وفي سورة يوسف نقرأ: (الر تلك آيات الكتاب المبين(1))، فهل الكتاب المبين يمكن أن يقطع كفل المقتسمين؟، الذين جعلوا القرآن عضين، كلا إنه منزل من رب العالمين. ولنتجاوز يوسف إلى الرعد، فإن فيها التعظيم لله والتسبيح، الذي ينزه الله عن الكلام الغير فصيح، ولنقرأ: (المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون(1)) واقرأوا بعدها صفات الله: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش (2)). فما معنى الاستواء؟ إنه يعني (يدبر الأمر(2))، وإنه يعني: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار(8)عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال(9) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار(10)). فمن هذا شأنه، هل يجوز عليه أن يتقطع قرآنه، وأن تبتر آيات السور؟. وهل يمكن أن يتوقف قوله وبيانه على فعل الناس وهم تحت سلطانه؟. كلا، فهو الحكيم العليم، الذي يعلم الحادث والقديم، والظاهر والسر المكتوم، ولا ينتظر لإصدار حكمه فعل عبد خاضع لحكمه، بل يحكم ويقرر للأول والمتأخر، فسنته لا تتغير وحكمه لا يتأثر بمؤثر، سبحانه فه والقدر المقدر، والعليم المدبر، يعلم ما تكسب كل نفس، وهو قائم على كل نفس، وحكمه اليوم كحكمه غدا والأمس.
ولننزل من الرعد إلى الحجر، فإنها للموضوع تنصر، ولنقرأ: (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين(1))، لن نزيد على هذه الآية تعليقا، ففيها الدلالة لمن له عقل ودراية، ولنغادر النصف الأول من القرآن، من النصف الثاني لنجد الاستمرار في البيان؛ ها هي سورة الشعراء تعلن من هناك التأييد في البداية والمنتهى؛ (طسم(1)تلك آيات الكتاب المبين(2))؛ وسورة النمل تنظم للموكب الجميل، وتبدأ بقول الله الجليل: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين(1)).
لعل من الأفضل أن أتوقف عند النمل، حتى لا أكلفكم الملل، وأنتقل إلى دليل أجمل وأكمل، ففي السور السبع الخواتيم تتحول الإشارة من آيات الكتاب إلى مجمل الكتاب لتدل على أن الآيات هي الكتاب والكتاب هو الآيات، فإذا بسورة غافر تبدأ: (حم(1)تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم(2)) ، ويأتي في الآية رقم 3: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد(4)). أليس في هذا ما يؤكد أن السورة تنزل آيات، وأن السورة تسمى كتابا ولا يسمى كتابا إلا ما اكتمل وتوالى واستمر حتى يكتمل البيان واضحا مفصلا، ولهذا بدأت سورة فصلت، بما يؤكد أن تواصلت: (حم(1)تنزيل من الرحمان الرحيم(2)كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(3)). فهل التفصيل والتنزيل من الرحمن الرحيم يصح عليه التقطيع والتقسيم؟. كلا، إن هذا لا يقول به إلا ذو الفهم السقيم.
ولنأت إلى الشورى، لنجد فيها الوحي يترى ويتوالى: (حم(1)عسق(2)كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم(3)). فهو وحي متصل في كل السور، ولكل سورة مدار ومحور، ولها بداية ومستقر، ولهذا ختمت الشورى بقوله تعالى:(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم(51)). فالعزيز الحكيم في البداية هو العلي الحكيم في النهاية، وبهذه العزة والعلو والحكمة يأتي بعده: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم(52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور(53)). فهل النور الهادي إلى الصراط المستقم، صراط الله العزيز الحكيم، يصح أن يقبل التجزؤ والتقسيم؟.كلا، وتعالى الله العلي الحكيم، ولكن زخرف الدنيا هو الذي شغلنا عن الفهم السليم؛
ولكن سورة الزخرف تنذر الغافلين فلتقرأ: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(3)). فالسورة آيات في كتاب مبين، والكتاب قرآن مقترن بعضه ببعض لمن يعقلون، ولا يمكن أن يعقل الكلام، وهو مقطع الأوصال والأقسام، كلا ولكن لا بد أن يكون كامل البيان والأحكام، رفيع المستوى والمقام، ولهذا قال الله موضحا باهتمام: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم(4)). فهل هذا المقام الرفيع للكتاب إلا دليل على أنه كامل البيان بلا ارتياب؟. ولهذا فإن الغافل عن هذه الآيات والبينات من الخاسرين، (ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين(36)). وعليه: فإن على الرسول وعلينا أن نكون به متمسكين، (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم(43). وكيف لا وهو كما يخبرنا ربنا العليم: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون(44)).
