فالفلاح مرهون بذكر الله في كل حال، والصلاح مترتب على ذكر الله بلا ملال، حتى مع نحر الأنعام في كل مكان، وفي صيد الحيوان أوجب الله ذكر اسمه على كل إنسان:
(ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) [الحج: 34]. (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون) [الحج:36]. فالأكل الحلال مرهون بذكر اسم الله ذي الجلال. ولست بحاجة إلى مزيد من الآيات التي توجب ذكر اسم الله في كل الأعمال والمهمات وإذا كان الأمر كذلك في مهمات الدنيا وأعمال الناس العادية؛ فكيف يصح أن ينزل جبريل بالوحي من الله الجليل ثم يحمل آيات من سورة أو آية واحدة، مبتورة من ذكر اسم الله، مقطوعة من أي بداية بالبسملة؟.
إن هذا قول واهم، وزعم داهم، وظن ظالم، لا يليق بالله العليم الحكيم، ولا ينسجم مع شرف القرآن الكريم، ولا يتفق مع أدب الله لرسوله الكريم، الذي علمه ربه الخلق العظيم، وجعله على صراط مستقيم. إذن فالسور كانت تنزل كاملة، مبدوءة بالبسملة، متوالية آياتها إلى آخرها متواصلة، لا تنقطع عند آية، ولا تتوقف عند فاصلة، حتى تنتهي السورة بينة متكاملة، موضحة للموضوع مفصلة، وهذه هي الصفات التي وصف الله بها آياته البينات: (حم(1)تنزيل من الرحمان الرحيم(2)كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(3)) [فصلت]. (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) [هود:1]. (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) [الأعراف:52].ولهذا فإن القرآن يقرأ متواصل الآيات، مرتل الفقرات، وعلى من يسمعه أن يصغي ليستبين البينات، وينال من ربه الرحمات، ولقد كان النبي يقرأ على الناس سورا ليتضح لهم البيان ولعلهم يعقلون، ولهذا خاطبهم الله فقال على لسان رسوله الذي يقرأ ما يوحى إليه: (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) ثم يقول: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) [الأعراف:203- 204].ولكي يؤكد الله أن ذكر اسمه هو الواجب الذي يجب على الرسول التمسك به مع من اتبعه يختم السورة بذكر اسمه فيقول: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) [الأعراف:205].
وكيف لا يكون هذا هو مسلك الرسول المبلغ، ومتمسك الإنسان المبلغ (بفتح اللام)، وهو خلق الملائكة الذين يتنزلون بوحي الله، ويعملون ما يأمرهم به الله، (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) [الأعراف:206].فالعبادة الحقيقية لله هي في ذكر اسمه في كل حال بلا سأم ولا ملال، وهي التسبيح والسجود والاستماع والإنصات لقول الله المعبود، والعمل به في كل عمل خفي ومشهود، فهو مذكور مشكور محمود، في كل حال وحين إلى اليوم الموعود. فكيف لا يتنزل القرآن مبدوءا باسمه؟ وكيف يصح أن تنزل الآيات مبتورة من ذكر الله غير مبدوءة بالبسملة؟كلا إن هذا لا يقوله إلا الجهلة.
أكتفي بهذا لأنتقل إلى قضية أخرى تعزز ما أقوله في الموضوع، وتدمغ كل حديث وقول موضوع، أما القضية فهي ما أمليه عليكم من آيات بينات، تؤكد أن أسباب النزول ليست إلا رؤيات افتعلها الناس، وليس من الأمر أساس، وإنما هو من شر الوسواس الخناس، وأنا أدعوك معي يا أخي القارئ أن نقرأ معا أمام ذلك: (قل أعوذ برب الناس(1)ملك الناس(2)إله الناس(3)من شر الوسواس الخناس(4)الذي يوسوس في صدور الناس(5)من الجنة والناس(6)) [سورة الناس]. إنك تعلم أن هذه السورة هي آخر سور القرآن، وأن الله قد ذكر فيها ثلاثة من أسمائه الحسنى للاستعاذة به من هذا الشر الذي لا ترتضي به، إنها الأسماء: "رب الناس/ ملك الناس/ إله الناس". فالرب هو المدبر المقدر، والملك هو العلام المقتدر، والإله هو المعبود المتكبر، به وبأسمائه هذه علمنا أن نستعيذ من "الوسواس الخناس.."الخ الآيات، إن هذا هو عدو الإنسان الأول والأخطر، وهو الذي يجعله يكفر ويستكبر، ويفتري الكذب على الله ولا يفتر، فالوسواس هو الذي أخرج آدم من الجنة وهو الذي طوع لابن آدم قتل أخيه، وهو الذي سول لإخوة يوسف تشريد أخيهم بعد أن قرروا قتله. وهو الذي سول لكل المشرقين والمسرفين تكذيب الرسل والكفر بما أنزل وتفريق الناس شيعا، وتقطيع الدين قطعا، وتقسيم الوحي مزقا، (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون(53)فذرهم في غمرتهم حتى حين(54)) [سورة المؤمنون]. فهم بالخير لا يشعرون، فدعهم يلوكون المزاعم سادرين، وتعال معي إلى الحق المبين، لنكون معا ممن قال عنهم الله رب العالمين: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون(57)والذين هم بآيات ربهم يؤمنون(58)والذين هم بربهم لا يشركون(59)والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون(60)أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون(61)) [سورة المؤمنون].
