الحرية
المشورة
المساواة
الحرية في الأموال
الحرية في الأعراض
الحرية في الدماء
الحرية في الدين
الحرية في خطاب الأمراء
الحرية
المشورة
المساواة
الحرية في الأموال
الحرية في الأعراض
الحرية في الدماء
الحرية في الدين
الحرية في خطاب الأمراء
الحرية في الإسلام
الحرية في الإسلام
تأليف
محمد الخضر حسين
هذه مسامرة الشيخ السيد محمد الخضر بن الحسين، أحد المدرسين بجامع الزيتونة الأعظم، والمدرس بالقسم الخامس من المدرسة الصادقية، ألقاها بنادي جمعية قدماء تلامذة الصادقية مساء يوم السبت 17 في ربيع الثاني سنة 1324 وهو يومئذ القاضي بمدينة بنزرت.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، الحمد لله الذي خلق فسوى، وجعل التمايز في مقام الكرامة بالتقوى، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أنقذنا من ذلة الشقاء، وخلع علينا لباس العزة عند اللقاء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أيها الفضلاء: إن لكل شيء سببا، ولكل غرض باعثة، والذي أخذ بيدي إلى هذا المنتدى الأدبي، وبعث عزيمتي إلى تحرير ما سنلقي عليكم بيانه أن صديقنا السيد خير الله - رئيس هذه الجمعية (جمعية قدماء تلامذة الصادقية) - خيل له ظنه الجميل أني صاحب مكانة في انتخاب جواهر الأسمار وتآليفها، على وجه يكون أقرب إلى القبول وأدعى إلى التأثير، فخاطبني على أن أضع مسامرة تنطبق على الخطة التي رسمتها الجمعية لنفسها، وأقدمها هدية إلى مسامعكم الزكية بلسان عربي وأسلوب حكيم.
تلقيت ذلك الخطاب بواسطة صحيفة من صديقي النحرير الشيخ السيد محمد الطاهر بن عاشور - رئيس هذه الحفلة الجامعة - أرسل بها إلي، حيث طوحت بي طوائح القضاء المحتوم، فاستوقفت له خاطري وقفة المتردد، واستلفت له نظري لفتة المتروي لما يرد على فكري من القضايا التي لم تبق لي مثقال ذرة من الوقت شاغرا، والشواغل التي من شأنها إذا لبست فكرة ذهبت بها في جانب يبعد عن ناحية هذا الغرض بمراحل واسعة؛ فمتى قلبته في هذا الميدان أخشى أن تقيده حبسة أو يثنيه جماح، ولا سيما حين يلج به الغوص في بعض المواضيع التي يبعد شأوها ويعلو مرتقاها.
لبثت في هذا التردد أمدا غير بعيد، فإذا أمنية تنازعني في نفسي، ولطالما نظرت إليها بعين المشوق المستهام، إن هي إلا ابتغاء الدخول في صف فتية من إخواني الأدباء كنت أسايرهم إذا أعنقوا في الآداب، وأشد كفي بعرى مرافقتهم التي ألفتها قديما، ولبثت فيها من عمري سنين، فأكره شديدا أن أسل يدي من رابطتهم، وأحجم عن مجاراتهم ما اهتديت لذلك سبيلا.
تحركت هذه الأمنية وقويت داعيتها، فأرتني الأمر قريب المأخذ، سهل التناول، حتى تخيلته موضوعا على طرف الثمام، فانقلب ذلك التردد من حينه حادي سمع ومطاوعة. وعند التفاهم مع الرئيس في موضوع المسامرة وقع الاختيار على مبحث الحرية في الإسلام. سنحت لي من بين الشواغل فرصة فانتهزتها، وأقبلت ببصري على سماء الإسلامية أقلبه في مطالعها يمينا ويسارا، وأطالع من دلائلها الصادقة ظواهر وأسرارا، حتى استضاء لي من نجومها هدى، وتنفس لي من مشارقها صباح مبين. ثم قصدت إلى سيرة الخلفاء الراشدين، وقبضت من أثرها قبضة أضفت إليها قوادح أنظار هي في الحقيقة خادمة لها، ومساعدة على إبرازها في هيئة تشملها نظرة واحدة، وإليكم مساق حديثها.
لا يمتري أحد فيما تناجيه به حاسة وجدانه من الميل إلى هذه الحياة، والحرص على استطالة أمدها؛ ومن ها هنا اشتدت به الحاجة إلى السعي في مطالبها، والتعلق بأسبابها من الغذاء والكساء والمسكن وما شاكلها، فيقتحم الإنسان المصاعب، ويعاني الشدائد في طلبها، ولا يثبطه عنها ما هو موضوع في طبيعته من الميل إلى الكسل والراحة.
وقد يجري على مخيلته اشتباه: هل الولوع بالحياة الدنيا يكون للذاتها وطبيعتها؟ أو للغايات التي يحرزها في مضمارها، والمآرب التي يتصيدها بحبالتها؟ فيدعوه هذا الالتباس إلى حركة فكرية يستنتج من وراء تدافعها أن النفوس الناطقة إنما أولعت بحب هذه الحياة، وشغفت بلذة عيشها من جهة اعتبارها مسرحا للأماني وموطنا للمساعي التي تجتني من غايتها ثمرا لذيذا، لا بالنظر لحقيقتها التي تشاركها فيها سائر الحيوانات، وهي الصفة التي تقتضي الحس والحركة.
ولا تظهر صحة هذا الاستنتاج جليا إلا بمشاهدة آثار النفوس العالية، ووضعها على محك النظر والاعتبار، فإن مدافعتها في صيانة أعراضها وحماية أموالها أو القانون الكافل بحقوقها لا تقصر عن درجة الدفاع للفوز بحياتها؛ وما ذاك إلا لما ينطوي في عقيدتها من أن كل هذه الحقائق سلاح تجاهد به في سبيل ترقياتها المدنية وسعادتها الخالصة.
وقد يجادل الرجل عن ناموس دينه وعرضه وماله بالتي هي أبلغ وأشد نظرا، إلا أن فناءه والتحافه بالتراب أكمل حالا من بقائه أعزل من الوسائل التي يدرك بها مقاما محمودا وشرفا مؤثلا، وكثيرا ما يستوحش من عصر شبابه إذا حبط سعيه سدى، وفاجأه الحرمان من اجتناء فائدة علق عليها أملا حريصا.
وربما آثر انصرام أجله إذا حاق به بلاء زرر عليه الفضاء، أو اشتدت به أزمة يبيت من أجلها متوسدا لذراع الهم والمتربة، وقد يلذ له كأس المنون إذا أرهقته علة فاقرة خدرت إحساسه، واستحال لها الماء الفرات في ذوقه ملحا أجاجا، إنما استلذ مرارة حتفه لمكان الإياس الذي ربط على قلبه، وكسر من جناحي رجائه دون البلوغ إلى الغاية، كما يسأم من حياته إذا دب في ساعده الفشل، وخالط عظامه الوهن عن القيام بواجباتها، ومن تأول قول الشاعر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
على مثل هذا الوجه لم يكن مخطئا؛ فالرغبة في الحياة تضاهي كراهتها في رجوعها إلى أمر خارج عن حقيقتها، ولكنه يرد من ناحيتها، وينال بواسطتها.
وإذا علمت نفس طاب عنصرها وشرف وجدانها أن مطمح الهمم إنما هي غاية وحياة وراء حياتها الطبيعية لم تقف بسعيها عند حد غذاء يقوتها وكساء يسترها ومسكن تأوي إليه، بل لا تستفيق جهدها، ويطمئن بها قرارها، إلا إذا بلغت مجدا شامخا يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء، قال امرؤ القيس:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشة
كفاني، ولم أطلب، قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فقوله: ولم أطلب، جملة اعترض بها بين الفعل وفاعله، وفائدتها تحقير شأن المعيشة ، وتبرئة سعيه من أن ينضي الطلب إلى ما هو أدنى، فإنها مما يحصل بغير طلب ولا عناء، وإنما الذي يحتاج إلى الطلب هو المجد المؤثل، ولا يدركه إلا العظماء من الناس.
وقد يسلب من الساعي اختياره، وينزع عزيمته عن العمل سلطة قاهرة، تسند هذه السلطة تارة إلى القدر المحتوم، والبحث عنها في هذا المقام لا يلتئم بالغرض الذي نرمي إليه، وتسند آونة إلى أفراد لم تصبغ أخلاقهم بتربية صحيحة، شأن الأمم المتوحشة، يستهوي بها حب الاستئثار بالمنافع والنفيس من الفوائد إلى أن ينال أولو القوة منها نحو أموال الذين استضعفوا ويصولوا عليها صيال الوحوش الضارية، ثم ينصرفوا بها إلى مساكنهم غير متحرجين من أوزارها، كأنما انصرفوا بتراث آبائهم وأمهاتهم، أو خصهم الله بما خلق في الأرض جميعا، كانت الفوضى بين الأمة العربية سائدة والأمن في بلادهم قبل الإسلام مختلا إذا استشاط أشداؤها غيظا، ونفخت في صدورهم البغضاء والشحناء لا يطفئونها إلا بدم مهراق، ولا يهاب الرجل منهم أن يقذف آخر بمسبة مسمومة السهام، أو يغمد سيفه مثلا في عنق رجل عظيم اعتدى على ناقة نزيل عنده، أو حليف له احتمى بجواره.
الفرد يفرغ جهده في الفرد، والجماعة تضع كلاكلها على الجماعة، ويعدون ذلك كله أثر نخوة أصابوا به المحز من معنى الحرية، أرأيت كيف قال شاعرهم يفتخر بما يأخذه من حمية الجاهلية:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم
على القوم لم أنصر أخي حين يظلم
أما قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كما في الصحيح: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما.» فغير مراد منه المعنى الذي قصده الشاعر من الاغتصاب مطلقا حقا أو باطلا. ولقد كشف عليه الصلاة والسلام عن حقيقة مراده بنفسه حين قالوا له: هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ فقال: «تأخذ فوق يده.» والمعنى تحجزه وتقيم صدره عن الظلم؛ لأنك إذا أبقيته مكبا على ظلمه واعتدائه، ولم تقبض على يده أفضى به الأمر إلى أن يعاقب بمثل ما اعتدى، فإذا منعته من الظلم وثنيت عطفه عن البغي، فقد استنقذته من عقوبة القصاص، ولا جرم أن وقايته من العقوبات نوع من النصر والإعانة. ثم إن هذه الجملة: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» أول من تكلم بها جندب بن العنبر، وأراد بها ما اعتادوه من الحمية حمية الجاهلية، فأقرها عليه الصلاة والسلام، ولكن نقلها عن موردها الأول، وحملها على معنى يطابق بها الحكمة الصحيحة، ويحشرها في زمرة الإرشادات الإسلامية.
وقد امتد بالعرب في الجاهلية حب الاستقلال الشخصي، والتجرد عن كل ما فيه ضغط وحجر إلى إبايتهم وتعاصيهم عن الدخول تحت نظام ملكي يرد شكيمتهم، ويكبح من جماحهم، قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الذل فينا
ومن أجل ذلك كانوا لا يألفون الحواضر، ويفرون من الإقامة داخلها فرار الصحيح من المجذم يوجسون في أنفسهم أنها ذريعة للمسكنة، وسبيل للرغم من أنف العزة والعظمة، وجرى على هذا أبو العلاء المعري حين قال:
الموقدون بنجد نار بادية
لا يحضرون، وفقد العز في الحضر
وقال ابن الرومي:
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه
من نسل شيبان بين الضال والسلم
والضال والسلم شجرتان بالبادية، وكنى بذلك عن إقامتهم بالبادية، وعدم نزولهم عنها إلى السكنى بالحاضرة، لينتقل من هذا إلى العلم بأنهم لم ينخلوا من ثوب عزهم، ويدخلوا تحت سيطرة الأحكام الملكية.
وما مثل العرب في حال عتوهم أزمنة الجاهلية إلا كمثل شجر أضغاث نشأ بمفازة مجهولة من الأرض، فاستغلظ والتوى قويه على ضعيفه يقطعه من أطرافه، ويقتل ما فيه من القوى النامية. ولولا الحكمة البالغة والأسلوب اللطيف الذي ساسهم به الإسلام إلى شريعته مع ما أودعه الله في طباعهم من سلامة الذوق ورقة الشعور ما كادوا يدخلون في دينه أفواجا، ويتقلدون عقائده وتكاليفه برغبة حريصة واختيار من تلقاء أنفسهم.
