بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
[مقدمة الكتاب]
الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي سدد فأرشد إلى الإيمان والإسلام، وأطلق بتوحيده وتمجيده الأنام وأضراب الأعلام.
والصلاة والسلام التامان الأكملان على سيدنا ونبينا ومولانا محمد الآتي بالهدى والإيمان، والآيات الواضحات البيان، الناسخ بدينه القويم كل الأديان، والرضى عن آله وأصحابه الأبرار وعن التابعين لهم بإحسان.
أما بعد، بعد حمد الله تعالى وترديد الصلاة على سيدنا ومولانا محمد يتكرر ويتوالى. فيقول العبد المعترف بما آتاه المغترف من فيض نعماه ورحماه، عبد الحق الإسلامي، وفقه الله وسدده وهداه وأرشده الله تعالى وله الحكمة فيما قدر وقضى: كان أطلعني منذ ستة عشر سنة على الحق الذي لا يشك فيه عاقل ولا يرتاب فيه إلا أهل الباطل، وهو الإيمان بسيدنا ونبينا ومولانا محمد ﷺ والاقتداء به في جميع الأحكام، وكان من
1 / 25
حكمته أن قدر علي بكتمانه وإخفائه وعدم إفشائه وإبدائه إلى أن وفقني الله وألهمني (ونبهني وأفهمني) أن هذا القدر لا يكفيني ولا يخلصني، بل الواجب علي (في ذلك) إذاعة توحيده والنطق بتنزيهه وتحميده وإشاعة الإيمان برسوله سيدنا محمد ﷺ. فبادرت إلى [ما] يجيرني من العذاب الأليم ويقربني من جنات النعيم، فقلت معلنا بكلمة التوحيد ناطقا بالتنزيه والتمجيد:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
ثم أسلم على يدي بحمد الله تعالى جميع أهلي وولدي وكل من سبقت له السعادة ممن كان يلازمني، وكل ذلك ألطاف من الله سبقت، ورحمة منه قد عمت وشملت، ورأفة سددت عبيده إلى طريق هداه (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله). فله الحمد والشكر، وله الخلق والأمر، وبيده الخير والشر (والنفع والعز)، يضل من يشاء ويهدي من يشاء. لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.
ولما قدر الله ﷾ بما قضى به علي من الإسلام والدخول في دين خير خلقه ﵇، أشار علي بعض طلبة مدينة سبتة أعزهم الله تعالى وحرسها أن أؤلف جزءا في بيان ما هم عليه اليهود لعنهم الله تعالى من الضلالة والكفر الشنيع والشرك بالله البشيع، وما هم يعتقدونه من الكذب المحض في إنكار نبوة سيدنا ومولانا محمد ﷺ، فيكون إن شاء
1 / 26
الله تعالى ماحيا لاعتقادهم محوا لآثار فسادهم، وانا استعنت بالله تعالى الذي لا إله إلا هو على ما أشير به علي مع قصد التقرب إلى الله تعالى، مستدلا عليهم بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة مما يدل على فساد عقولهم ويؤذن بجرأتهم وعدم أدبهم (في مقولهم) واقتصرت على ما في كتبهم المبدلة مما لا يسعهم إنكاره ولا النزاع فيه بوجه ولا حال، فيكون أنكد الهم وأبلغ في الحجة عليهم وأحرى في الاستدلال. وجعلت ما هو في التوراة بزعمهم أو في غيرها من كتبهم وتواليفهم من النصوص بالعبرانية مكتوبا بالأحمر، وشرحها بالمداد الأكحل، على حسب تفسير قدمائهم وشرح علمائهم، واني لأستغفر الله من حكاية كفرهم وبشاعة نظرهم وبينته على الإيجاز والاختصار من غير بسط ولا إكثار. وسميته "الحسام الممدود في الرد على اليهود"، وها أنا قد شرعت فيما به وعدت، وبالله أستعين وهو الموفق المعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فنقول إن الكلام ينحصر معهم في خمسة أبواب:
• الباب الأول: في تقرير المواضع التي في كتبهم الدالة على ثبوت نبوة سيدنا ونبيا ومولانا محمد ﷺ، وأنه مرسل لكافة الخلق.
