وللسلف فِي الْفَيْء أَقْوَال هَذَا أولاها لُغَة وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الرُّجُوع إِلَيْهِ ﴿فَإِن الله غَفُور رَحِيم﴾ ﴿وَإِن عزموا الطَّلَاق﴾ فِيهِ دَلِيل على أَنَّهَا لَا تطلق بِمُضِيِّ أَرْبَعَة أشهر كَمَا قَالَ مَالك مَا لم يَقع إنْشَاء تطليق بعد الْمدَّة ﴿فَإِن الله سميع عليم﴾ يَعْنِي لَيْسَ لَهُم بعد تربص مَا ذكر إِلَّا الْفَيْء أَو الطَّلَاق
وَلَا يخفى عَلَيْك أَن أهل كل مَذْهَب قد فسروا هَذِه الأية بِمَا يُطَابق مَذْهَبهم وتكلفوا بِمَا لم يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ وَلَا دَلِيل آخر وَمَعْنَاهَا ظَاهر وَاضح وَهُوَ أَن الله جعل الْأَجَل لمن يؤلي أَي يحلف من امْرَأَته أَرْبَعَة أشهر ثمَّ قَالَ فَإِن فاؤوا أَي رجعُوا إِلَى بَقَاء الزَّوْجَة واستدامة النِّكَاح فَإِن الله لَا يؤاخذهم بِتِلْكَ الْيَمين بل يغْفر لَهُم ويرحمهم وَإِن وَقع الْعَزْم مِنْهُم على الطَّلَاق وَالْقَصْد لَهُ فَإِن الله سميع لذَلِك عليم بِهِ فَهَذَا معنى الْآيَة الَّذِي لَا شكّ فِيهِ وَلَا شُبْهَة فَمن حلف أَن لَا يطَأ امْرَأَته وَلم يُقيد بِمدَّة أَو قيد بِزِيَادَة على أَرْبَعَة أشهر كَانَ علينا إمهاله أَرْبَعَة أشهر فَإِذا مَضَت فَهُوَ بِالْخِيَارِ
1 / 32
إِمَّا أَن يرجع إِلَى نِكَاح امْرَأَته وَكَانَت زَوجته بعد مُضِيّ الْمدَّة كَمَا كَانَت زَوجته قبلهَا أَو يطلقهَا وَكَانَ لَهُ حكم الْمُطلق لامْرَأَته ابْتِدَاء وَأما إِذا وَقت بِدُونِ أَرْبَعَة أشهر فَإِن أَرَادَ أَن يبر فِي يَمِينه اعتزل امْرَأَته الَّتِي حلف مِنْهَا حَتَّى تَنْقَضِي الْمدَّة كَمَا فعل رَسُول الله ﷺ حِين إِلَى من نِسَائِهِ شهرا فَإِنَّهُ اعتزلهن حَتَّى مضى الشَّهْر وَإِن أَرَادَ أَن يطَأ امْرَأَته قبل تِلْكَ الْمدَّة الَّتِي هِيَ دون أَرْبَعَة أشهر فِي يَمِينه وَلَزِمتهُ الْكَفَّارَة وَكَانَ ممتثلا لما صَحَّ عَنهُ ﷺ من قَوْله
من حلف على يَمِين فَرَأى غَيره خيرا مِنْهُ فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه وَالله أعلم
١٤ - بَاب مَا نزل فِي عدَّة المطلقات ودرجة الرِّجَال عَلَيْهِنَّ
﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن إِن كن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك إِن أَرَادوا إصلاحا ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة وَالله عَزِيز حَكِيم﴾