وأحيانا تسند تلك السلطة إلى هيئة حكومة، كما مر في الأزمنة الغابرة على أقوام مثل الجرمان، وهم على حالة قبائل بدوية وحكومة كل منهم في قبضة رئيس يدير شئونهم كيف يريد ويسخرهم كما تسخر الأنعام إلى حيث تشاء أغراضه الذاتية، ولما امتدت ولاية الرومانيين على كثير من أوروبا ضمت تحت جوانحها أولئك الطوائف، فازداد خناق الاستعباد في أعناقهم ضيقا وارتباطا، ومن أثر ذلك أن الحكومة لم تساو بينهم وبين أبناء جنسها فيما تمنحهم من الحقوق والامتيازات إلى أن عانقوا الديانة المسيحية بواسطة انتشارها بين الرومانيين.
فالأمة التي بليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها أو بحكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية.
الحرية
تنبئ هذه الكلمة بسائر تصاريفها في اللسان العربي على معان فاضلة ترجع إلى معنى الخلوص، يقال: حر يحر كظل يظل حرارا بالفتح، بمعنى عتق، والاسم الحرية، والحر خلاف العبد، والخيار من كل شيء، والفرس العتيق، والفعل الحسن، والحر من الطين والرمل والطيب، والحرة ضد الأمة، والحرة من السحاب الكثيرة المطر، وتطلق على الكريمة من النساء، ووردت صفة للنفس في كثير من أشعارهم، قال سحيم عبد بني الحسحاس:
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما
أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وجاء لمعنى استقلال الإرادة وعدم الخضوع لسلطان الهوى:
وترانا يوم الكريهة أحرا
را وفي السلم للغواني عبيدا
وعليه بنى الصوفية اصطلاحهم في إطلاق اسم الحر على من خلع عن نفسه أمارة الشهوات، ومزق سلطتها بسيوف المخالفة كل ممزق، قال الإمام الجنيد فيما روي عنه: لو صحت الصلاة بغير القرآن لصحت بقول الشاعر:
أتمنى على الزمان محالا
أن ترى مقلتاي طلعة حر
وقد دارت هذه الكلمة - كلمة الحرية - على أفواه الخطباء، ولهجت بها أقلام الكاتبين ينشدون ضالتها عند أبواب الحكومات، ويقفون للبحث عن مكانها وتمكين الراحة من مصافحتها وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه.
ينصرف هذا اللقب الشريف في مجاري خطابنا اليوم إلى معنى يقارب معنى استقلال الإرادة، ويشابه معنى العتق الذي هو فك الرقبة من الاسترقاق، وهو أن تعيش الأمة عيشة راضية تحت ظل ثابت من الأمن على قرار مكين من الاطمئنان، ومن لوازم ذلك أن يعين لكل واحد من أفرادها حد لا يتجاوزه، وتقرر له حقوق لا تعوقه عن استيفائها يد غالبة؛ فإن في تعدي الإنسان الحد الذي قضت عليه أصول الاجتماع بالوقوف عنده ضربا من الإفراط، ويقابله في الطرف الآخر حرمانه من التمتع بحقوقه ليستأثر غيره بمنفعتها، وكلا الطرفين شعبة من شعب الرذائل، والحرية وسط بينهما على ما هي العادة في سائر الفضائل، ومن كشف عن حقيقتها المفصلة ستار الإجمال، أشرف على أربع خصال مندمجة في ضمنها:
أحدها:
معرفة الإنسان ما له وما عليه؛ فإن الشخص الذي يجهل حقوق الهيئة الاجتماعية ونواميسها لا يبرح في مضيق الحجر مقيد السواعد عن التصرف حسب إرادته واختياره، حتى يستضيء بها خبرة، ويقتلها علما، إذ لا يأمن أن تطيش أفعاله عن رسوم الحكمة والسداد، فيقع في خطيئة تحدث في نظام تلك الهيئة علة وفسادا، ولا يخالط الضمائر من هذا أن الحرية مقصورة على علماء الأمة العارفين بواجباتها؛ إذ للأميين منها مخلص فسيح، وهو باب الاستفتاء والاسترشاد، قال تعالى:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .
ثانيها:
شرف نفس يزكي طويتها، ويطهر نواياها من قصد الاعتداء على ما ليس بحق لها، فلا ترمي بهمتها إلا في موضع تشير إليه العفة ببنانها.
ثالثها:
إذعان يدخل به تحت نظر القوانين المقامة على قواعد الإنصاف، ويستنزله ريثما تحرر ذمته من المطالب التي توجه إليها باستحقاق.
رابعها:
عزة جانب وشهامة خاطر يشق بها عصا الطاعة للباطل، ويدمغ بها في قوة من يسوم عنقه بسوء الضيم والاضطهاد.
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
نستنتج من هذا البيان أن الأساس الذي ترفع عليه الحرية قواعدها ليس سوى التربية والتعليم، فيتأكد على الحكومة التي تنظر إلى فضيلة الحرية بعين الاحترام أن تسعى جهدها في تهذيب أخلاق الأمة وتنوير عقولهم بالتعليمات الصحيحة، قبل كل حساب؛ قال تعالى:
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
يخال بعض الناشئة أن الحرية حق يبيح لصاحبه أن يجهر بكل ما يقدح في فكره من الآراء، وينشر في مقاله كل ما يؤلفه من الهجاء والأوصاف الشائنة، كما يفعل الشاعر الحطيئة، وهذا المعنى بضعة من الحرية، ولكن بعد سبكه وإفراغه في قالب أصل من الأصول التي سنتلوها عليكم في مبحث الحرية في الأعراض.
وتطرف فريق من الناس ففسروا الحرية بأسوأ تفسير، وتأولوها على معنى امتثال داعية الهوى بإطلاق وتنفيذ الإرادة، وإن مس غيره بأذى، أو حجزه عن حق ثابت لا يعترضه فيه نزاع. وترى كثيرا منهم لا يتصور لها معنى سوى حمل السلاح تحت لواء القوة وإعماله في سبيل الاغتصاب. ولا يصح في نظر أي عقل كان أن يعنون على أثر من آثار سوء الضمير ودناءة الطمع باسم فضيلة يدرك بها المحكوم شأو الحاكم، ويترشح بها لمشاركته في اللقب كما شاركه في استقلال الإرادة، قال تعالى:
وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين
فتسمية بني إسرائيل جميعهم في ذلك العهد ملوكا انجر لهم من الحرية التي نالوها بعد مغادرة أوطان الذلة والتملص من سوء العذاب والاستعباد الذي سامهم به آل فرعون، ووضعوه في أعناقهم سلاسل وأغلالا.
يقوم فسطاط الحرية على قاعدتين عظيمتين؛ هما المشورة والمساواة، بالمشورة تتميز الحقوق، وبالمساواة ينتظم إجراؤها، ويطرد نفاذها، وكل واحدة من هاتين القاعدتين رفع الإسلام سمكها وسواها.
المشورة
قضت سنة الله في خلقه أن سلطة شرع الأحكام وتصريف الأوامر والزواجر لا تستقل وحدها بردع الخليقة وقيادتهم إلى سابلة العدالة؛ فكثير من الناس من يجري مع أهوائه بغير عنان، ولا يدخل بأعماله الاختيارية تحت مراقبة العقل على الدوام، ألا ترى إلى جملة من أحكام الشريعة كيف بنيت على رعاية الوازع الطبيعي وتغلبه على الوازع الشرعي؛ كرد شهادة العدو على عدوه، وعدم قبول شهادة الرجل لابنه أو لأبيه وإقراره في حال مرضه لصديق ملاطف أو وارث قريب؛ فلا بد إذا من سلطة أخرى لتنفيذ تلك الأحكام المشروعة بالوسائل المؤثرة، وإن كره المبطلون، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالة القضاء لأبي موسى الأشعري: «وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.» وتسمى هذه السلطة بالسلطة القضائية، وكان زمامها في عهد نزول الوحي بيد النبي
صلى الله عليه وسلم
يتولى الحكومة على الجاني، ويباشر فصل النوازل بنفسه من غير أن يدور في حسبان مسلم مطالبته بإعادة النظر في القضية أو استئنافها لدى غيره، وما كانوا يرون قضاءه إلا حكما مسمطا، يتلقونه بأذن واعية وصدر رحيب؛ لعلمهم يقينا كعمود الصبح أنه حكم الله الذي لا يقابل بغير التسليم، قال تعالى:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ، وقال تعالى:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . وإن تعجب فلا عجب لهذا؛ فإن الوازع الشرعي قد يتمكن من النفوس الفاضلة إلى أن يصير بمنزلة الطبيعي أو أقوى داعيا. وسهل انقياد العرب على ما كانوا عليه من الأنفة وصعوبة المراس، وانصاعوا إلى قانون الشريعة مجملا ومفصلا من جهة أن الدين معدود من وجدانات القلوب؛ فالانقياد لأحكامه من قبيل الانقياد إلى ما يدعو إليه الوجدان. وليست الشرائع الوضعية بهذه الدرجة، فإن الناس إنما يساقون إليها بسوط القهر والغلبة، ويحترمونها اتقاء للأدب والعقوبة، ولا يتلقونها بداعية من أنفسهم، إلا إذا أدركوا منها وجه المصلحة على التفصيل.
وإنما ورد من فصل قضائه
صلى الله عليه وسلم
قدر يسير بالنسبة إلى مدة حياته، لما كانت عليه حالة المسلمين يومئذ من الاستقامة والتئام العواطف القاضية بأن تكون معاملاتهم خالية من الدسائس خالصة من المشاكل، وهكذا ما ساد الأدب وانتشرت الفضيلة بين أمة إلا اتبعوا شرعة الإنصاف من عند أنفسهم، والتحفوا برداء الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة والموعظة الحسنة فيخفت ضجيج الضارعين وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهما في أجواف المحاكم حسيسا. وضم
صلى الله عليه وسلم
إلى السلطة القضائية فيما يخص الحق المدني سلطة التنفيذ فيما يختص بحقوق الأمم، كإشهار الحرب وإبرام الصلح وتلافي أمر الهجوم، ولم يكن مع يقينه باستماتة أصحابه في طاعته، وتفاني مهجهم في محبته لينفرد عنهم بتدابير هذه السلطة، بل يطرحها على بساط المحاورة، ويجاذبهم أطرافها على وجه الاستشارة عملا بقوله تعالى:
وشاورهم في الأمر ، وقد يترجح بعض الآراء بوحي سماوي، كما نزل قوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض
مؤيدا لرأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أسارى بدر.
أذن له
صلى الله عليه وسلم
بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييبا لنفوس أصحابه، وتقريرا لسنة المشاورة للأمة من بعده، أخرج البيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها - أي المشورة - ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيا.»
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من العلم بقوانين الشريعة والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا يطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكما في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة، وإذا نقل له أحدهم نصا صريحا ينطبق على الحادثة، قال: «الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا.»
وعهد بأمر الخلافة إلى عمر بن الخطاب بعد استشارة جماعة من المهاجرين والأنصار؛ مثل عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وأسيد بن حضير وسعيد بن زيد وغيرهم، وإنما لم يبق الأمر شورى بينهم كما صنع الخليفة الثاني، أو يتركه لآراء المسلمين عامة، كما فعل النبي
صلى الله عليه وسلم
اعتمادا على ما تفرسه في عمر من الكفاءة والمقدرة، وحذرا من أن تتنازعها ذوو الأهلية، فتثور ثائرة الفتنة ويرتخي حبل الأخوة في أيدي المسلمين.
ونحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الجادة شبرا بشبر وذراعا بذراع، قال من خطبة أرسلها في هذا الغرض: «كذلك يحق على المسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم .» ثم قال: «ومن قام بهذا الأمر فإنه تبع لأولي رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم.» وهذا إيماء إلى الحكم النيابي، ويدل له من كتاب الله قوله تعالى:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون . وضع الإسلام أساسه، وبنى عليه الخلفاء سياستهم، ثم انتقض بناؤه في دولة بني مروان، ومذ شعرت الأمم الآخذة بمذاهب الحرية بأنه الضربة القاضية على السلطة الشخصية طفقوا يهرعون إلى إقامة حكوماتهم على قاعدته المتينة.