• الباب الثاني: في نسخ شريعته لجميع الشرائع.
• الباب الثالث: في وقوعهم في الأنبياء والمرسلين ﵈ وملوكهم ومن ليس منهم.
1 / 27
• الباب الرابع: فيما في توراتهم المبدلة من الشرك والتجسيم والتبديل والتغيير مما تغلق منه الآذان وينزه عنه الواحد الأحد الفرد الصمد الرحيم الرحمن.
• الباب الخامس: فيما في كتبهم من تعظيم النبي ﷺ في صلواتهم ومن أسراره ومعجزاته وآياته وأمرائه.
1 / 28
الباب الأول: في تقرير المواضع الدالة على صحة نبوءة سيدنا ومولانا محمد ﷺ وثبوتها
اعلم وفقني الله وإياك أن اليهود لعنهم الله أنكروا نبوءة سيدنا محمد ﷺ وبالغوا في ذلك كل المبالغة جحدا منهم وطغيانا وكفرا، وأنه ﷺ لثابت عندهم في كتبهم راسخ في دواوينهم. (ومن يضلل الله فما له من هاد). ونحن نستعين بالله في الرد عليهم وبطلان ما يوافقون عليه ولا ينكرونه، بل ولا يقد رون على إنكاره. وانما أرميهم بأحجارهم وآخذهم بإقرارهم وأستخرج ذلك من كتبهم المنزلة بزعمهم، وعددها أربعة وعشرون كتابا.
فأول ذلك ما في الكتاب المسمى ملاخم الذين ينسبونه لليسع ﵇ في قصة سلطان بني إسرائيل المسمى عندهم أحأب، وكان من كبار ملوك بني إسرائيل، وكان معتقدا لدين محمد ﷺ، وكان اليهود يكفرونه حينثذ واستمروا على ذلك حتى الآن. وحكي أنه جاءه ملك من ملوك الروم اسمه ابن هدد بجيوش لا يعلم عددها إلا الله الذي خلقها، ومعه اثنان وثلاثون سلطانا وحصروه بمدينة سمرون، وبعث إليه إرسالا وطلب منه أن يعطيه جميع ما
1 / 29
لديه من الذهب والفضة وأولاده ونسائه رهنا، وطلب منه العلم الذي كان يقاتل به وكان مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان يغلب به في الحروب كلها فأجاب إلى كل ما دعاه إليه من المال والأولاد إلا العلم المذكور. ونص ما في كتاب ملاخم:
«كِي إِمْ كعثْ مَحَرْ اشْلٍحْ إثْ عَبْدَيْ إِلْيخَ وَحبْشوا إثْ بشِيخَ وَإِثْ يَتِي عَبْجَ َيَسخْ وَهَيَا محمد عَيَنَيخَ يَسِيمُوْا بِيدَمْ وَلَقَاضْواْ.» (١)
شرحه:
إذا كان غدا أرسل إليك عبيدي يفتشون بيتك وبيوت عبيدك، وحيث ما كان محمد عنايتك يجعلوه في أيديهم ويأخذونه منهم. يعني العلم الذي فيه اسم محمد ﷺ يأخذوه عبيدي من أيديكم ويزيلوا انتصاركم به، فلما قرأ الملك أحأب الرسالة اجتمع مع أشياخ اليهود وأحبارهم وقرأ عليهم الرسالة واستشارهم في أمرها، فأجمعوا قاطبة على أن يعطوا ما بأيديهم من الذهب والفضة والأولاد رهنا. ولم يوافق أحد منهم على إعطاء العلم المذكور واخراجه من أيديهم، فبعث الملك أحأب إلى ملك الروم بما اتفقوا عليه فغضب وأبى إلا العلم وحلف ليخربن ديارهم ويغصب أموالهم ويسبي أولادهم وعيالهم ويقتل رجالهم، فتشفع له أحأب بالنبي محمد ﷺ فلم يقبل الشفاعة وصمم على يمينه وبنى على هلاك أحأب وكل من معه. فجاءه نبي من أنبياء ذلك العصر وقال له لا تخف توكل على الله سبحانه وعلى نبيه محمد ﷺ،
_________
(١) ١ الملوك ٢٠: ٦
1 / 30
ينصرك على هؤلاء الملوك ويعينك على هزمهم فإن الله تعالى لا يضيع من آمن بمحمد واعتقد دينه ومذهبه. فخرج إليهم أحأب وقاتلهم فأعانه الله عليهم فغلبهم وفروا بين يديه هاربين وانقلبوا في صفقتهم خاسرين، واشتهرت هذه الحكاية عند أهل ذلك العصر، فآمن منهم بالله من سبقت له السعادة عند الله. وهذا الملك أخأب عند اليهود لعنهم الله من أعظم الكفار لكونه آمن بمحمد ﷺ واعتقد دينه ومذهبه. قال الله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا).
