ثم تعالوا معي إلى دليل ثالث ، يؤكد أن الحج يصح في الأشهر الأربعة وهو قولة تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) التوبة 36 إن هذا يؤكد أن هذه الأشهر ازلية أبدية ، معلومة للملائكة وللأفلاك ولكل المخلوقات ، التي سبقت الإنسان ، ولا تزال معه مدى الزمان .
إنها مشهورة في السموات والأرض ، ومعروفة لمن وما بينهما من الخلق المدركين لما حولهم ، الموجودين قبل الناس ، فما بال الناس يظلمون أنفسهم فيهن ، وينسون حرمتها وجلالها ، ويجهلون معلوميتها.إن شهرتها وحرمتها وعددها معروفة عند كل خلق الله ، بل وقبل ذلك (عند الله) وهو الله أكبر من كل شيء ، وهو الله خالق كل شيء ، وهو الذي إختار لنا الدين القيم ، فكبروه ، واجعلوا الأشهر الحرم موسما لحجكم ، لتنالوا القرب عند ربكم ، وتزيحوا الظلم عن أنفسكم ، ثم (واعلموا أن الله مع المتقين) .
ثم تعالوا معي إلى سورة الفجر ، فإن شعاع الفجر هناك يكشف لنا سرا عن الحج ، وتشير لأيامه ولياليه بأسلوب بديع لنقرأ السورة من البداية : (والفجر) الكلمة جائت معرفة بالألف واللام (والفجر) ثم ماذا لنقرأ : (وليال عشر) إنها بدون ألف ولام ، إنها بدون تعريف كالأولى قبلها ، إنها بدون حرفي التعريف ( أل ) ثم إنها منكره (ليال) منكرة وصفتها (عشر) منكرة ، فالتنكير شمل الصفة والموصوف (وليال عشر) لماذا هذا؟؟ ... إنتظروا حتى نكمل المشوار ثم لنقرأ ما بعدها :(والشفع ) (والوتر) إنها مثل الأولى كلمة (والفجر) محلاة بأداة التعريف أي معرفة بالألف واللام ، ثم نأتي إلى الأخيرة وهي (والليل إذا يسر) الليل معرف كذلك بالألف واللام ، فلماذا.. لماذا هذا الأسلوب ؟؟
لماذا تعرفت الكلمة الأولى والأخيرات ، وتعرت الثانية عن التعريف ؟؟ إسألوا أنفسكم لماذا عرفت الكلمات المقسم بها كلها إلا كلمتي (وليال عشر)؟؟ لماذا عرفت التي قبلها والتي بعدها بالألف واللام؟؟ وهي لم تعرف مع أن الأسلوب الأمثل أن تعرف جميعا وهذا هو المناسب لقواعد البيان؟؟ لكن التنكير هو البيان ، فتنكيرها يعني أنها فعلا ليال عشر متكررة مع الشهور، وليست معهودة في شهر واحد ، فهي تتكرر في رجب وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي محرم ، وهي التي نعرفها بالأهلة التي هي مواقيت للناس والحج ، وما أشهر الحج إلا كل الأشهر الحرم الأربعة المعلومه عند الله وعند خلقة منذ خلق السموات والأرض ، ثم لنسأل أنفسنا من جديد ، لماذا لم يقل والليالي العشر ، بل قال وليال عشر؟؟ إن هذا لكي يخرجها من التخصيص لان الأشهر أربعة ، وليدلنا ويبين لنا أنها ليالي متكرره مع كل شهر حرام وهي موسم الحج العام.
وبعد ،،، هذه مجرد إشارات ، أصفها أمام المهتمين بشئون الحج في السعودية وسواها ، وأمام المسلمين في كل مكان من الأرض ، ولكل من عاصرنا فيها أو يأتي بعدنا عليها ، إن هذه قضية ستجعل الحج عاما للناس ميسورا ، وتجعل الزمن أمام الناس مفتوحا ، لا تضييق فيه ولا تقسير ، ولا تحديد للعدد ولا تقطير. إن الله قد حدد للحج المكان وعين حدود كل الشعائر والمواقع ، فعرفات له حدود ، ومنى ومزدلفه كذلك ، بل أن الحرم كله محدود بحدود ، ولكنه فتح للناس الزمن ووسع فيه ، لتظهر آيات الله ، فيكون الحج مفتوحا في الأشهر الأربعة ، فمن فرض فيهن الحج فمكانه محدود ، وسلوكه محدود (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
إن الزمان متعدد والمكان محدود ليقبل الناس على الحج بعدد أكبر وليتعلموا القبول بالآخر ، وليحسنوا في التعامل مع من حضر (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).وبذلك يكون لهم عند الله العليم السميع ، مقام رفيع ، (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) ولكي نعمل الخير فلا بد من التزود بشيء هام ، وهو قوله تعالى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) . أي لكي تحجوا وبعمل مقبول ، فإن زادكم هو التقوى ، وإنها فعلا خير زاد ، وكيفلا والله يقول في ختام الآية (واتقون يا أولي الألباب) وأولوا الألباب هم الذي يعرفون الله ويقدرونه حق قدرة ويعلمون أن الله يقول :(إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27