وأخذ عمر بقاعدة الشورى في أمر الخلافة من بعده، ففوض أمرها إلى ستة من كبراء الصحابة؛ ليختاروا رجلا منهم، وقال لهم: «ويحضركم عبد الله بن عمر مشيرا، وليس له من الأمر شيء.» وضمه عبد الله بن عمر إلى الستة وتشريكه لهم في الرأي وارد على ما ينبغي في مجالس الشورى من جعل نظامها مؤلفا من العدد الفرد؛ ليمكنهم ترجيح جانب الأكثر عند الاختلاف، ويلوح إلى هذا بطرف خفي قوله تعالى:
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ، فذكر العدد الفرد صراحة والاقتصار عليه دون الزوج في ضمنه إشارة إلى ما ينبغي مراعاته في المجالس المؤلفة للمناجاة.
هذا هو الأصل في الشورى، وقد تؤلف من عدد زوج، ويعتبر أحد أفراد اللجنة بمنزلة رجلين اثنين ويسمى رئيسا لها، فيرجح به الجانب الذي ينحاز إليه عند التساوي، والدليل على صحته شرعا قول عمر بن الخطاب لأبي طلحة الأنصاري: «إن الله قد أعز بكم الأنصار، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، وكن مع هؤلاء حتى يختاروا رجلا منهم.» ثم قال له: «وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بعبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.»
والمشورة سنة متبعة عند بعض الأمم من قديم الزمان، وردت في قصة بلقيس حين دعاها وقومها رسول الله سليمان عليه السلام أن لا يعلوا عليه ويأتوه مسلمين قال الله تعالى:
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ، ووردت الشورى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه، قال الله تعالى:
قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ، لكن قاعدة الشورى بين فرعون وملئه لم تطرد على أساس صحيح بدليل ما سام به بني إسرائيل من العذاب المبين.
وقطع مجلس الشورى عند فرعون رأيه، وأبرم في النازلة حكمه؛ لأنه فوض إليهم ذلك بقوله:
فماذا تأمرون ، وليس له من الأمر شيء سوى تنفيذ أعمالهم، والعمل بما يشيرون بخلاف مجلس الشورى عند ملكة سبأ، فلم يزيدوا على أن عرضوا عليها رأيهم بطريق التلويح حين قالوا:
نحن أولو قوة وأولو بأس شديد
يشيرون إلى اختيار الحرب، ثم وكلوا الأمر إليها بقولهم:
والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ؛ لأنها لم تفوض إليهم الحكم في القضية، وإنما طلبت منهم أن يصرحوا بآرائهم ويبوحوا بأفكارهم فقط؛ بدليل قولها:
ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ، أي إلا بمحضركم، وقولها:
أفتوني في أمري
أي اذكروا ما تستصوبون فيه، ولأنها زيفت رأيهم وأشعرتهم بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان عليه السلام حدودهم، فيسرع إلى إفساد ما يصادمه من أموالهم وعماراتهم، فقالت:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها .
لا تكون قاعدة الشورى من نواصر الحرية وأعوانها، إلا إذا وضع حجرها الأول على قصد الحنان والرأفة بالرعية، وأما المشاركة في الرأي وحدها، ولا سيما رأي من لا يطاع، فلا تكفي في قطع دابر الاستبداد.
وأهم فوائد المشورة تخليص الحق من احتمالات الآراء، وذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى وتمثيله في النفوس إلى مذاهب شتى؛ قال بعضهم:
إذا عن أمر فاستشر فيه صاحبا
وإن كنت ذا رأي تشير على الصحب
فإني رأيت العين تجهل نفسها
وتدرك ما قد حل في موضع الشهب
وقال غيره:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر
فالحق لا يخفى على إثنين
والمرء مرآة تريه وجهه
ويرى قفاه بجمع مرءاتين
وقال آخر:
الرأي كالليل مسود جوانبه
والليل لا ينجلي إلا بمصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى
مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
ولا يدخل في وهم امرئ سمع قولهم: «إنما العاجز من لا يستبد» أن اقتداءه بسنة الشورى يشعر الناس بعجزه وحاجته إليهم، فتسقط جلالته من أعينهم ويفوته الفخر بالاستغناء عنهم؛ فإن الناصح الأمين لا تجده يجعل الفخار محورا يدير عليه سياسته، فيلقي له بالا، وإنما يبني أعماله على مصالح يجلبها أو مفاسد يدرؤها، ومن كان يريد التمجيد والثناء، فنعته بعدم الانفراد بالرأي أفخر لذكره وأشرف لسياسته من وصفه بصفة الاستبداد، قال تعالى في الثناء على الأنصار:
والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم
أي لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وروي أن هذا دأبهم من قبل الإسلام، ولعله هذا هو الوجه في مخالفة أسلوب الوصف به لما قبله وما بعده، حيث أورد في جملة اسمية للدلالة على الثبوت والاستمرار.
ومن فوائدها استطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها، فإن الرأي يمثل لك عقل صاحبه كما تمثل لك المرآة صورة شخصه إذا استقبلها.
المساواة
خلق الله الناس بحسب فطرتهم متماثلين، وكذلك ولدتهم أمهاتهم أحرارا متكافئين، ولكن دخولهم في ملاحم الحياة الاجتماعية ينزع عنهم لباس التماثل والتساوي، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، وقد جمع هذه الأطوار الثلاثة قوله تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم
فقوله:
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
رمز إلى فطرتهم الأولى، وقوله:
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
إيماء إلى نشأتهم الاجتماعية، وقوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
تلويح إلى طور التمايز والتفاضل، وإيذان منه تعالى بالوسيلة التي نبتغيها إلى مقام الكرامة عنده وهي التقوى.
وقد روعي في الإسلامية فطرة الله التي فطر الناس عليها، فوضعت تكاليفها على شكل التكافؤ ، وأديرت سياستها على قطب المساواة، فلا فضل فيها لشريف على وضيع، ولا امتياز لملك على سوقي، والعقوبة الموضوعة على صعلوك الأمة هي المحمولة على سيدها بدون فارقة، فلو ادعى أبو بكر الصديق أو عمر بن الخطاب على أدنى الناس وأفسقهم درهما واحدا، لم يقض له باستحقاقه إلا بشهادة عادلة، وهذا المعنى عام في جملة الشريعة وتفاصيلها، ولا يبعد استفادته من الآية التي كنا بصددها؛ فإن قوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
وضع جميع الامتيازات وطرحها عن محل العناية والاعتبار ما عدا التقوى. والتقوى نفسها لم يجعل الشارع لها أثرا في تغيير الحدود أو الاختصاص بحظ زائد من الحقوق، ضرورة أن التقوى عبارة عن العمل طبق أحكام الشريعة بنية وإخلاص؛ فالشريعة سابقة على العمل، والعمل تابع لها، ولم يخرج عن هذا الأصل إلا بضعة أحكام خص بها النبي
صلى الله عليه وسلم
أفرادا من الصحابة بأعيانهم، كجعل شهادة خزيمة بشهادتين؛ فإنه أسرع دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
بأنه قد بايع الأعرابي، واستند في شهادته إلى البراهين الدالة على وجوب تصديقه
صلى الله عليه وسلم
في كل ما يخبر به، لا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره، فتفطنه لأخذ حكم هذه القضية من الأدلة العامة مزية استحق بها هذه الخصوصية.
ونظرا إلى قاعدة المساواة قال علماء الأصول: خطاب الشارع لواحد إن لم يدل الدليل على اختصاصه بالحكم يعم جميع الأمة. ولكن تنازعوا في طريق العموم، قالت الحنابلة: يتناولها بنفس الصيغة. وقال غيرهم: يتناولها بالدليل المرشد إلى تساوي الأمة واشتراكها في الأحكام.
ومن أدلة المساواة قوله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة
أخذت هذه الآية بعضد المستضعفين من الناس، وأوقفتهم في مرتقى أولي القوة جنبا لجنب؛ إذ المعروف في الإخوة اتحادهم في النسب، وهو يقتضي عدم تفاضلهم وتمايزهم في الحقوق؛ فالآية وإن دلت على التوادد والتراحم من جهة لا تخلو من الدلالة على المساواة من جهة ثانية.
وسار أبو بكر الصديق بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
بسيرة القرآن، فلم تشغله مقاليد الخلافة في يده أن يقوم خطيبا على ملأ من المسلمين بقوله: «أيها الناس، قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق إن شاء الله تعالى.» ثم قال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.» فعين بهاته الخطبة للحكومة الإسلامية مركزا ثابتا تدير عليه أمور سلطتها؛ وذلك قوله: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.» وفتح في وجوه الرعية فرجا يرددون منها أنفاس الحرية مع أولي الأمر، وأمر بالإنكار والمعارضة عندما تنحرف تلك السلطة عن مركزها يمينا أو شمالا؛ وذلك قوله: «وإن أسأت فقوموني.» وجعل بيدهم عقدة عزل الأمير وتركه غير مأسوف عليه إن لم يقوم اعوجاجه، ويرجع بسلطته إلى دائرتها المرسومة لها شرعا، وذلك قوله: «فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.» وقوله: «والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق.» من دلائل المساواة.
وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف يخاطب رعيته بقوله في بعض خطبه:
إن كان بيني وبين من هو منكم شيء من أحكامكم، أن أمشي معه إلى من أحبه منكم، فينظر فيما بيني وبينه.
وهذا نهاية ما يحتج به للمساواة؛ لما فيه من التصريح بأن كل واحد من الرعية محكوم من وجه حاكم من وجه آخر، فلا يسوغ للحاكم أن يقضي لنفسه، كما لا يجوز له القضاء بشهادته لغيره، بل يرفع الخصومة إلى غيره من الحكام، وإن لم يكن معه حاكم، رفع ذلك إلى رجل من رعيته، كما فعل عمر - وهو خليفة - حين قاضى رجلا إلى أبي بن كعب، وأبي بن كعب ليس بذي سلطان.
وكتب عمر في رسالته إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:
آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك؛ حتى لا ييئس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك.
ولم يقتصر على التعاليم القولية حتى عززها وشد نطاقها بمثلها من الأعمال المطابقة، كقصته مع جبلة بن الأيهم - ملك غسان - وما شاكلها.
الحرية في الأموال
هي إطلاق التصرف لأصحابها يذهبون في اكتسابها والتمتع بها على الطريق الوسط، دون أن تلم بها فاجعة اغتصاب، أو تتخطفها خائنة كيد واحتيال، فاقتضى هذا البيان إجراء البحث في أربعة مطالب: اكتساب الأموال، طريقها الوسط، التمتع بها، الاعتداء عليها.
اكتسابها
لما كان المال معونة على الدين ومادة لنشأة الحياة الطبيعية، حتمت الإسلامية السعي خلف اكتسابه، وأذنت في الاسترزاق بكل عمل لا يتبع صاحبه بأذى، ولا يلحق بغيره ضررا، قال تعالى:
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله
الآية، وقال تعالى:
وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله
إلى غير ذلك من الآيات، وإنما لم يؤكد الطلب في هذا الموضع، ولا أجري مجرى الواجبات وكثير من المطالب في اقترانها بمؤكد الترغيب والترهيب؛ اكتفاء وحوالة على ما طبعت عليه نفوس البشر من الحرص في جمع الأموال وقوة الرغبة في اكتسابها؛ لما فيها من الحظ العاجل واللذة الحاضرة، بل غالب ما سيق في هذا الغرض جاء على صورة الإباحة ونفي الحرج، كقوله تعالى:
وأحل الله البيع ، وقوله:
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم .
فلا حرج في جمع الدنيا من الوجوه المباحة ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل، وقد ذكر الله تعالى التجارة في معرض الحط من شأنها؛ حيث شغلت عن طاعة في قوله تعالى:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ، ولما رجعوا عن صنيعهم، وأخذوا بأدب الشريعة في إيثار الواجبات الدينية وعدم الانقطاع عنها إلى الاشتغال بالتجارة ونحوها ذكرها ولم يهضم من حقها شيئا، فقال تعالى:
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فأثبت لهؤلاء الكمل أنهم تجار وباعة، ولكنهم لم يشتغلوا بضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية، أما ما يقوله بعضهم من أنه نفى كونهم تجارا وباعة، فخلاف ظاهر الآية، والسر في اختصاص الرجال بالذكر هنا أن النساء لسن من أهل التجارات والجماعات، وما ينبغي لهن ذلك، كما أن تخصيص التجارة من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا وأوفق لذوي المروءات.