وهذا الملك أحأب مات مسلما حسبما شهدت بذلك نصوصهم. «وهملِيخٍ هَيَّا محمد بَمرٍ كَبَا نَخَحْ أَرَمْ»
شرحه:
والملك كان يذكر محمدا ويقاتل الروم. فتأمل هذا الذي ذكرت لك فإن فيه أدلة شافية على كذبهم:
* منها: أن النبي ﷺ مذكور في كتبهم وهم ينكرونه جحدا منهم للحق الذي لا شك فيه.
• ومنها: أنهم يعلمون ويتحققون أن نصرة أحأب على ملك الروم إنما كانت بسبب إيمانه بالنبي ﷺ وبوسيلة المشفع به إلى الله تعالى.
1 / 31
• ومنها: أن هذا الملك أحأب كان عظيمهم وسيدهم فلما آمن بمحمد ﷺ كفروه، فناهيك من قوم يصممون على الكفر ويتبعون أهواءهم (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله).
وهذا الذى ذكرنا عنهم يشبه بالنظر ما يأتي من اعتقادهم الفاسد.
فصل
يتضمن ذكر محمد ﷺ باسمه الذي لا ريب فيه. من ذلك نص ما في كتاب هويشع وهو:
«مَا تعَسُواْ لِيُومْ مُوعِدْ وَلِيَوْمِ حَغْ أُذْنَيْ كِي هِنِّي هلخُواْ مِشَوَدْ مِض لايَمْ تَقِيمِيمْ مُود تغيرم محمد كَخْسِيم كِؤُس جِيرَسِم حُوِح، بِأهْلِيِهم.» (١)
شرحه:
أي شيء تعملون، أم كيف يكون حالكم في اليوم الموعود وفي اليوم المشهود، ما زلتم تسلكون وتنتقلون من نحس إلى نحس. المصريون أسروكم والروم قتلوكم ومحمد يسبي أموالكم والكؤس يطردونكم والشوك في أخبيتكم.
ومصدق هذا الكلام: التقرير والتوبيخ وتعداد ما نزل بهم من المكروهات وكأنه يقول لهم: لا بد لهم أن يذهب رسمهم وآثارهم حتى لا يبقى منهم أحد، ومحمد ﷺ وأمته هم المسلطون عليهم، بسبب كفرهم وانتقالهم من فساد إلى أفسد منه، وهذا معنى قوله: إنهم يسلكون من نحس إلى نحس، و"محمد كخسيم" معناه: أن النبي ﷺ يأمر بتغريمهم المال. والكؤس قبيلة من العرب. وحوح
_________
(١) هوشع ٩: ٥ - ٦
1 / 32
معناه: الشوك، أي أن أمة محمد ﷺ يزيلونهم ويمحون آثارهم لأنهم عندهم بمنزلة الشوك لا منفعة فيه ويبعد المرء عنه، كذلك هم لا منفعة فيهم لأمة محمد ﷺ بل إنهم مضرة مجردة من النفع. وهذا الذي قرر يؤيده ما بعده من النص وهو:
«بأويمي هغوه بأويمي هشلوم إويل هني مشجع إش هروح عَل رَوبِ عُونَن وَرَبَّهُ مسطِينمَه».