ثم إذا جئنا إلى آية التوبة المذكورة سابقا وهي (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم) التوبة 36 ستجد أنه قد جاء بعدها مباشرة قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 نعم لو جئنا على هذه الآية والتي قبلها ، وفهمنا مرادها ، وتدبرنا مرماها لمسنا وجلا من الله وخوفا على غفلتنا وإغفالنا هذه الأشهر الحرم فلم تعد لدينا أشهر حرم ، ولم نعد نحرم فيها ما حرم الله ، إننا في حالة نسيء ، وإذا كان الجاهليون يحلونه عاما ويحرمونه عاما فإن النسيء عندنا أصبح دائما ، ولا ندري أننا قد نسينا أنفسنا ، وزين لنا عملنا ، وأضحينا بعيدين عما يريد ربنا ، وعن فهم آياته البينات. وليت شعري ما الذي دهانا ، ومن الذي زين لنا سوء عملنا ، إنه حب الدنيا ، واتباع الهوى ، واتخاذنا الدين لهوا ولعبا وذلك شأن الكافرين ، الذين يقول الله عنهم وهم في جهنم يتمنون شيئا من ماء الجنة (إن الله حرمهما على الكافرين ?50?) من هم (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) ثم ماذا بعد (وما كانوا بآياتنا يجحدون ?51?) الأعراف 50/51 وهذا هو بيت القصيد ، فإننا بالآيات نجحد ، وفي الدين نلهو ونلعب ، وللدنيا نسعى ونتعب ، وهذا هو الذي يسوق إلى نار ذات لهب فاستيقظوا أيها النائمون على الشهوات ، قبل أن يوقظكم الموت وتدبروا آيات ربكم ، واقبلوا عليها قبل أن تدبروا عن الدنيا وتساقوا للقاء ربكم وتحاسبوا عليها ، وتقولوا (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) الأنعام 27
قد يقول قائل أنت تقول أن أشهر الحج هي الأربعة الأشهر الحرم ، مع أن الله يقول في سورة المائدة :(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله ولا الشهر الحرام) المائدة 2 فهو لم يقل الأشهر الحرم بل سماه شهرا فقال (الشهر الحرام) وقال في آية آخرى من السورة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) المائدة 97فلم يسم الله إلا الشهر الحرام ، ولم يقل الأشهر الحرم ، وهذا يدل على أن الشهر الحرام واحد هو ذي الحجة .لكني أقول لكم أن هذا الفهم لا يتفق مع معرفة اللغة ، فالمفرد قد يطلق ويراد به الجمع ، ويقصد به غرض بلاغي هو جعل المجموع كالواحد في الفضل، وكأن التفرق والتعدد لا يعني التفاضل ، بل كلها كأنها واحد ، وهذا ورد مع كثير من الآيات فقد جاء في سورة الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) 8 فقد جمع كلمة حرس وأفرد كلمة شديد ، مع أن المعلوم أن يقول (شدادا) لكنه وحد الصفة ليدلنا على أن تعدد الحرس لا يعني التفريط والغفلة ، بل كأنهم حارس واحد لا يحيد عن واجبه ، ولا يميل ، ثم جاء في الآية التي تليها (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) الجن 9 ... لقد أفرد كلمة (شهابا) وجمع الصفة فقال (رصدا) مع أن السياق يستدعي أن يقول (شهابا راصدا) لكن الإفراد للموصوف يوحي بأن كثرة الشهب لا تعني الفوضى ، ولكن تعني مزيدا من الحفظ ، فكان مجموع كل الشهب شهابا واحدا يرصد ، وهذا أبلغ في التعبير عن الحفظ والحراسة .
وكذلك كلمة الشهر الحرام. إن توحيد الشهر وإفراده يدل على أن كل شهر منها له الحرمه ، وله القيام ، وله ما لغيره بالتمام ، فكلها عند الله شهر واحد ، لها معنى واحد وهي أنها حرام ، ومحرم فيها كل ما حرمه الله من الأعمال ، والصيد والطعام ، كما هو معروف في آيات المائدة .ثم أن المفرد قد جاء محل الجمع في قوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) الفرقان 74 لماذا لم يقل (أئمة) وهو الأنسب للسياق؟!! لكن الإفراد هو الأنسب للسياق ، وللغرض البياني ، والهدف البلاغي ، فكأن كل الآباء والأبناء والذرية في التوحيد على الدين ، والتوحيد لرب العالمين ، واتباع سبيله المبين .. كأنهم جميعا في الناس إمام واحد ، لتوحد طريقهم واتحاد سبيلهم واستنارة قلوبهم بنور الله أجمعين ، أليس هذا أبلغ من أن يقول (واجعلنا للمتقين أئمة).
ذلك لأن التعبير بالجمع قد يوحي بتعدد الآراء واختلاف الطرق ، وتصرف السبل وهذا الوضع ، فهو الأمر المخل ، لكن الإفراد للكلمة أفاد مع الإيجاز ، توحد الرأي والدين والسبيل في كل العصور والأماكن ، وفي كل جيل.فكل إمام يخلف الأول ولا يبتعد عن الطريق وكل خلف يمد مهمة السلف بلا تفريق فهم موكب واحد لا يختلف وهم قلوب متوحده خلفا عن سلف ،وهم على سبيل سوية رغم تباعد العصور والأمكنة وهم متفقون ملتقون رغم توالي الأجيال والأزمنه وهكذا يتسع إفراد الكلمة في قوله (واجعلنا للمتقين إماما) ويدل على هذه الحقائق التي تذهل العقل إعجازا وبيانا .
Bog aan la aqoon