وعد المحققون في العلم الحرف والصناعات، وما به قوام المعاش كالبيع والشراء والحراثة، وسائر ما تمس الحاجة إليه، حتى الحجامة والكنس من فروض الكفاية يجب أن يقوم بكل صنف منها طائفة وإلا أثمت الأمة تماما، وبذلك فسر حديث: «اختلاف أمتي رحمة.» على فرض صحته، فالأمة لا تنهض من وهدة ضعفها إلى مستوى قوتها، إلا بتحمل كل طائفة منها حظا عظيما من وسائل حياتها ولوازمها البدنية والعقلية، وسد كل خلة من الحاجات ما تزايدت، وينقسم الناس في ذلك إلى أربع طبقات؛ الأولى: طائفة تدبر أمور الرعية. الثانية: طائفة تتميز بنشر المعارف سواء في ذلك علم الحلال والحرام ووسائله كعلوم العربية والحساب والهندسة، أو العلوم التي تعود بتحسين حال الثروة كمعرفة الصنائع. الثالثة: طائفة تمسك بزمام التجارة أخذا وعطاء. الرابعة: طائفة عظيمة تقبل على الاشتغال بالصنائع، ومن جملتها الفلاحة التي هي أقدمها وأجداها نفعا. بيد أن الشريعة أمرت العامل بأن يكون قلبه حال عمله مطويا على سراج من التوكل والتفويض؛ فإن اعتماد القلب على قدرة الله وكرمه يستأصل جراثيم اليأس ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها.
الطريق الوسط
لم تغادر هذه الشريعة صغيرة ولا كبيرة من وجوه التصرفات في الأموال إلا أحصتها، وعلقت عليها حكما عادلا، وتألفت أحكام هذه الوجوه في سلك المناسبة مرتبة على أبواب.
المملوكات إما أعيان أو منافع، ويدور الكلام فيها على ثلاثة أنظار:
النظر الأول:
يتعلق بها من جهة انتقالها، أما الأعيان فانتقالها على خمسة أقسام؛ أحدها: ما ينتقل من مالك إلى مالك بعوض، والعقد في ذلك إما أن يكون على عين بعين، فهو البيع، أو على عين بشيء في الذمة، فإن تماثل العوضان فقرض، وإلا فسلم، أو على ذمة بذمة فإن كانت إحدى الذمتين من غير المتعاملين فحوالة وإلا فمقاصة. الثاني: ما ينتقل من مالك إلى مالك بغير عوض؛ وهي الهبات والوصايا والمواريث. الثالث: ما ينتقل من مالك إلى غير مالك بالعوض؛ وهي الكتابة. الرابع: ما ينتقل من مالك إلى غير مالك بغير عوض؛ وهو العتق والتدبير. الخامس: ما ينتقل من غير مالك إلى مالك، وهو تملك المباح من الموات.
وأما المنافع فالعقد فيها على ضربين؛ منه ما هو بغير عوض كالوقف، ومنه ما هو بعوض، وهذا إما أن يكون العوض معلوما، فينظر في العمل المقصود، فإن كان معلوما فهي الإجارة، وإن كان العمل مجهولا فهي الجعالة. وإما أن يكون العوض مجهولا ولكنه في حكم المعلوم، فهو القراض والمساقاة والمزارعة.
النظر الثاني:
يتعلق بالأموال من جهة وضع يد الغير عليها، وهو على نوعين؛ أحدهما: ما يكون بالرضا والإذن من صاحبه، وهذا إن قصد التوثق به في دين فهو الرهن، وإن قصد الانتفاع به ثم إعادته إلى ربه فهي العارية، وإن قصد حفظه لربه فهي الوديعة. ثانيهما: ما كان بدون إذنه ورضاه، وهذا إن كان المالك مجهولا، وكان المملوك معرضا للضياع فهو اللقطة، وإن علم صاحبه وقصد التصرف فيه والانتفاع به فهو الغصب، ثم ينجر النظر إلى قيام ربها بمطالبتها والعمل في إعادتها إليه، فينتظم في سلكها باب الاستحقاق.
النظر الثالث:
أن المال الواحد قد يدخل في ملك متعدد، فإذا توجه النظر إلى حال دخوله في ذلك الملك المتعدد وبقائه عليه، فهي الشركة، وإذا تعلق بتوحيد الملك ورفع تعدده، فإما بانفراد كل من الشريكين بنصيبه وهي القسمة، أو بانفراد أحد الشريكين بالجملة وهي الشفعة.
فإذا أنت تدبرت هذه الأبواب المدونة، ودققت النظر في أحكامها المفصلة لتعلم أين مكانها من الإصلاح والنظام ظفرت فيها بنظامات محكمة وأصول عمرانية لا تصل الناس إلى السعادة الاجتماعية والمعاملة بشرف وفضيلة إلا من طريقتها الوسطى.
التمتع بها
كما أذن الإسلام في اكتساب الأموال واستثمار أرباحها من وجوهها المعتدلة، أذن في الاستمتاع بها وترويح الخاطر بنعيمها على شريطة الاقتصاد، قال تعالى:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، وقال تعالى:
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ، وقال تعالى:
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ، وقال تعالى:
وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ، وقال تعالى:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ، فذكر هذه الأشياء في معرض الامتنان والإذن في الانتفاع بها دليل واضح على دخولها في قسم المباحات لا حرج في تناولها، ولا يعد الإعراض عنها طاعة يرجى ثوابها كما تقتضيه حقيقة الإباحة.
لما فتح أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنطاكية، عزم على الرحيل منها وعدم الإقامة بعسكره فيها؛ مخافة أن يألفوا جودة هوائها ويأنسوا بطيب نسيمها، فيخلدوا إلى الراحة والدعة، وأرسل بهذه النية إلى الخليفة عمر بن الخطاب، فكان من جواب عمر: «أما قولك إنك لم تقم بأنطاكية لطيب هوائها، فالله عز وجل لم يحرم الطيبات على المتقين الذين يعملون الصالحات، فقال تعالى:
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، وكان يجب عليك أن تريح المسلمين من تعبهم، أو تدعهم يرغدون في مطعمهم ...» إلخ.
وأما الآيات الواردة في سياق التزهيد والحط من متاع الحياة الدنيا، فلا يقصد منها ترغيب الإنسان ليعيش مجانبا للزينة ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق، وإنما يقصد منها فيما نفهمه حكم أخرى؛ كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض، ومن قصرت أيديهم عن تناولها لئلا تضيق صدورهم على آثارها أسفا. ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشره والطمع لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل ويتطوحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة؛ فاستصغار متاع الدنيا وتحقير لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويكبر بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها حيثما كانوا، وقد بين لنا العيان أن الإنسان متى عكف على ملاذ الحياة، ولم يصح فؤاده عن اللهو بزخارفها، ماتت عواطفه ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتهم السافلة.
وأما ما ثبت عن بعض السلف من نبذ الزينة والإعراض عن العيش الناعم عند القدرة عليه أو في حال وجوده فلا يريدونه قربة بنفسه، ولكن يبتغون به الوسيلة إلى رياضة النفس وتدريبها على مخالفة الشهوات؛ لتستقر تحت طوع العقل بسهولة، وتتمكن من طرح أهوائها الزائغة بدون كلفة، فلو وثق الإنسان من نفسه بحسن الطاعة، لم تكن في مجانبته للطيبات مزية ولا مؤاخذة.
ولما كان السرف في صرف الأموال وبسط الراحة بإنفاقها يفضي إلى نفاذها، والتشوف إلى ما في أيدي الناس، أو يؤدي في الأقل إلى قلتها وعيش صاحبها كاسفا على ما فاته من السعة ورفاهية الحال؛ أمر الشارع بالاقتصاد في الاستمتاع بها، ولم يرسم لذلك حدا فاصلا، بل أوكله إلى اجتهاد المكلف وما يعلم من وسعه، فقال تعالى:
لينفق ذو سعة من سعته ، وقال تعالى:
كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ، وقال تعالى:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ، وقال:
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ، وقال:
ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، ولما كان الشأن في الحرير والنقدين الذهب والفضة غلاء الثمن لنفاستها وندرتها، منع من استعمالها على التعيين، وميز النساء في حكمها على الرجال، فأباحها لهن لباسا لاحتياجهن إلى الزينة والتحسين أكثر مما يحتاج الرجال، فالنهي عن استعمال الذهب والفضة ولبس الحرير مبني على رعاية حفظ المال عن التبذير والإنفاق لغير مصلحة، ويحسب كثير من الناس أنها لم تحرم إلا لقهر النفوس وقطع أعناقها عن الفخر والتباهي، وليس بصحيح، وإلى هذه القاعدة - قاعدة الاقتصاد - ترجع أحكام الحجر على الصبي ومن لا يحسن التصرف في ماله.
وحرمت الإسلامية من المطاعم ما كان رجسا يعافه الطبع ويتقذره الذوق كالميتة وما ألحق بها، أو موبقا للبدن كالسموم وما شاكلها، أو مؤثرا على العقل كالمسكرات، ولا ينازع في قبيح مفسدتها إلا من غرق في سكرة من الجهل والغواية، يقول أبناء الحانات في إطرائها: تغرس الشجاعة في النفوس. قلنا: في إرغام وجوههم، أما بعد مفارقتها صحوا، فإنكم تعودون إلى سجيتكم الأولى من الخور والجبن، وأما حال استيلائها على عقولكم فلا حكمة ولا تدبير ولا شجاعة إلا بهما.
قالوا: تسلي الهموم. قلنا: وتحل عقدة اللسان فينثر ما في كنانات القلوب من أسرار تخشون إذاعتها. وتسلية الهموم تثقف العزائم عن مقاومة أسبابها الجالبة لها إن استطاع إليها حيلة، وإلا فالعقل الصحيح أكبر مجلبة للسلوان وأعز مدافع لها عند الهجوم. قالوا: تبعث في الفؤاد سرورا. قلنا: تبعث في هيئة حركاتكم كياسة تسر الناظرين، أما ما زعمتموه من مسرتكم فضرب من التوسع في الخيال؛ إذ السراء التي يتطلبها الخاطر ويهنأ لها ارتياحا ما كانت ناشئة عن موجب يشمله الوجود.
ولا ننسى أن كثيرا من الشعراء قد طغى بهم الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديح الخمر صفات الجمال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال، فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال والشعراء يتبعهم الغاوون.
فالإسلام وإن عني بتزكية الأرواح وترقيتها في مراقي الفلاح لم يبخس الحواس حقها، وقضى للأجسام لبانتها من الزينة واللذة بالقسطاس المستقيم.
روي أن عبد الله بن أبي السمط أنشد بين يدي المأمون أبياتا يمتدحه بها، فلما انتهى عند قوله:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا
بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
قال له المأمون: ما زدت على أن جعلتني عجوزا في محراب وبيدها سبحة، أعجزت أن تقول كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
وقد كان المتعبدون من قبل يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها، فنفاها النبي
صلى الله عليه وسلم ، ونهى المسلمين عنها، فقال: «لا رهبانية في الإسلام.» وتدبر إن شئت قوله تعالى:
خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ، فقد بين بهاته الآية أن الزينة من علائق العبادة غير منافية لها، وأن العبادة لا تستدعي الإعراض عن اللذات الحسية المعتدلة.
الاعتداء عليها
من الطبائع المركبة في نفوس البشر داعية حب الأموال والحرص في مكتسبها واقتنائها، قال تعالى:
وتحبون المال حبا جما ، وقال تعالى:
إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد .
هذا الباعث يقذفه الله في نفوس قوم، فيدعوهم إلى تسوية طرائق العمران وتشييد أركانه، ويسلكه في قلوب آخرين فيترامى بهم إلى بث الفساد على وجه البسيطة، وإثارة غبار التوحش في أرجائها، القوي بسطوته، والضعيف باحتياله ومكيدته، واعتبر في هذا برجل فاضت خزائنه ذهبا، وقد بلغ من الكبر عتيا، ولم يهب الله له في ورثته وليا، وتجده قائما على ساق الجد في العمل المستمر، يبني بكل ريع آية، ويشق الأرض بأدوات الفلاحة شقا، ماذا حمله على ذلك الحرص الأكيد والأمل الواسع وقد تقوس ظهره وانكمش جلده؟ حب المال، حب المال هو الذي ينزع من فؤاد الرجل الرأفة، ويجعل مكانها القسوة والفضاضة، حتى إذا أظلم الأفق واسود جناح الليل تأبط خنجرا، أو تقلد سيفا، وذهب يخطو في بنيات الطريق خطى خفافا ليأتي البيوت من ظهورها، ويمد بسبب إلى أمتعتها، فإذا دافعه صاحبها أذاقه طعم المنون، وانصرف ثملا بلذة الانتصار؛ ولهذا افتقرت داعية حب المال إلى وازع يسدد طيشها ويكسر من كعوبها إلى أن تستقيم قناتها، والوازع ما ورد في مجمل الشريعة ومفصلها من الأصول القابضة على أيدي الهداجين حول اختلاسها والعاملين على اغتصابها، أو التصرف فيها بغير ما يأذن صاحبها، قال تعالى:
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، وقال
صلى الله عليه وسلم : «من ظلم قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين.»