شرحه:
وصلت ليلة المطالبة، وصلت ايام الانتصاف بسبب وقوعكم في النبي ﷺ، قلتم إنه جاهل، وقلتم إنه أحمق مَرياح، وهذا أعظم ذنوبكم وبه كثر الحقد عليكم ووجب بغضكم وعداوتكم. وفى هذه الجملة أدلة عليهم:
أحدها: أن النبي ﷺ موجود فى كتبهم كما فى النص الذي قبل هذا.
الثاني: أن نصهم أخبر أنه لا بد لأمة محمد ﷺ من أخذ أموالهم بسبب كفرهم، وهذا النص مما لا يبدلونه، والله أعلم، لأن ذلك موجود وما زال المسلمون يضربون عليهم الجزية ويأخذونها منهم عن يد وهم صاغرون.
الثالث: أن كتبهم مبدلة لا محالة، ولا ينبغي لعاقل أن يشك في ذلك لأنه يستحيل أن يكون فى كتاب الله المنزل سب رسول الله ﷺ.
الرابع: أن هويشيع المذكور كان قبل النبي ﷺ مع أنه أخبر به وصرح باسمه وأنه محمد، والإخبار بالشيء قول كونه قاطع بصحة ذلك
1 / 33
الشيء لأنه إخبار بما سيكون، والإخبار بما سيكون إنما يكون بإذن الله ﷿، إذ لا يعلم ما في السموات وما في الأرض الغيب إلا الله،. وما أخبر به ﵎ حق لا يرتاب فيه مؤمن بالله، فالنبي محمد ﷺ حق والتصديق به واجب. وهذه أدلة كافية في الرد عليهم، كيف وقد وقعوا فيما هو أمر وأدهى، وسياتي ذكر كله مفسرا إن شاء الله تعالى.
فصل
يتبين فيه ذكر النبي ﷺ في التوراة والزبوز وغيرهما من كتبهم، تارة باسم أحمد وتارة باسم محمد مستخرجا ذلك من كتبهم بحروف أبجد حسبما هو اصطلاحهم في ذلك. فمنه: ما وقع في أول سورة من التوراة ونصه:
«وياعس ألوهيم إث تنبيه هيروت هجر وليم».
شرحه:
وخلق الله النورين العظيمين. وقوله: "هجر وليم": عدده ثمانية وتسعون، يختص منها اسم محمد ﷺ باثنين وتسعين، والستة الباقية من العدد ليوم الجمعة سادس الأيام. فتفهم أرشدنا الله تعالى وإياك أن هذا بدل من نص أخر كان في موضعه، وبدل منه بعد
1 / 34
بعث الرسول ﷺ، وإنما كان النص الاول يشير إلى أن الله ﵎ لم يخلق النورين العظيمين، وهما: الشمس والقمر، إلا من نور سيدنا ومولانا محمد ﷺ، وأنه الذي نسخ يوم السبت بيوم الجمعة، فبدل حينئذ النص الحاسدون الظالمون من علمائهم لعنهم الله، وجعلوا في هذا النص المبدل لفظة تدل على ذلك وهي: "هجر وليم" بزعمهم أن محمدا يكون منهم، هكذا هو مفسر في كتاب مضمون عندهم لعنهم الله. وسيأتي مثل هذا كثير إن شاء الله تعالى.
واعلم أرشدك الله أن حساب أبجد قاعدة من قواعدهم وعليها مدار دينهم في فرائضهم وسننهم، وهذا مما لا ينكرونه قط، لا بوجه ولا بحال.