نعم إن الوسواس الخناس هو الذي جعل الناس يتقطعون الأمر بينهم زبرا، ويجعلون القرآن قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، إن هؤلاء هم الذين يقول الله عنهم لرسوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) [الأنعام: 159]. لقد أملى عليهم الهوى الانحياز للقبلية العمياء، والعودة إلى الجاهلية الجهلاء، فإذا بهم يسخرون الآيات لنصر قبائلهم وقبليتهم، ويستخدمون التنزيل لتأصيل جاهليتهم، فإذا الله يذم فلانا ويمدح فلانا، ويهجو القبيلة الفلانية ويمدح العشيرة الفلانية، وكان الله شاعر من شعراء الجاهلية يمدح حين يرضى، ويهجو حين يؤذى، ويخص فلانا بما يرضاه وبما يعتز به بين قومه، ويصب على فلان سوط كلام يذل به بين أهله وقومه، كلا إن الله ليس منحازا لقبيلة أو عشيرة؛ ولكنه الله الذي له كل الخلق عبيد، وهو المدبر لكل موجود، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد؛ (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا).
وإن العبودية لله هي الوسام الذي يفرح به عباد الله، وهي الرحمة والفضل الذي يفرح به أولوا الألباب، الذين انفصلوا عن القبيلة والعشائرية والأنساب، وانحازوا إلى ربهم الوهاب؛ فكانوا له عبيدا وكل له أواب، وإليه المرجع والمآب، وعلى هداه يسيرون إلى السلام، ويحملون الحب والسلام للأنام، بلا عصبية للأقوام، ولا عبودية للطغاة والطغام، وبلا خضوع للظالمين، ولا ذلة للمستكبرين، بل عزة رب العالمين، مؤمنين بقوله المبين: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) [فاطر: 10]. إن الكلم الطيب هو مهوى المؤمنين الطيبين المنحازين لرب العالمين، وإن العمل الصالح هو المهتدي بالقرآن المبين، واليقين بأنه منزل مرتل الآيات كامل السور وليس عضين.إن من قسموا الآيات على أسابب نزول مزعومات، هم من الذين يمكرون السيئات، فلا تعجل على أعمالهم الماكرات، فالله يخصهم بقوله المنير: (لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور).
قد يقول قائل: هل أنت تنكر أسباب النزول، وكل العلماء بها يقول؟.وأقول على هذا التساؤل: إن الذي أنكره هو الأسباب المدعاة التي وصفها المنافقون ليجعلوا الآيات للأهواء تابعة، ومن ردود فعل لدى الله نابعة، ويجعلون الله يتأثر بأدنى واقعة، فينزل آية مسرعة، لتهدأ النفوس المتنازعة، لقد جعلوه كأنه رئيس حي شعبي أو عاقل جمع قروي، أو ربع بدوي، يتنازع الأفراد، فيأتيهم بالقول المراد، ويحتار المختصمون، فيفكر لهم في مخرج مما يحتارون، فيصيب أحيانا فيرضون، ويخطئ فلا يرضون، هكذا جعلوا الله رب العالمين، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل هو الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم السر وأخفى، وهو الذي له الحكم وله الخلق والأمر، وكل شيء به مسير مدبر، فكيف ينفعل بحدث عارض ويتأثر، كلا إن هذا قول لا يقوله إلا كافر جاهل ربه العليم القادر، مستهزئ بالقرآن الذي ينير البصائر، وبالرسول الذي أرسل بالبيان الباهر.
نعم أنا أنكر هذه الأسباب التافهة التي لا تليق بالله ولا برسله ولا بالملائكة، إنها أسباب لفقها المنافقون، وابتدعها المتنازعون على الدنيا؛ ليجعلوا من القرآن لهم سندا ، وليسخروا الوحي لأطماعهم ملتحدا. لقد استهزأوا بالله وآياته ورسله، وارتكبوا البهتان، وافتروا بإمعان، في البينات المنزلة فكانوا شر قوم كاذبين، وأضر على الدين من الكافرين. فليحذر العقلاء من مكرهم، وليتنبه أولوا الألباب من كيدهم، فإن الله أجل وأسمى من أن يجعل القرآن تبعا للغوهم، ومثارا لترهاتهم.
وبعد فإن إنكاري لأسباب النزول المفتراة لا يعني إنكاري لأسباب نزوله المقررة، لقد قرر الله أن أنزال القرآن له أسباب لديه لا تتغير، وله منابع عنده لا تتأثر، بل هي أسباب دائمة لازمة، ومقدرة مقررة مع كل أمة. فهو الذي بعباده الرحيم، وهو الذي بهم العليم، وهو الذي يرسل الرسل إليهم للإنذار من العذاب الأليم، وللتبشير بالنعيم المقيم. فكل حياة الإنسان بل رسل في خسران، وأن سلوكه بدون هدى الله يكتسي بالطغيان، وأن سعيه بدون الذكر المبين يتردى في العدوان، فإذا حياة الناس صراع وخراب، وإذا أعمالهم هباء وسراب، وطريقهم في ظلمات وارتياب، وبهذا تفسد الدنيا ويفسد المآب، ويسقطون جميعا في نار العذاب، والله لا يرضى لعباده الفساد والكفر، ولكنه يحب منهم الصلاح والشكر، ويرضى لهم نعمة الإسلام، ويأبى لهم الاعوجاج عن سبيل السلام؛ لهذا يرسل الرسل تترى، وينزل الكتب تتلى، وينزل معهم الحق والميزان، ليقوم الناس بالقسط ولا يطغوا في الميزان، وبهذا نجد الأدلة واضحة البيان، متلألئة في ثنايا القرآن، فلنقرأ قوله تعالى في سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) [الفرقان:1].
Bog aan la aqoon