أما الدخان فإن للقرآن عندها شأن: (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين(3)فيها يفرق كل أمر حكيم(4)أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين(5)رحمة من ربك إنه هو السميع العليم(6)). من المعروف أن الإنزال في ليلة القدر لم يكن لكل الآيات، ولكن كانت فيها البدايات، والذي نزل هو بعض السور المكونة من آيات ، ولكن الله سماها كتابا، وقال إنه أنزله في ليلة مباركة مع أن الذي حدث فيها هو ظهور الإنزال ذي البركة، ولهذا فإن ليلته مباركة به، وهو مبارك بربه، وعلينا أن نعمل به، وإلا فإن قوارع العذاب لنا مرتقبة، وهذا ما ختمت السورة به: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون(58)فارتقب إنهم مرتقبون(59)). وهذه الآيات تؤكد أن بداية السورة متصلة بالنهاية.
أما الجاثية والأحقاف فقد بدأت بداية متحدة الكلمات والحركات والآيات، فلها بداية موحدة تتوج كل منهما، هي: (حم(1)تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم(2)). ومن الجميل أن سورة الجاثية تختم بما يشير إلى البداية بأسلوب محكم، مربوط بأولها بحرف الفاء الذي لا يفصم. (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين(36)وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم(37)). ثم إن العزيز الحكيم هي نفس الصفتين التي بدأت بهما آيات السورة، مما يؤكد أنها كاملة الصورة، فهل بعد هذا الربط المتين، نكون في توالي الآيات مرتابين؟! وقد قال الله رب العالمين، في سورة الجاثية لقوم يعقلون: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون(6)). إن هذا هو الناقور، الذي يدق الأذن الموقور، والقلب المثبور: (ويل لكل أفاك أثيم(7)يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم(8)وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين(9)).أليس في هذا ما يدل على أن السور كاملة الآيات؟، بينة الدلالات؟، تتلى الرسول متواليات؟، ليتلوها على الناس في كل الحالات؟، وهي تشع بالبينات، ولا ينقطع سيلها حتى تبلغ إليهم في كمال وثبات، فسبحان الله رب العالمين، الذي يهدي إلى الحق المبين، ويرسل الرسل المبلغين، ليكون الناس والجن على بينة أجمعين: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) [الأحقاف:35].
هذه هي السبع الخواتيم أو السبع المثاني، وهي في القرآن في النصف الثاني، تبدأ بكلمة كتاب. بينما السور التي في النصف الأول تبدأ بكلمة "تلك آيات الكتاب"؛ مما يدلنا على أن السور هي مكونة من آيات، وأن كل سورة تسمى كتاب، لنكون على علم أن السورة كاملة البيان، منظمة التبيان، متواصلة البنيان بلا انقطاع، وكيف لا ومنزلها هو الرحمن. ولقد نقول متأكدين أن السور القرآنية توصف بأنها آيات، ولم ترد فيها كلمة "الآية" المفردة إلا ويراد بها شيئا آخر غير آيات القرآن المتلوة. أعني أن كلمة "آية" التي ترد مفردة في القرآن، مثل قوله تعالى: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) [الأعراف: 103]. أو مثل قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) [البقرة: 106].
أقول: إذا وردت هذه الكلمة، وهي كلمة "آية" بالإفراد في القرآن؛ فإن المراد بها شيئا آخر غير آيات القرآن المتلوة، ولكن لها شأنا آخر وقضية أخرى وهي قضية بالقرآن متصلة.مع العلم أن هناك بحثا كتبناه حول هذه القضية الهامة أوردناه بصورة مستقلة ومفصلة، وقد ذيلنا به هذا البحث؛ لأن له صلة به كما ذيلناه بسرد مقتضب لمواضيع سورة البقرة مستدلين بذلك على أن السور نزلت متواصلة غير مبترة.ولعل من رجع إلى ذلك في ختام هذا البحث يجد فيه ما يشفي الغليل، ويروي العليل، بعون الله الجليل.
ولكني الآن سأواصل الاستدلال على أن السور نزلت كاملة المواضيع، بينة الدلالات، وسأستند إلى ما ورد في ذلك من الآيات؛ التي تؤكد أن القرآن كان يتلى آيات تتوالى وترتل على النبي وعلى الناس ترتيلا. يقول الله سبحانه لرسوله: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) [الإسراء:45]. وقال: (وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد) [الحج:16]. وقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم(15) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) [يونس:98]. وقال: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى(8)) [طه:1-8]. وقال: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) [الحج:72]. وقال: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) [الأنبياء:10]. وقد جاءت بعد قوله: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء:2].
Bog aan la aqoon