فصل
يتبين فيه أن في توراتهم في الحزب الأول منها أن الله تعالى أخبر أن أحمد يدخل الجنة قبل الخلق، ونص ذلك:
«ويصلع أدني أبوهيم جن بعيدن مقدم». (١)
شرحه:
ويدخل السيد أحمد الجنة قبل الخلق. يدل على ذلك لفظة: جن، إذ عدده ثلاثة وخمسون كما هو أحمد، فإذا قالوا: مدلول جن إنما هو جنة، قلنا لهم: هذا يؤول إلى أن يكون معنى الكلام: يدخل الله الجنة في الجنة قبل الخلق، وهذا تفسير غير معقول ينزه كلام الله تعالى [عنه]. فأحد
_________
(١) التكوين ٢: ٨
1 / 35
الأمرين لازم: إما أنه ليس من كلام الله تعالى، وإما ثبوت أن النبي ﷺ في كتبهم. وأيهما كان فهو المطلوب.
فصل
يتبين فيه أن الله ﷾ بشر أبانا إبراهيم ﵇ بأن من ابن هاجر، وهو إسماعيل، يخرج محمد ﷺ. والنص عندهم في ذلك:
«وليشيمعيل شمغثيخ ببني رحمتي أوثو ومريثسي أثو بماد ماد هينيم علسر نسيم يولذ وننثين تجوي جدول.» (١)
شرحه:
ودعوتك لإسماعيل مقبولة فأبارك فيه وأكبره وأنميه وأخرج منه محمدا. ويدل على اسم محمد ﷺ قوله: «بماد ماد» لأن عدده اثنان وتسعون، ومحمد كذلك، وهذا مما يدل أنه ﷺ موجود في كتبهم، وهم ينكرونه.
فصل
يتبين فيه أن آدم ﵇ إنما خلقه الله سبحانه بسبب محمد. ونص ما ورد من ذلك في الحزب الأول من التوراة:
«ويأمر أذني ألوهيم هن هادم هيه كاحد ممنوا.»
شرحه:
وقال الله: إنني أخلق آدم ليخرج من ظهره أحمد ويكون كأحدكم. قال علماؤهم: يعني في الرتبة وأعلى. يدل على أحمد "هيه كاحد"
_________
(١) التكوين ١٧: ٢٠
1 / 36
عدده ثلاثة وخمسون، وأحمد كذلك. وهذه القاعدة قد قررنا أنها من قواعدهم وأصولهم مما يبنون عليها فرائضهم في أكثر مسائل دينهم، وأنهم بدلوا ما كان من النصوص في هذا المعنى حسدا منهم لعنهم الله وأذلهم. وإن أرادوا نقض هذه القاعدة؛ قالوا: لا تستعمل في هذا المحل. قلنا لهم: تخصيصهم هذا المحل وما أشبهه بعد الاستعمال تخصيص من غير مخصص وهو باطل، وهم دائرون بين شيئين: إما رفض جميع ما بنوا على هذه القاعدة أو استعمالها فيما ذكرنا، وأيهما كان فهو مقو لمطلوبنا ومنتج لدليلنا. ثم نولد عليهم سؤالا ونقول لهم: أنتم مقلدون لعلمائكم، متبعون لهم في أقوالهم وأفعالهم فأتونا بنص من موضوعاتهم ينبئ بأن هذه القاعدة لا تستعمل في هذا المحل. فما لهم جواب عن هذا أصلا إذ لم ينص أحد من أحبارهم على ما راموه. واذا علم النص وجب الرجوع إلى القاعدة الأولى والانقياد إليها، وهو واضح لا ينازع فيه إلا مكابر جاهل. والتوفيق بيد الله.