وقال تعالى:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ، وقد تضمنت هذه الآية الإشارة إلى حكم الارتشاء، وقال في شأنه النبي
صلى الله عليه وسلم : «لعن الله الراشي.» هو دافع الرشوة، «والمرتشي» وهو قابضها، «والرائش» وهو المتوسط بينهما. الرشوة أخت السرقة وابنة عم الاغتصاب، وإن شئت فقل: تزوج الاغتصاب بالسرقة، فتولدت بينهما الرشوة؛ لأنها عبارة عن أخذ مال معصوم خفية، ولكنه بسلطة على حين علم من صاحبه، وكان الذين اجترحوا سيئتها قصدوا بها معارضة قاعدة الزكاة في وضعها وحكمتها. أما وضعها فالزكاة مال أوجبه الله على الأغنياء، لتسد منه خلة الفقير والمسكين، والرشوة مال يدلي به الفقراء والأرامل والأيتام إلى الغني ومن ولي الأحكام لينصفهم في الحكومة ولا يخذلهم في مجلس قضائه. وأما حكمتها فالزكاة شرعت لتطهر نفوس الأغنياء من رذيلة الشح، وتجعل بدلها الكرم والسماح، وتنزع الغل والحسد من قلوب الفقراء، وتنشر في مكانهما المودة والرحمة لأهل اليسار، والرشوة تزيد الغني لهفة وحرصا في جمع الأموال، وتفتح في صدره أبوابا من المطامع بقدر ما له من سعة التصرف وقوة النفوذ، ثم توقد له في قلب الراشي ضغينة وحقدا، وتطلق لسانه بخزيه وهوانه، وإن لم يكن بقضائه شقيا. ولما كانت الرشوة عقبة كئودا في سبيل الحرية أخذت الشريعة في تحريمها بالتي هي أحوط، فلا يسوغ للقاضي قبول الهدية إلا من خواص قرابته؛ لئلا تزل به مدرجتها إلى أكل الرشوة، أو يتخذ اسم الهدية غطاء للرشوة يسترها به عن أعين المراقبين لأحواله السرية، ورد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الهدية، فقيل له: كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقبلها، فقال: كانت له هدية ولنا رشوة؛ لأنه كان يتقرب إليه لنبوته لا لولايته، ونحن يتقرب بها إلينا لولايتنا.
ولم يكتف الشارع الحكيم في النهي عن اغتصاب الأموال واختلاسها بما قرع به الأسماع من الزواجر الكلية، فأردفها بتعليمات عمرانية في مواضيع غامضة تقصر عقول البشر عن إدراكها بدون توقيف وتعليم مثل المعاملة بالربا؛ فقد يتوهم سلامتها من أكل المال باطلا، وهي معدودة في قبيله غير خارجة عن معناه. يوافق الربا الاغتصاب في أن الزائد على رأس المال أخذ بغير عوض يقابله، ولم تطب له نفس الدافع، ولا سمح به خاطره، ولكن الحاجة هنا ألجأت إلى إعطائه، كما تلجئ سلطة الغاصب إلى تسليم المال في الغصب الصريح، وهو بهذا الاعتبار ذريعة لاستيلاء الموسرين على تراث أهل الخصاصة وامتصاص أموالهم التي هي بمنزلة الدم لحياتهم شيئا فشيئا، ويقطع سببا وثيقا ترتبط به القلوب رحمة وإخاء وهو السلف مثلا بمثل، فضلا عما يبذره في نفوس أهل الثروة من ألفة البطالة والتقاعد عن الصنائع والمعاملات التجارية، ولم تتقدم الأمم المستحلة للربا في حياتها المدنية بارتكاب مطيته العشواء أخذا وإعطاء، وإنما منبع ثروتها ورفاهية حالها عقد المبادلات التجارية. والإقبال على الفلاحة والصنائع واستنزاف المعادن، والمعاملة بالربا عندهم أمر يسير لا يكاد يظهر بالنسبة إلى مشروعاتهم الواسعة وأعمالهم المتواصلة.
وأما العقوبات المتعلقة بالجناية على الأموال فأربعة أنواع:
أحدها:
عقوبة السارق، قال تعالى:
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم . من تحقق في النظر إلى جناية السرقة وجدها مفسدة يعسر تلافيها، إذ لا يمكن للناس أن يحرزوا أمتعتهم ويصونوها عن التلف والضياع بأكثر من وضعها في دور قائمة جدرانها موصدة أبوابها مزررة أقفالها، ويتعذر على صاحب المتاع المواظبة على حراسة متاعه بنفسه صباحا ومساء، ولا يتيسر لكل أحد أن يتخذ حراسا يكفونه شر أهل الخيانات أو يجعل دون ماله سدا لا يستطيعون أن يظهروه، ولا يستطيعون له نقبا، والسارق يترصد أوقات الخلوة بالأمتعة، فيذهب إليها في حال تنكر واختفاء، ويخرق الدار ويتسور جدارها، ويقلع الأبواب أو يكسر أقفالها، ثم يملأ حقيبته منها، وينصرف آمنا مطمئنا من افتكاك ما أخذ منه أو إقامة البينة عليه، بخلاف الغاصب أو المنتهب، فإنه يأخذ المال مجاهرة، فيمكن استرجاعه منه بالقوة أو بالإشهاد عليه؛ ولهذا كانت السرقة أكثر وقوعا، وأجلب للخلل في النظام، فاستحق صاحبها تشديد العقوبة عليه؛ لقطع جرثومة فسادها عن الناس، وأليق العقوبات به قطع الجارحة التي يتوسل بها إلى الإذاية، ويباشر بها الجناية على الأموال المعصومة.
وهل أتاك حديث من ينظر ببصيرة عشواء، فأورد على ما قررته الشريعة من قطع يد السارق في ربع دينار، وجعل ديتها خمسمائة دينار إذا جنى عليها غيره فقطعها، فقال:
يد بخمس مئين عسجد فديت
ما بالها قطعت في ربع دينار
وقال بعضهم في جوابه:
حماية الدم أغلاها وأرخصها
صيانة المال فانظر حكمة الباري
وأجاب الإمام الشافعي فيما روي منه:
هناك مظلومة غالت بقيمتها
وها هنا ظلمت هانت على الباري
ثم إن قطع اليد في ربع دينار مثلا فيه حكمة الزجر للسارق نفسه عن معاودة السرقة، وردع أمثاله عن الإقدام عليها، وفي هذا عصمة لأموال كثيرة، وسد لمنفذ تتفشى منه المفسدة بطريق العدوى، والله لا يحب المفسدين.
ثانيها:
عقوبة من يخيف السبيل ويشهر السلاح لأخذ المال باطلا، وهو المحارب، قال الله تعالى:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ، شرع الله في عقاب المحارب أربعة أنواع، أوكل أمرها إلى خيرة الإمام، فإما أن يقتل بدون صلب، وإما أن يصلب حيا ثم يقتل ويراق دمه على الخشبة التي صلب فيها، أو تقطع يده ورجله من خلاف، أو ينفى من الأرض، أي يبعث من بلده إلى بلد آخر، ويودع في السجن إلى أن ينتفي خبثه وتظهر توبته، وليس معنى نفيه إبعاده إلى بلد آخر مع تركه خالع العنان يمشي في مناكبها، ويجتني بها قطوف لذاتها، فإن هذا لا يمحق كيده، ولا يقطع ذيل فساده، فلا نأمن أن يسحبه مرة أخرى، ويلوث به بقاعا كانت آمنة مطمئنة، وأضيف التغريب في هذه العقوبة إلى السجن زيادة في الخزي والنكال؛ فإن من يبارح وطنه ويغادر مسقط رأسه يجد في نفسه حرجا، وفي خاطره ضجرا؛ لانقطاعه عن أهل تربى في حجورهم وليدا، وحنوا عليه بعواطفهم حقبة، ثم مفارقته لعشيرة شب على أخلاقهم وعوائدهم، واشتمل برداء عزهم من قبل أن يكبر عن الطوق، ومن ثم نبعت الغيرة على الوطن في صدور الطوائف، وأصبحوا يجلونه أعظم إجلال، فلو هاجر قومه الوطن الأول، وانتبذوا بدله مكانا قصيا، لتحولت غيرته معهم وخص بها المنزل الحديث، كما يخصه بالتشوق والحنين، وعلى هذا المعنى يحمل حديث: «حب الوطن من الإيمان.» على فرض ثبوته، فحب الوطن على هذا الوجه يدل على حسن العهد، ويدعو إلى التعاضد على البر والتقوى.
وقد يألف الإنسان بعض البقاع، فيجد في إحساسه ميلا نحوها زائدا عما تقتضيه قيمتها في نفسه، ويأبى أن يستبدلها بالذي هو خير، ولكن هذا الميل بعد أن نسلم أنه أثر طبيعي غير خيالي، فلا يعتد من العواطف المعتبرة في نظر الشريعة ومجاري عادات العقلاء حتى يستحق من أجلها صفة تمجيد، فمن تحيز عن أمته وطفق يرمي في وجوههم بعبارات الازدراء، وينفث في كأس حياتهم سما ناقعا، لا نصفه بصفة الغيرة والوطنية، وإن شغف بحب ديارهم وقبلها جدارا بعد جدار، ولا يراد بالتخيير هنا إلقاء العقوبة بيد الإمام يحد الجاني بأي نوع اتفق أو تعلقت به مشيئته، كالتخيير في خصال الكفارة، وإنما المراد فتح مجال الاجتهاد في هذه الأنواع من غير أن يخرج عن دائرتها، فيجب عليه النظر أولا، وبذل الوسع فيما هو الكافي لحسم هذا الفساد من أصله، وبعد تعديل الرأي وتنقيحه، يتعين العمل بما هو أصلح في الردع وأنفى لوباء الفتنة.
فمن المحاربين من لا يقاتل بنفسه، ولكن له دهاء ومهارة في المكر والتدبير، بحيث يستطيع حيلة أن يؤلف الجموع ويثير غبار الفتنة، فهذا يجب قتله، فإن كان للمبالغة في إشهار العقوبة وإيقاعها بمكان تشخص فيه الأبصار تأثير نافع في ردع العائثين وإرهابهم جمع بين صلبه وقتله، ومنهم من لا رأي له ولا تدبير، وإنما يقطع السبيل بقوة بدنه وشدة بطشه، فهذا يقطع من خلاف؛ ليكف شر يده التي يبطش بها، ورجله التي يفتن عليها، وأما من يعلم من حاله العفاف، وإنما صدر منه ذلك على وجه الفلتة والمساعدة لغيره مع توقع الندم منه، فهذا حكمه النفي، ولا يسوغ قتله ولا قطعه، وإنما كانت عقوبة المحارب أشد من عقوبة السارق؛ لأن الحرابة أعظم مفسدة وأوسع خرقا في النظام؛ لإفضائها إلى انتهاب الأموال وسفك الدماء عند المدافعة عنها، إذ يسوغ لصاحب المال المدافعة عن ماله بما يملك من الاستطاعة، كثيرا كان المال أو يسيرا، وله أن يقاتل بعد الإنذار والموعظة إذا لم يجد للدفاع طريقا سوى القتال.
وجعل الإمام الشافعي رضي الله عنه أنواع العقاب المقررة في الآية مرتبة على حسب حال اختلاف المحاربين بالنظر إلى ما صنعوا، فقال: إذا قتل المحارب ولم يأخذ مالا قتل، وإن أخذ المال وقتل وجب قتله وصلبه، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع من خلاف، والنفي والحبس فيمن لم يبلغ جرمه إلى أن يستحق أكثر منهما.
ثالثها:
عقوبة المتعدي بغير السرقة والحرابة كالغاصب، وأمر تشخيصها وتحديدها موكول إلى ذكاء القاضي وعدالته يجتهد فيها رأيه ويقدرها على حسب الجناية.
رابعها:
عقوبة المتلف لمال غيره وهي تغريمه المثل أو القيمة، والعقوبة بالمال في غير هذه الجناية، وقع النزاع في حكمها بين علماء تونس في سنة 828، فأفتوا بالمنع، وانفرد عنهم الشيخ البرزلي، فأفتى في ذلك بالجواز، وجعلها من قبيل المصالح المرسلة، وقال: إذا لم يمكن ردع الجناة إلا بالمال ردعوا بالمال. وألف في ذلك تأليفا فيه نحو أربع أوراق، وخالفه جميع من حضر في ذلك الوقت، وألزموه مخالفة الإجماع، وروي أن مروان بن عبد الحكم أخذ رجلا راود امرأة على نفسها وقبلها وكشفها، فسجنه ولم يطلقه إلا بعد أن فداه أبوه بألف، فأنكر الإمام مالك على مروان فعله؛ لأنه لا يرى القضاء بالعقوبة بالمال، وهذه مسألة عظيمة تستدعي بسطا واستدلالا لا يسعهما هذا المقام.