قَالَ تَعَالَى ﴿والمطلقات﴾ أَي المخليات من حبال أَزوَاجهنَّ والمطلقة هِيَ الَّتِي أوقع الزَّوْج عَلَيْهَا الطَّلَاق ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء﴾ تمْضِي من حِين الطَّلَاق فَتدخل تَحت عُمُومه الْمُطلقَة قبل الدُّخُول ثمَّ خصصت بقوله تَعَالَى ﴿فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها﴾ سُورَة الْأَحْزَاب فَوَجَبَ بِنَاء الْعَام على الْخَاص وَخرجت من هَذَا الْعُمُوم الْمُطلقَة قبل الدُّخُول وَكَذَلِكَ خرجت الْحَامِل بقوله تَعَالَى ﴿وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ﴾ الطَّلَاق ٤ وَكَذَلِكَ خرجت الْآيَة بقوله تَعَالَى ﴿فعدتهن ثَلَاثَة أشهر﴾ سُورَة الطَّلَاق
1 / 33
والتربص الِانْتِظَار قيل هُوَ خبر فِي معنى الْأَمر أَن ليتربصن قصد بِإِخْرَاجِهِ مخرج الْخَبَر تَأْكِيد وُقُوعه وزاده تَأْكِيدًا وُقُوعه خَبرا للمبتدأ قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ وَهَذَا بَاطِل وَإِنَّمَا هُوَ خبر عَن حكم الشَّرْع فَإِن وجدت مُطلقَة لَا تَتَرَبَّص فَلَيْسَ ذَلِك من الشَّرْع وَلَا يلْزم من ذَلِك وُقُوع خبر الله سُبْحَانَهُ على خلاف مخبره
والقروء جمع قرء وَمن الْعَرَب من يُسَمِّي الْحيض قرءا وَمِنْهُم من يُسَمِّي الطُّهْر قرءا وَمِنْهُم من جَمعهمَا جَمِيعًا فيسمي الْحيض مَعَ الطُّهْر قرءا وَالْحَاصِل أَن الْقُرْء فِي لُغَة الْعَرَب مُشْتَرك بَين الْحيض وَالطُّهْر وَلأَجل ذَلِك الِاشْتِرَاك اخْتلف أهل الْعلم فِي تعْيين مَا هُوَ المُرَاد بالقروء الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة فَقَالَ أهل الْكُوفَة هِيَ الْحيض وَقَالَ أهل الْحجاز هِيَ الْأَطْهَار وَاسْتدلَّ كل وَاحِد بأدلة على قَوْله وَعِنْدِي أَنه لَا حجَّة فِي بعض مَا احْتج بِهِ أهل الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَيُمكن أَن يُقَال إِن الْعدة تَنْقَضِي بِثَلَاثَة أطهار أَو بِثَلَاث حيض وَلَا مَانع من ذَلِك فقد جوز جمع من أهل الْعلم حمل الْمُشْتَرك على معنييه وَبِذَلِك يجمع بَين الْأَدِلَّة ويرتفع الْخلاف ويندفع النزاع
﴿وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن﴾ قيل المُرَاد بِهِ الْحيض وَقيل الْحمل وَقيل كِلَاهُمَا وَوجه النَّهْي عَن الكتمان مَا فِيهِ فِي بعض الْأَحْوَال من الْإِضْرَار بِالزَّوْجِ وإذهاب حَقه فَإِذا قَالَت الْمَرْأَة إِنَّهَا حَاضَت وَهِي لم تَحض ذهبت بِحقِّهِ من الارتجاع وَإِذا قَالَت إِنَّهَا لم تَحض وَهِي قد حَاضَت ألزمته من النَّفَقَة مَا لم يلْزمه فأضرت بِهِ وَكَذَلِكَ الْحمل رُبمَا تكتمه لتقطع حَقه من الارتجاع وَرُبمَا تدعيه لتوجب عَلَيْهِ النَّفَقَة وَنَحْو ذَلِك من الْمَقَاصِد المستلزمة للإضرار بِالزَّوْجِ وَقد اخْتلفت الْأَقْوَال فِي الْمدَّة الَّتِي تصدق فِيهَا الْمَرْأَة إِذا ادَّعَت انْقِضَاء عدتهَا وَفِيه دَلِيل على قبُول قولهن فِي ذَلِك نفيا وإثباتا
1 / 34