فصل
يذكر فيه أن محمدا ﷺ خير خير من كل ما خلق الله، وصلواته خير من كل الصلوات، ونص ما في التوراة من ذلك في الحزب الأول منها:
«اوير ألوهيم إث كل أشر جسا وهته طوب ماد.» (١)
شرحه:
وعلم الله كل ما خلق، وأن خيرهم أحمد، والخمس صلوات والجمعة والعيدان. ويؤخذ ذلك من قوله: وهته. لأن عدده ستة وستون
_________
(١) التكوين ١: ٣١
1 / 37
منها لأحمد ثلاثة وخمسون، وللجمعة ستة لأنها سادس الأيام، وخمس للخمس صلوات، واثنان للعيدان. وهذا فصل حسن مظهر لما فيه من العهد لإنكار محمد ﷺ وما جاء به. ولو أنهم نظروا لأنفسهم بعين البصيرة وتبصروا في لفظه: "وهته" التي في توراتهم وبحثوا عن تفسيره وكيف كان النص قبل تبديله وأجروه الآن على عادتهم فيهتدون إلى الحق المستقيم ويتعبدون بالدين القويم. وما زلت أتكلم معهم قبل إسلامي وأبين لهم ما قررته الآن فيخرسون ولا يجيبون بشيء. فإذا قيل هذا الفصل لا يتضمن اتباع شريعته ﷺ ولا أنها ناسخة لكل الأديان. قلنا: نعم ولكن المقصود الأعظم من هذا الفصل إنما هو الإقرار بمحمد ﷺ مذكور في كتبهم، وأما كون شريعته ناسخة لجميع الشرائع فيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. واذا سألت عن هذا فلا بد من البحث معك فيه. فنقول:
إن قولهم في النص: خيرهم أحمد يقتضي أنه أفضل الخلق، ولكن هذه الصيغة لا تدل على عدم فضيلة المفضول بل تدل على فضيلته، ونحن نقول بفضيلة الأنبياء ﵈ وأن محمدا هو أفضلهم، وما جاء به أفضل مما جاء به غيره.
فصل
يذكر فيه رسول الله ﷺ وأنه من ذرية إبراهيم ﵇، والنص في ذلك من التوراة:
«ويومر أدني إل إبرم لخ لخ مئوصخ ومئمرار تخ ومبت أبيخ إل هارص أشر إرايك وإيمسخ لجوي جدول، وأبارصخ واعدالاه شميخ وهي
1 / 38
براخه، وأبرخس مبار خبخه وممللخ أوور وثبار فخه كل مشجيوت هادما.» (١)
شرحه:
وقال الله لإبراهيم: امض من بلادك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، وأخلق من ذريتك محمدا، وأبارك فيه وأعظم اسمه. وسيكون بركه وأبارك فيمن يتبرك به، وألعن من سبه. (ويعظمه الأكثر من مخلوقات العالم).
وهذا فصل بديع باتر لحججهم، لأن هذه الأوصاف لم توجد إلا في النبي ﷺ، والبركة والحمد ظاهرة في أمته. وما من اسم أعظم من اسمه ﷺ. وهؤلاء اليهود لعنهم الله الطاعنون عليه قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ولعنوا أين ما كانوا. وهذا الموضع من النص لا يصلح أن يكون فيه إلا محمد ﷺ ولا يليق بهذا المحل غيره. ولا يمكن لفظ يعني بعدد "لجوي جدول" إلا محمد ﷺ. وقد بينا أن هذه قاعدة من قواعدهم بما يغني عن التكرار.