الحرية في الأعراض
يريد كل امرئ أومضت فيه بارقة من العقل أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد وحرما مصونا لا يرتع حوله اللامزون، وهاته الإرادة هي التي تبعثه على أن يبدد فريقا من ماله في حل عقال ألسنة؛ لتكسوه من نسج آدابها حلة المديح، أو يسد به أفواها يخشى أن تصب عليه من مرائر أحدوثتها علقما، قال بعضهم:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه
لا بارك الله بعد العرض في المال
وقد تتقوى هذه الداعية فتبلغ به إلى أن يخاطر بحياته، وينصب جنبه لسهام الرزايا عندما يرجم بشتيمة تلوث وجه كرامته، ويتجهم بها منظر حياته، قال أبو الطيب المتنبي:
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
ولا يتفاضل الناس في مراقي الشرف والمجادة أو تتسفل هممهم إلى هاوية الرذالة، إلا بمقدار ما تجد بينهم من التفاوت في عقدة هذه الإرادة قوة وانحلالا، فبقوة هذه الإرادة يتجلى لنا في مظاهر الإنسانية مطبوعا على أجمل صورة من الكمال، وبسبب ضعفها تنزل به شهواته من سماء الإنسانية إلى أن يكون حيوانا مهملا، وأعظم مثال يكشف لك عن فنائها وسكون نبضها رجل يأتي الفاحشة ويعانق الرذيلة غير مستور عن أعين الشاهدين، ويرى أثرها بمثابة وسام افتخار في صدر رجل من مشاهير الأمة، فحال هذا الرجل مستثناة من عموم النصوص الواردة في حفظ عرض الإنسان في غيبته، إذ يعد اختياره لجلسته بقارعة الطريق وهتكه لستر كرامته بنواجذه دليلا واضحا على عدم تحرجه ومبالاته بذلك، فينزل منزلة الإذن الصريح لغيره أن ينشر عوراته التي خرقها هو بنفسه علانية.
ونستفيد من هذا أنه لا يحق للطاعن أن يتخطى المعائب التي يجهر بها صاحبها إلى النقائص التي يحرزها بغطاء الستر والكتمان؛ لقوله:
ولا تلمزوا أنفسكم ، وقوله تعالى:
ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، وفي هذا التشبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهو من باب القياس الظاهر؛ لأن عرض المرء أشرف من بدنه، فإذا قبح من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض أعراضهم بالطريق الأولى، فالمذام التي تلتصق بالشخص خفية لا يسوغ لآخر تكشف عليها أن يحرك بها لسانه، ويتمضمض بإذاعتها في المجامع إلا في مواضع يدور حكم الاستباحة فيها على درء مفسدة تنشأ عن عدم التعريف بها، كإبدائها على وجه النصيحة الخالصة لمن عزم على ربط العلاقة مع صاحبها بمصاهرة أو معاملة مالية مثلا، وكإنهائها إلى من له طاقة على إقلاعه عنها وانتزاعها منه مثل الأمير الأعلى والمعلم المطاع، وما يسلكه أهل الصحافة في أرباب الولايات من تتبع مناكرهم وعرض مظالمهم على أنظار الحكومة لا يخرج عن هذا القبيل، ولكن على شريطة التجرد عن الأغراض الشخصية، والتحقق من صحة ذلك بإسناده إلى حجة قوية مع اللطف في العبارة، وصنيعهم على هذا الشرط يد شاملة يطوقون بها جيد الأمة، ويدينون بها الحكومة العادلة.
ومثل هذا في الإباحة للضرورة تمكين الخصوم من إثبات الجرحة في الشهود، فإن الحاكم لا يقضي بشهادة امرئ إلا إذا صحت عدالته، وقد يرمي أحد الخصمين الشاهد بريبة تقتضي بطلان شهادته عليه، ويستند في ذلك إلى بينة تصدق دعواه، فلا غنى للحاكم هنا عن فتح السبيل للقدح في عدالة الشاهد وذكره بما يسوء عرضه في مجلس القضاء؛ لئلا تضيع الحقوق بشهادة السفهاء من الناس.
ولما تجاسر كثير من أهل الأهواء على اختلاق أحاديث يفترونها كذبا ويسندونها إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ ليؤيدوا بها مزاعمهم أو يقضوا بها حاجة في نفوسهم قام العلماء بحق الوراثة المنوطة بعهدتهم من قبل صاحب الشريعة، وأخذوا في نقد ما يروى من الأحاديث؛ حتى يتميز الخبيث من الطيب والصحيح من غير الصحيح، فاحتاجوا إلى التعرض لحالة الرواة، وإذا علموا من أحد سوءا بادروا إلى الجهر به وتعيين اسمه؛ ليحذره الناس ولا يتلقون روايته بالقبول، وهكذا الحكم في كل طائفة تحملت في عهدتهم أمرا يشترط فيه الثقة والأمانة كالقضاء والفتوى؛ ولهذا لا نرى أهل الورع من العلماء يهملون في كتب التراجم ذكر من تصدروا للأحكام أو الفتوى والتصريح بما يقع في سيرتهم، أو ينطوي في سريرتهم من الأحوال المانعة من الاقتداء بهم والأخذ بمذاهبهم، وربما استطردوا بيانها في أثناء تحاريرهم العلمية، ونضرب لك في صحة هذا مثلا، يقول المالكية: لا حكم ولا إفتاء إلا بما جرى به العمل. ويقررون في شروطه أن يكون الذي أجرى العمل أهلا للاقتداء به قولا وعملا، إذ كثيرا ما هزلت هذه المناصب حتى سامها كل مفلس من العلم فقير من التقوى، ولولا ما تسطره أقلام الكرام الكاتبين وتنطق به الثقات رواية ما اهتدينا إلى معرفة من يجب الاقتداء بأحكامه وفتاويه، ومن يجب الإعراض عن الاقتداء به صفحا.
الجناية على الأعراض غير منضبطة، بل تختلف آحادها اختلافا كثيرا، فرب صفة ينعت بها رجل فلا تحط من شأنه، وتعلق على آخر فتنقلب سبابا، ومن أجل اختلافها في التأثير على حال المجني عليهم لم تضع الإسلامية بإزائها عقوبة محدودة، وفوضت تعيينها وتقديرها إلى اجتهاد الحاكم، فإذا وقعت الواقعة تلقاها بمزيد الضبط، ثم اجتهد في عقاب الجاني رأيه، ما عدا حد القذف بالزنا، فقد قررت له جزاء مفروضا هو الجلد ثمانين سوطا، قال الله تعالى:
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ، ووجب هذا الحد في القذف بالزنا، ولم يجب على من يرمي غيره بالكفر الذي هو أكبر جريمة وأعظم إثما؛ لأن فاحشة الزنا يأتيها الشخص خفية، ويبالغ في سترها ما استطاع، فإذا رمى بها أحد إنسانا احتمل أن يكون صادقا، ولا سبيل للعلم بكذبه، وأما إذا رماه بالشرك فإن تلبسه بشعار الإسلام والناس ينظرون يكفي شاهدا على كذب من رماه، ثم إن العار الذي يلحق من قذف بالزنا أعلق من العار الذي ينجر إلى من رمي بالكفر وأبقى؛ فإن التوبة من الكفر على صدق القاذف تذهب رجسه شرعا، وتغسل عاره عادة، ولا تبقي له في قلوب الناس حطة تنزل به عن رتبة أمثاله ممن ولدوا في الإسلام بخلاف الزنا، فإن التوبة من ارتكاب فاحشته وإن طهرت صاحبها تطهيرا ورفعت عنه المؤاخذة بها في الآخرة يبقى لها أثر في النفوس ينقص بقدره عن منزلة أمثاله ممن ثبت لهم العفاف من أول نشأتهم، وانظر إلى المرأة ينسب إليها الزنا كيف يتجنب الأزواج نكاحها، وإن ظهرت توبتها، مراعاة للوصمة التي ألصقت بعرضها سالفا، ويرغبون أن ينكحوا المشركة إذا أسلمت رغبتهم في نكاح الناشئة في الإسلام.
وخفف الله عن الرجل القاذف لزوجه، وشرع له مخلصا عن الحد باللعان؛ لاحتياجه إلى دفع ولد الزنا عنه، وقطع نسبه الفاسد منه، ولأن الغالب من حال الرجل مع امرأته أنه لا يقذفها إلا عن حقيقة، إلا أن شهادة الحال وحدها لا تكفي في صحة ما يدعيه عليها، فأضيف إليها ما يقويها من الأيمان؛ قال تعالى:
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .
ولما كان الشاهد بالزنا يلتبس أمره بالقاذف شديدا، فربما ينوي الرجل قذف آخر، فيرميه بالزنا في صورة الشهادة عليه، والذي هو شاهد حقيقة قد يدفعه المشهود عن نفسه، ويزعم أنه قاذف يستحق العقوبة أقام الشارع فرقا فاصلا بينهما، فاشترط في صحة الشهادة على الزنا أربعة عدول، فإن القاذف يتميز عن الشاهد بوصفين: التهاون بأمر الدين، والغل الواغر في صدره بالنسبة للمقذوف، ومن البعيد اتفاق هذين الوصفين في جماعة من المسلمين عرفوا بالعدالة، فإذا لم يتم نصاب الشهادة التحق الشاهد بالقاذف، وأجري الحد عليه.
وكثير من أحكام الشريعة ما هو مبني على مبدأ صيانة الأعراض كرعاية الكفاءة في الأزواج؛ فإن اقتران المرأة بمن هو أدنى منها حسبا وأخفض منها حالا لا يخلو عن حطة في العادة يشملها عارها، ثم يمتد إلى وليها وذوي قرابتها، ويعرض بولدها لأن يلاقي من عشيرته مقتا وهوانا، قال الشاعر العربي:
وإن ابن أخت القوم مصغى إناؤه
إذا لم يزاحم خاله بأب جلد
ويؤثر عدم الكفاءة في المعاشرة بين الزوجين شغبا واضطرابا بسبب فخار المرأة وتطاولها، وربما نزع من يد الزوج سلطته التي يحوط بها عفتها، ويصون بها كرامتها، لإباية النفوس طبيعة من الطاعة لمن هو دونها مدنية وآدابا.
الحرية في الدماء
ينظر العمرانيون إلى الأمة التي تجمعها رابطة، فيشاهدونها في صورة جسم واحد، وأفرادها هي أعضاؤه المتلاصقة، وليس سفك دم الفرد منهم إلا كالفصد لعرق من عروقها واستفراغ دمه الذي هو بضعة من حياتها، والقصاص من القاتل وإن كان فصدا لعرق ثان من ذلك الجسم العظيم، إلا أنه بمبضع طبيب عارف يخشى أن يسري دمه الفاسد إلى غيره من الأعضاء، فيحدث فيها مرضا عضالا، قال تعالى:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ؛ لأن القصاص يكف يد العالم به عن إراقة الدماء ونهب الأعمار موافقة لداعية الهوى والضغائن الواغرة في الصدور، فيكون سببا لحياة نفسين في هذه الناشئة، ولأن العرب كانوا يقتلون غير القاتل أحيانا، فإذا قتل عبد أو امرأة من قبيلة، وكانت القبيلة ذات شوكة وحمية لا ترضى إلا أن تقتل في مقابلة العبد حرا، والمرأة رجلا، وربما قتلوا جماعة بواحد، فتهيج الفتنة، وتشتعل بينهم حرب البسوس، فإذا كان القصاص مقصورا على القاتل فاز الباقون بالحرية في حياتهم واطمأنوا بها.
والقصاص كما يقع عند الفتك بالأرواح يجري في الجراحات والجناية على الأطراف، قال الله تعالى:
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ، وهذه الآية يشملنا حكمها، وإن نزلت تبيانا لما كتب على الأمة الإسرائيلية؛ لأن ما يقصه الله علينا من شرائع الأمم المتقدمة، ولم يرد في الشريعة الإسلامية ما يخالفه - أخذنا به أسوة، وكان العمل بموجبه ضربة لازب.
ولمكان العناية بحفظ الدماء بنيت أحكامها على أساس الاحتياط؛ حتى لا يجد الأشقياء ذريعة إلى إهدارها، ومن هذا اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد، وإن كان القصاص يقتضي المساواة، وقتل عمر بن الخطاب سبعة من أهل صنعاء، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به. ويقتص ممن قتل في حال سكر وإن لم يكن متعمدا؛ لئلا يتخذ السكر وسيلة إلى إنهار الدماء في سبيل الأغراض.
وشرع الإسلام الدية على القاتل تخفيفا ورحمة، وأقامها مقام القصاص إذا رضي بها أولياء القتيل وآثروها على الأخذ بالثأر، فقد تكون الدية أصلح لهم من القصاص وأجدى نفعا، زيادة عما فيها من إبقاء نفس مسلمة تتناسل ذريتها في الإسلام.
هذا حكم القاتل عمدا تؤخذ الدية من ماله ويجلد مائة ويسجن سنة كاملة مزجرة له عن إتلاف النفس بغير حق، وأما إذا قتل خطأ فتفرض على العاقلة من قرابته، وليست الدية في قتل الخطأ من قبيل العقوبة على الذنب، حتى يشكل علينا وضعها على العاقلة بقوله تعالى:
ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ونحوه من النصوص الدالة على أن الإنسان لا يؤخذ بزلة غيره، ولكنها فرضت للأخذ بخاطر المصابين وتخفيفا لوقع المصيبة عليهم، وإن كانت لا تخلو من حكمة التضييق على الجاني؛ ليأخذ حذره، ولا يتساهل في إهدار الدماء المعصومة. وإيجابها في ذمة القاتل وحده وهي مقدار جسيم من المال يضر به كثيرا؛ إذ لا يؤمن أن يتكرر خطؤه فتأتي على جميع ماله، وعدم قصده للجناية عذر يقتضي التخفيف عنه والرفق به، فناسب إيجابها على من عادتهم القيام بنصرته عند الشدائد، وهم عاقلته، ففرضت في أموالهم على وجه المساعدة والصلة الواجبة بحق القرابة، كما وجبت النفقات على بعض الأقارب، وكما يجب فكاك الأسير من بلد العدو.
لا يحل دم امرئ إلا لأسباب تكون الفتنة فيها أشد من القتل، مثل الزنا من المحصن، فإن الزاني يبذر نطفته على وجه تجعل النسمة المخلقة منها مقطوعة عن النسب إلى الآباء، والنسب معدود من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد، فكان السفاح سببا لوجود الولد عاريا من العواطف التي تربطه بأولي قربى يأخذون بساعده إذا زلت به نعله، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه، وفيه جناية عليه وتعريض به لأن يعيش وضيعا بين الأمة مدحورا من كل جانب، فإن الناس يستخفون بولد الزنا، وتنكره طبائعهم، ولا يرون له في الهيئة الاجتماعية اعتبارا. ثم إن الغيرة التي طبعت في الإنسان على محارمه، والحرج الذي يعلو صدره عند مزاحمته على موطوءته مظنة لوقوع المقاتلات وانتشار المحاربات؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج وذوي القرابة من العار الفظيع والفضيحة الكبرى، فاقتضى هذا الفساد الناقض لقاعدة العمران أن يفرض له حد وجيع هو الرجم إن كان ثيبا ، وهذا من الحدود المتوارثة في الشرائع السماوية كالقصاص والقطع في السرقة، وأما إن كان بكرا فيجلد مائة، قال تعالى:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، واكتفي بإيلام بدنه بالجلد، ولم يعاقب بالقتل؛ لأنه لم يتقدم له نكاح كالثيب عرف به طريق العفاف، وشاهد منه كيف يقع الاستغناء عن الفروج المحرمة، وهذا شيء من العذر فارق به الثيب، وأوجب له عصمة دمه.
الحرية في الدين
قرر الإسلام في معاملة الأمم التي يضمها تحت حمايته حقوقا تضمن لهم الحرية في ديانتهم، والفسحة في إجراء أحكامها بينهم، وإقامة شعائرها بإرادة مستقلة، فلا سبيل لأولي الأمر على تعطيل شعيرة من شعائرهم ولا مدخل للسلطة القضائية في فصل نوازلهم الخاصة، إلا أن يتراضوا عن المحاكمة أمامها، فتحكم بينهم على قانون العدل والتسوية، قال تعالى:
وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ، وإبقاء المحكومين على شرائعهم وعوائدهم منظر من مناظر السياسة العالية، وباب من أبواب العدالة يدخلون من قبله إلى أكناف الحرية، وتذكروا إن شئتم قوله تعالى:
قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، فجزاء السرقة في دين يوسف عليه السلام هو مضاعفة الغرم على السارق، كما روى الكلبي، وفي رواية: ويضرب. وجزاؤه في شريعة يعقوب عليه السلام أخذ السارق واسترقاقه سنة، وسؤال أصحاب يوسف عليه السلام إخوته عن جزاء من يوجد عنده الصواع ليعاقب به وعدم إجراء حكم دين الملك عليه مبني على رعاية معاملة المحكومين بشرائعهم.
الإسلام يحل للمسلم أن يتزوج المرأة من أهل الكتاب مع استمرارها على دينها والتمسك بعقائدها، ولا يسمح له بهضيمتها في أمر تستدين به أو انتقاصها حقا من حقوق الزوجية، بل تتقاسم فيها امرأته المسلمة قسمة عادلة.
الإسلام يمنح المسلم أن يعطي لغير المسلم عهدا بتأمينه، ولا مساغ لأحد بعد ذلك في نقض ميثاقه أو تبديل شرطه، بل يحتم السعي في تأكيده ورعايته، وفي الحديث الشريف: «إن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم.»
تنظر إلى أبواب الشريعة فتبصر في جملتها أحكاما كثيرة مبنية على التسامح مع غير المحاربين، تطالع أبواب الهبة والوقف والوصية، فتستفيد من أحكامها أن الإسلام لم يقتصر على إباحة معاملتهم بمعاوضة، بل أجاز للمسلم أن يهب جانبا من ماله، أو يوقفه، أو يوصي به لبعض أهل الذمة ويجب تنفيذه والقضاء بصحته، وأحل لنا طعام الذين أوتوا الكتاب، وأن نطعمهم، قال تعالى:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ، وأمر بالإحسان إليهم والرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف والرحمة واحتمال إذايتهم في الجوار على وجه الكرم والحلم، وحرم الاعتداء عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم. وحكى ابن حزم في مراتب الإجماع أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صونا لهم.
فمن نظر في طبيعة الإسلام جيدا، تحقق صفاء سريرته من مقاصد تضرم في أحشاء أهله جمرة التعصب الباطل ضد ديانة أخرى، كما يزعم بعض من لم يسمعوا دعوته إلا من وراء حجاب.
وشدد الإسلام العقوبة على من ارتد عن الدين بعد أن لبس هديه القويم، فأمر بدعوته إلى الإنابة والتوبة، فإن رجع وإلا ضرب بالسيف على عنقه، وإنما جبر المرتد على البقاء في الإسلام؛ حذرا من تفرق الوحدة واختلال النظام، فلو خلي السبيل للذين ينبذون الدين جهرة ونحن لا نعلم مقدار من يريد الله أن يضله نخشى من انحلال الجامعة وضعف الحامية، وأهل الردة وإن أصبحوا كاليد الشلاء لا تعمل في الجامعة خيرا، لا يخلو بقاؤهم في شمل المسلمين وهم في صورة أعضاء صحيحة من إرهاب يلقيه كثرة السواد في قلوب المحاربين، ثم إن لكل أمة سرائر من حيث الدولة لا ينبغي لها أن تطلع عليها غير أوليائها، ومن كان متلبسا بصفة الإسلام شأنه الخبرة بأحوال المسلمين والمعرفة بدواخلهم، فإذا خلع ربقة الدين وقد كان بطانة لأهله يلقون إليه سرائرهم اتخذه المحاربون أكبر مساعد، وأطول يد يمدونها لنيل أغراضهم من المؤمنين. هذا تأثير أهل الردة على الإسلام من جهة الدولة والسياسة. وأما تأثيرهم عليه من جهة كونه دينا قيما، فإن المرتد يحمله المقلدون من المخالفين على معرفته بحال الدين والخبرة بحقيقته تفصيلا، فيتلقون منه كل ما ينسبه إليه من خرافات وضيعة، أو عقائد سخيفة يختلقها عليه بقصد إطفاء نوره، وتنفير القلوب منه، ولما كان عثرة في سبيل انتشار الدين وجبت إماطته كما يماط الأذى عن الطريق.
وفي جعل عقوبة المرتد إباحة دمه زاجر للأمم الأخرى عن الدخول في الدين مشايعة للدولة ونفاقا لأهله، وباعث لهم على التثبت في أمرهم، فلا يتقلدونه إلا على بصيرة وسلطان مبين؛ إذ الداخل في الدين مداجاة ومشايعة يتعسر عليه الاستمرار على الإسلام وإقامة شعائره.
وأنت إذا جئت تبحث عن حال من ارتدوا بعد الإسلام لا تجد سوى طائفتين: منهم من عانق الدين منافقا، فإذا قضى وطره أو انقطع أمله انقلب على وجهه خاسرا. وبعضهم ربي في حجور المسلمين، ولكنه لم يدرس حقائق الدين، ولم يتلق عقائده ببراهين تربط على قلبه ليكون من الموقنين، فمتى سنحت له شبهة من الباطل تزلزلت عقيدته، وأصبح في ريبه مترددا، وارجع بصرك إلى التاريخ كرتين، فإنك لا تعثر على خبر ارتداد مسلم نبت في بلد طيب نباتا حسنا.
الحرية في خطاب الأمراء
لا يخفى على متشرع بصير أن الملك والدين أخوان يشد كل منهما بعضد الآخر، بل الدين رائد للملك، والملك تابع للدين خادم له، وإن شئت فقل: هما كمثل إنسان الدين عقله المدبر والملك جسمه المسخر له، وذلك الإنسان هو ما نسميه الآن بالإسلام، فبمقدار ما ترتبط الإدارة السياسية بالإدارة الدينية يكمل شبابه وتجري روح الاستقامة في أعضائه، فتصدر أعماله قرينة الحكمة، سالمة من العيوب، ومتى انفكت أولاهما عن أخراهما انحلت حبوته وتناثرت أجزاؤه تناثر خرز مكورة على سطح محدب، فمن صعد نظره في عصر الخلفاء الراشدين يجد السبب الذي ارتقى بالإسلام وانسجم به في سبيل المدنية هو ما انعقد بين الدين والخلافة من الاتحاد والوفاق، ومن ضرب بنظره فيما يشاء من الدول التي حمي فيها وطيس الاستبداد، يجد المحرك لتلك الريح السموم والعثير المشوم ما اعترض بين هاتين السلطتين من الاختلاف.
كان موضع العناية ومحل القصد من الإمارة في نظر أولئك الخلفاء ومن حذا حذوهم كعمر بن عبد العزيز هو خدمة الدين الذي هو خادم للعدالة التي هي خادمة لصلاح العالم، قال الشيخ قبادو التونسي:
وما الجاه إلا خادم الملك لائذا
وما الملك إلا خادم الشرع حزمه
وما الشرع إلا خادم الحق مرشدا
وبالحق قام الكون وانزاح ظلمه
ولما انطوت أحشاؤهم على هذا المقصد الجميل، أطلقوا سراح الرعية في أمرهم بالمعروف وإحضارهم النصيحة، مثل ما سبق في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكقول عمر بن الخطاب: «أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، وإحضاري النصيحة، وأعينوني على أنفسكم بالطاعة.» وكانوا يوسعون صدورهم للمقالات التي توجه إليهم على وجه النصيحة والتعريض بخطأ الاجتهاد، وإن كانت حادة اللهجة قارصة العبارة.
عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد رضي الله عنهما، وكان أميرا على قنسرين، ولم يجد عمر بدا من الاعتذار عن ذلك بمحضر ملأ من المسلمين؛ حذرا مما عسى أن يقدح في بعض الظنون، فقام وخطب خطبة في شأن العطاء، وألقى في آخرها بالمعذرة، فقال: «وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فنزعته منه، وأمرت أبا عبيدة ابن الجراح.» فقام أبو عمر بن حفص، وكان ابن عم لخالد فقال: «والله ما اعتذرت يا عمر، ولقد نزعت عاملا استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم » إلى أن قال: «وقطعت رحما وحسدت ابن العم.» فقال عمر: «إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك.» ولم يزد على أن التمس لمناقشته وجها وردها ردا لينا، وأخيرا قدم خالد بن الوليد إلى عمر، وحصحص الحق أنه نقي الراحة بريء العهدة مما ظن به، وبذلك كتب عمر إلى الأمصار .