فصل
من نوع ما تقدم، ويذكر فيه قضية إبراهيم مع الخمسة ملوك الذين سبوا لوطا، وأن الله تعالى أوحى إليه بأنه لا يخاف لأن محمدا عضده وترسه. والنص في ذلك في السفر الأول من التوراة:
«هيا دبر أدني إل ابرم بامجديني ليموز أن تيرا أبرم أنوخي مجن لخ صخار خاصر بي ماد.» (٢)
_________
(١) التكوين ١٢: ١ - ٣
(٢) التكوين ١٥: ١
1 / 39
شرحه:
كان خطاب الله لإبراهيم في الوحي أن قال له: لا تخف يا إبراهيم، أنا ومحمد ترس لك. ويدل على ذلك لفظ مَجَن الذي في النص لأن عدده ثلاثة وتسعون، لاسم محمد اثنان وتسعون والواحد الباقي من العدد للواحد الباقي سبحانه الفرد الصمد، ويدل أيضا أنه ﷺ أشرف الخلق وأفضلهم وأعلاهم لأن الله تعالى هدن روعته، أعني إبراهيم ﵇، بأنه هو ومحمد ﷺ ترس له، لا سيما وهو لم يكن في الوجود، فمن رزقه الله شيئا من العقل ونظر في مثل هذا وتأمله لا شك أنه يرجع إلى الحق وينقاد إلى الطريقة المثلى، ومن سبق له الشقاء والعياذ بالله فلا ينفعه عقله بشيء، بل يضره كل الضرر ويزين له سوء عمله فيراه حسنا. نعوذ بالله من الخذلان ونسأله العفو والغفران وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فصل
يذكر فيه لما خلق الله ﷾ إسحاق ﵇ أخذت سارة غيرة، فما زالت تحاول على إبراهيم حتى انتقل بهاجر إلى مكة مع ولدها إسماعيل. وكان ذلك سابقا في علم الله أن إسماعيل يتربى في مكة ليخلق هناك محمد ﷺ، فلما صرفها إلى مكة تاهت في الطريق وعطش إسماعيل فبعث الله إليها ملكا وأراها ماء زمزم وقال لها: قومي ارفعي ابنك إسماعيل وسيخرج منه محمد ﷺ. والنص في ذلك من التوراة:
«قومي سات إث هنعر يحيى لجوي جدول اسمي.» (١)
_________
(١) التكوين ٢١: ١٨
1 / 40
شرحه:
ارفع الغلام إن محمدا يخرج منه. يدل على ذلك قوله لجوي جدول. وهذا أيضا دليل واضح عليهم لا يفتقر إلى بيان لوضوحه فافهمه.
فصل
يذكر فيه أن إبراهيم ﵇ أنه كان يصلي بمكة حسبما شهدت بذلك نصوصهم فمن ذلك:
«ويسع أبرم هلوخ ونسوع هنجبه.»
شرحه:
وكان إبراهيم ﵇ في أكثر رحيله إنما يرحل إلى مكة، وقوله في النص "هنجبه": عدده مكة، فإن قيل ما الدليل في هذا النص؟ فالجواب أن اليهود لعنهم الله يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وأنهم أولى بها من غيرهم. وإبراهيم ﵇ كان يصلي بمكة ويرحل إليها، وهؤلاء اليهود لعنهم الله تعالى ودمرهم لا يذكرون مكة بشفة ولا بلسان، فقد تناقض قولهم مع حالهم واختلوا، وصارت دعاويهم مجردة لا يوافقها عملهم. وقد دل النص أنهم إذا غير متبعين لإبراهيم. والمسلمون وفرهم الله تعالى متبعون له، وما من أمة تسير إلى مكة وتعمل الرحلة إليها وتعتني بها إلا أمة محمد ﷺ (فهم المتبعون لإبراهيم وعلى ملته حقيقة والله ولي التوفيق).
1 / 41
الباب الثاني: في نسخ دينه ﵊ لجميع الأديان
يتبين فيه أن الله ﷾ قال لموسى ﵇ سأبعث نبيا من قرابة بني إسرائيل واسمه محمد وأنسخ بشريعته شرائعهم وننسخ السبت بيوم الجمعة والنص في ذلك:
«نبيء أقيم لهم مقرب أخيهم كموخ ونتتي دبري يفح ودبر إليهم إث كل ابشرا موض بنؤا.»
شرحه: سيقوم نبي (من قرابة إخوان بني إسرائيل وهو نبي) مثلي وأجعل خطابي فيه ويتكلم بجميع ما آمره به.