ثم خلف من بعد أولئك خلف عرفوا أن فطرة الدين وطبيعته لا تتحمل شهواتهم العريضة، وألفوا بلاط الملك فسيح الأرجاء بعيد ما بين المناكب، ولكنه لا يساعفهم على أغراضهم وتتبع خطواتهم ما دامت أوصاله ملتحمة بالإدارة الدينية، ولم يهتدوا حيلة إلى فارق بينهما سوى أن يسدوا منافس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون دعاة الإصلاح، وابتكروا ضروبا من الخسف وأفانين من الإرهاق كانوا يهجمون بها على الناس هجوم الليل إذا يغشى، وإذا سمعوا مناديا ينادي ليحق الحق ويبطل الباطل كلموه بألسنة السيوف.
ولما أبق الملك من حضانة الدين وخفقت عليه راية الاستبداد، خالط الأفئدة رعب وأوجال، كأنما مزجت بطينتها، فبعد أن كان راعي الغنم يفد من البادية وعصاه على عاتقه، فيخاطب أمير المؤمنين بيا أبا بكر ويا عمر ويا عثمان، ويتصرف معه في أساليب الخطاب بقرارة جأش وطلاقة لسان وسكينة في الأعضاء، أصبح سيد قومه يقف بين يدي أحد الكبراء في دولة الحجاج فينتفض فؤاده رعبا، ويتلجلج لسانه رهبة، وترتعد فريصته وجلا، يخشى أن يكون فريسة لبوادر الاستبداد.
ولا نجهل أن القرون السالفة تمخضت فولدت رجالا تمتلئ أفئدتهم غيرة على الحق والعدالة، فصغرت في أعينهم أبهة الملك، وازدروا بما يكتنفها من أدوات الاستبداد، فجاهروا بالنصيحة المرة، وخففوا من ويلات المنكر نصيبا وافرا؛ كالقاضي أبي الحسن منذر بن سعيد البلوطي المتوفى سنة 355، وكنت تعرضت إلى نبذة من سيرته في مجلة السعادة عدد 17، ومثل القاضي أبي بكر الطرطوشي صاحب كتاب «الحوادث والبدع»، ولكن هؤلاء الرجال لم يبلغوا النصاب الكافي لإصلاح شأن أمة عظيمة، وما كانوا إلا أمثلة نادرة يضربها الله لدعاة الإصلاح لعلهم يتذكرون.
آثار الاستبداد
إذا أنشبت الدولة برعاياها مخالب الاستبداد، نزلت عن شامخ عزها لا محالة، وأشرفت على حضيض التلاشي والفناء؛ إذ لا غنى للحكومة عن رجال تستضيء بآرائهم في مشكلاتها، وآخرين تثق بكفاءتهم وعدالتهم إذا فوضت إلى عهدتهم بعض مهماتها، والأرض التي اندرست فيها أطلال الحرية إنما تأوي الضعفاء والسفلة، ولا تنبت العظماء من الرجال إلا في القليل، قال صاحب لامية العرب:
ولكن نفسا حرة لا تقيم بي
على الضيم إلا ريثما أتحول
فلا جرم أن تتألف أعضاء الحكومة وأعوانها من أناس يخادعونها، ولا يبذلون لها النصيحة في أعمالهم، وآخرين مقرنين في أصفاد الجهالة يدبرون أمورها على حد ما تدركه أبصارهم، وهذا هو السبب الوحيد لسقوط الأمة، فلا تلبث أن تلتهمها دولة أخرى، وتجعلها في قبضة قهرها، وذلك جزاء الظالمين. ثم إن الاستبداد مما يطبع نفوس الرعية على الرهبة والجبن، ويميت ما في قوتها من البأس والبسالة.
فمن في كفه منهم قناة
كمن في كفه منهم خضاب
فإذا اتخذت الدولة منهم حامية، أو ألفت منهم كتيبة، عجزوا عن سد ثغورها، وشلت أيديهم من قبل أن يشدوا بعضدها.
وإن أردت مثلا يثبت فؤادك ويؤيد شهادة العيان، فاعتبر بما قصه الله تعالى عن قوم موسى عليه السلام، لما أمرهم بالدخول للأرض المقدسة وملكها، كيف قعد بهم الخوف عن الطاعة والامتثال، وقالوا: إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها. فمتى جئت تسأل عن الأمر الذي طبع في قلوبهم الجبن، وتطوح بهم في العصيان والمنازعة إلى قولهم:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، وجدته خلق الانقياد المتمكن في نفوسهم من يوم كانت الأقباط ماسكة بنواصيهم وتذيقهم من سوء الاستعباد عذابا أليما.
والأمة مفتقرة إلى الكاتب والشاعر والخطيب، والاستبداد يعقد ألسنتهم على ما في طيها من الفصاحة، وينفث فيها لكنة وعيا، فتلتحق لغتهم بأصوات الحيوانات، ولا يكادون يفقهون قولا.
وإذا أضاءت على الأمة شموس الحرية، وضربت بأشعتها في كل واد، اتسعت آمالهم، وكبرت هممهم، وتربت في نفوسهم ملكة الاقتدار على الأعمال الجليلة، ومن لوازمها اتساع دائرة المعارف بينهم، فتتفتق القرائح فهما، وترتوي العقول علما، وتأخذ الأنظار فسحة ترمي فيها إلى غايات بعيدة، فتصير دوائر الحكومة مشحونة برجال يعرفون وجوه مصالحها الحقيقية، ولا يتحرفون عن طرق سياستها العادلة.
والحرية تؤسس في النفوس مبادئ العزة والشهامة، فإذا نظمت الحكومة منهم جندا، استماتوا تحت رايتها مدافعة، ولا يرون القتل سبة إذا ما رآه الناكسو رءوسهم تحت راية الاستبداد.
ثم إن الحرية تعلم اللسان بيانا، وتمد اليراعة بالبراعة، فتزدحم الناس على طريق الأدب الرفيع، وتتنور المجامع بفنون الفصاحة وآيات البلاغة؛ هذا خطيب يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك شاعر يستعين بأفكاره الخيالية في نصرة الحقيقة، ويحرك العواطف ويستنهض الهمم لنشر الفضيلة، وآخر كاتب، وعلى صناعة الكتابة مدار سياسة الدولة.
ولم تكن ينابيع الشعر في عهد الخلفاء الراشدين فاغرة أفواهها بفن المديح والإطراء، وإنما ترشح به رشحا، وتمسح به مسحا، لا يظهر من فضيلة الحرية فتيلا، وما انفلت وكاؤها وتدفقت بالمدائح المتغالية إلا في الأعصر العريقة في الاستبداد.
ولما وقر في صدر عمر بن عبد العزيز من تنظيم أمر الخلافة على هيئته الأولى، لم يواجه الشعراء بحفاوة وترحاب، وقال: ما لي وللشعراء. وقال مرة: إني عن الشعر لفي شغل. انتجعه جرير بأبيات، فأذن له بإنشادها، وقال له: اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقا. وعندما استوفاها واصله بشيء من حر ماله، فخرج جرير وهو يقول: خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض. ثم أنشد يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه
وقد كان شيطاني من الجن راقيا
ومن مآثر الاستعباد ما تتجشأ به اللها، وتسيل به الأقلام من صديد الكلمات التي يفتضح لك من طلاوتها أنها صدرت من دواخل قلب استشعر ذلة وتدثر صغارا نحو: «مقبل أعتابكم»، «المتشرف بخدمتكم»، «عبد نعمتكم» ولا إخال أحدا يصغي إلى قول أحد كبراء الشعراء:
وما أنا إلا عبد نعمتك التي
نسبت إليها دون أهلي ومعشري
إلا ويمثل في مرآة فكره شخصا ضئيلا يحمل في صدره قلبا يوشك أن ينوء بما فيه من الطمع والمسكنة.
ومن سوء عاقبة الخضوع في المقال أن يوسم الرجل بلقب وضيع ينحته له الناس من بعض أقوال له أفرغ فيها كثبة من التذلل، وبذل الهمة. كما سموا رجلا باسم «عائد الكلب»؛ لقوله:
إني مرضت فلم يعدني واحد
منكم ويمرض كلبكم فأعود
ولا نجهل أن بعض من سلك هذا المسلك من التملق والمديح اتخذه سلما ليظفر بحق ثابت، ولكنه لا ينافي الغرض الذي نرمي إليه من أن الحقوق في دولة الحرية تؤخذ بصفة الاستحقاق، وفي دولة الاستبداد لا تطالب إلا بصفة الاستعطاف، ذلك الوزر الذي يحبط بفضل العزة التي نبهنا الله عليها، وأرشد من يريدها إلى أنها تطلب بالطاعة من الكلم الطيب والعمل الصالح، فقال تعالى:
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .
وعندما انتهت المسامرة قام الأستاذ الهمام صاحب التحريرات العالية الشيخ السيد محمد الطاهر بن عاشور، وألقى خطابا فائقا يقول فيه:
يا أيها الأستاذ النحرير، ويا أيها السادة
سرني أن أقف موقفي هذا لأمثل على مرأى من السادة الحاضرين مقدار الابتهاج والسرور بمسامرتكم الفائقة التي سمح لنا بها هذا النادي أو السامر الشريف، فسمعنا منها فلسفة حقيقية لمبدأ عظيم من مبادئ شريعتنا الإسلامية، وشاهدنا مثالا صحيحا للفصاحة والبلاغة العربيتين يحيي من الأمل بحياة اللغة العربية متى ساعدتها عزيمتكم وعزيمة معضديكم من رجال النشأة العلمية المستنيرين.
ولأفصح بعبارات ملؤها الإعجاب والثناء عن مقدار سروري بما شاهدته، وشاهده العارفون من نتائج هاته الجمعية التي تحقق آمال بلوغها شأوا من الرقي وإيقاظ العيون الوسنة إلى غايات العمل واكتساب فخر خدمة الأمة خدمة صادقة. فلقد مضت علينا عصور اعتدنا فيها تضاؤل المشروعات الناشئة حتى خلق فينا إشفاق شديد على كل مشروع جديد من مشروعاتنا الخيرية، ولكن هاته الجمعية قد قارنت منذ نشأتها من جلائل الأعمال ما جعلها محل الإعجاب عوض أن تكون موضع الإشفاق.
وعندي أن أكبر معين لها على أعمالها هو تأسيس هذا النادي، الذي تسهلت به لديها عقبات التفاهم والمجادلة فيما يعود لخير الأمة وتقدم المعارف. وقديما ما كانت النوادي مبعث أشعة النور سواء في الأمة العربية التي كانت أقامت النوادي لمهماتها في القرن الثاني قبل الهجرة، وأول من أقامها قصي بن كلاب الذي أسس وحدة قريش، ورد عنهم الأيدي الطاغية من خزاعة، وسمي أول ناد لهم في مكة بدار الندوة.
أما في الأمم الغربية فإننا لا ننسى ما كان لتأسيس النوادي من الشأن الكبير في النهضة الفرنسوية عند إقامة دعائم الجمهورية الأولى، ومن أشهرها يومئذ نادي اليعقوبيين، وفي تسمية النادي في اللغة الفرنسوية بما يرادف كلمة دائرة سر لطيف من معاني الوفاق والتساوي والإحاطة اللازمة لأجزاء الدائرة كلها.
ولقد ظهر بهذا النادي من مسامرات علمية في أمد وجيز ما خلد له ذكرا ساميا، وأخص بكلامي ما ظهر فيه من مواهب الأساتذة المتنورين من أهل العلوم العربية، وما حققوه من المباحث في نقد التاريخ وفلسفة العمران الإسلامي، وهذه مسامرة الأستاذ النقاد هاته الليلة أعدل شاهد على ذلك. وفي الختام أقدم عبارات الشكر والثناء إلى جناب مدير المدرسة الصادقية المخلص الناصح وإلى السادة المستعربين من سراة النزلاء الفرنسويين الذين شرفوا نادينا في سائر حفلاته عن طيب نفوس وإخلاص ضمائر، والذين كان في حضورهم ما يحقق آمالنا من زيادة روابط الود بين الأمتين، خصوصا متى عرفوا معرفة اليقين كنه أخلاق المسلمين، فكذبوا بذلك أصحاب الغايات الشخصية المرجفين، وأرجو من قبول شكري وثنائي على سائر السادة الحاضرين.
Bog aan la aqoon