ويدل على اسم محمد قوله في النص: "يفح" إذ عدده ثمانية وتسعون يختص منها اسم محمد ﷺ باثنين وتسعين والباقي يدل على الجمعة، لأنها في سادس الأيام. وهذه الجملة تدل أن دينه ﵇ ناسخ لجميع الأديان ولذلك أتينا بهذا الباب عقب الباب الأول على أنه ﷺ موجود في كتبهم، لأنه ربما قالوا في الباب الأول إنا نسلم أنه موجود في كتبنا ولا نسلم أن دينه ناسخ لجميع الأديان،
1 / 42
فيستدل عليهم بهذا الباب. وقوله في النص هو نبيء مثلك يصح باعتبار أن كل نبي منهم كريم على الله تعالى وكون النبي محمد ﷺ أفضل الأنبياء فمعلوم مقرر ولا يحتاج إلى شيء. وقوله: وأجعل خطابي في فيه إشارة إلى أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وهو أكبر معجزاته ﷺ، وهذا يدل على تصديق استدلالنا وصحته لأنه لا نبيء بعده ولا نبيء على هذه الصفة سواه. وفيه أيضا دلالة على فضيلته ﷺ إذ ظهرت على يديه الآيات والمعجزات الخارقات للعادات، لم يظهر على يد نبي من أنبياء الله تعالى ولم يأت بها أحد منهم، مع أنه ليس من الكاتبين ولا من الحاسبين.
فصل
يتبين فيه أن موسى ﵇ قال لبني إسرائيل: احضروا بالكمر سيأتي في آخر الزمان نبي اسمه مقارن لاسم ربه فاتبعوه واسمعوا منه وأطيعوه والنص في ذلك:
«نبيء مقر وبيخ مياميخ كمويني يقيم لمخ أذني آلوهيخ إلو تسمعون.» (١)
شرحه:
نبيء من قرابة إخوانكم مثلي يبعثه الله ربكم، منه تسمعون.
وهذا أيضا يرد عليهم لأنهم يزعمون أنهم متبعون لموسى ﵇، وقد أمرهم باتباع محمد ﷺ، فلم يتبعوه، بل كفروا وضلوا عما أمرهم به، وعصوا الجميع لكونهم لم يتبعوا موسى ﵇ فيما أمرهم به ولا محمدا ﷺ فيما أخبرهم به ودعاهم إليه.
_________
(١) التثنية ١٨: ١٨
1 / 43
فصل
يذكر فيه أن في التوراة مذكور أن من لم يؤمن ويسمع من النبي ﷺ أن الله خصيمه والنص في ذلك:
«وهيامايش أشر أو بشمع إل دبر وأيشر يعبر بشمي أنوخي إدروش معمو.»
شرحه:
ويكون الشخص الذي لا يسمع من هذا النبي الذي يتكلم باسمي إني أعاقبه.
ومعنى ما وقع في الشرح أنه يتكلم باسمي، أي أنه في جميع كلامه وفي أوائل السور: بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يوجد في سائر الكتب المنزلة على الأنبياء ﵈: بسم الرحمن الرحيم إلا فيما نزل على الرسول المصطفى ﷺ.
فصل
يتبين فيه أن أشعياء النبي ﵇ ذكر في كتابه المنزل عليه بزعمهم نبوءة سيدنا محمد ﷺ وأن دينه ناسخ لجميع الأديان، ونص ما في كتاب أشعياء من ذلك:
«من عبدي إثموخ، بو نحي، وحشا نفشي لو يروص بخيهي ولو يروص عن بسيم بأرض مشبط، وكثورثر اسم ينجلو.» (١)
شرحه:
هذا عبدي اسمك فيه مصطفاي ومختاري أجبلته لجلالي لا يتقلق ولا يجري حتى يجعل في الأرض دينا ولشريعته الأمم ينتظرون.
وبيانه أن هذا النبي الذي أمر أشعياء أن يمسك فيه إنما هو محمد ﷺ لا غيره لأنه
_________
(١) أشعياء ٤٢: ١
1 / 44