Human Rights in Islam by Abdelfattah Ashmawi
حقوق الإنسان في الإسلام لعبد الفتاح عشماوي
Daabacaha
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Noocyada
مدخل
...
حقوق الإنسان في الإسلام
الحلقة الأولى:
لفضيلة الشيخ/عبد الفتاح عشماوي المدرس بكلية الحديث الشريف
بما يلي نقدم أوَلا:
سبحان من لا أحد أصدق منه قيلا، ومن قوله عن الإنسان الذي خلقه: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ ﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾، فالموجد يعرف سر ما أوجده ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ .
فقد راح هذا الإنسان يضع لنفسه حقوقا، فجعلها على نفسه حتوفا.
راح يضعها وكأنه وضع لنفسه شيئا عجز خالقه عن أن يصنعه له.
فعل ذلك وكأنه راحم لنفسه أكثر من الذي كتب على نفسه الرحمة، سبحانه.
فعل ذلك وهو الضعيف المصنوع، وكأنه ينبئ صانعه بما لم يعلمه عنه ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ﴾ .
ذهب هذا الإنسان ينشئ لنفسه ما سماه (حقوق الإنسان)، لا لشيء إلا أنه مع ربه كثير الجدل طويل اللسان، ﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ .
وكأن القرآن العظيم والسنة السنية التي شرحته، وقد وسعا شؤون الدنيا والآخرة لم يسعا حقوقه.
وأخذ هذا القاصر (حقوقه) وقدمها إلى (هيئة الأمم المتحدة) لتقوم على هذه الحقوق وتؤديها له كاملة غير منقوصة.
فإذا بالإنسان قد استبان له بعد أن أفاق من غشيته أن هيئة الأمم المتحدة التي ائتمنها على حقوقه هي (هيئة أمم مختلفة)، لم تتحد يوما داخل مبناها، ولم يفد وجودها شيئا لنفسها، فهل تقيم حقوقا لكل إنسان في كل أرجاء الأرض؟ هي ومجلس أمنها المعروف؟!
إن الأرض ما ضجت بكل أصقاعها إلا من اعتداء الظلمة الجبارين والذين أوتوا من زينة الدنيا ما تربعوا به في مجلس (أمنها) فحولوه إلى مجلس (خوفها) والمسمون بالأعضاء الدائمين الناقضين لكل قرار لا يتفق وهواهم، لأن لهم من دون الدنيا حق نقض القرارات (الفيتو)، ولو هلك بهذا الفيتو المفتئت كل عداهم، بعد أن وضعوا حقوق الإنسان التي ائتمنوا عليها تحت نعال أحذيتهم أثناء جلوسهم في مجلس (الأمن) .
فمتى أخافت هيئة الأمم ومجلس أمنها معتديا وردته عن عدوانه وطغيانه؟. إن الصراع الإنساني، والتوحش البشري، والنزيف الدموي، والضواري التي افترست صغار غابتها، والشعوب التي محيت بأكملها،
45 / 187
والتشريد لأمم طردت من ربوعها ومهادها، ومقدسات غالية لطخها بالدنس أعداؤها، ومعتنقو الخسران من تشيع وتصهين يطاردون بني الإنسان تنكيلا وتمزيقا، أصبح هو السمت المميز والمبدأ المعتنق لحضارة إنسان القرن العشرين، كل هذا لم يحدث إلا في عهد الأمم المختلفة ومجلس خوفها، وهما القائمان على تنفيذ (المواد الثلاثين لحقوق العالمين) .
وقد أعدت هذه الهيئة العالمية بجربها هيئات إقليمية أخرى فسارت على نفس السليقة التي سارت عليها الهيئة الأم. كمجموعة (دول الكومنولث الإنجلوسكسونية) ومجموعة (دول الكومنفورم الشيوعية) ومجموعة (دول عدم الانحياز) و(المجموعة الأوروبية) و(منظمة الوحدة الإفريقية) و(منظمة الجامعة العربية)، وسواها.
هذا غير الأحلاف العسكرية، كحلف الأطلنطي لدول أوربا الغربية، وحلف وارسو لدول أوربا الشرقية، وحلف دول شمال شرقي آسيا، والحلف المركزي المسمى بحلف بغداد سابقا، وغير ذلك كثير من المنظمات والأحلاف المنتشرة في مختلف البقاع العالم.
وكل هذه المنظمات منقسمة على نفسها، حيث كل أعضائها ممثلون في الهيئة المختلفة الرئيسية، وهي المسماة (بهيئة الأمم المتحدة) والتي أنشأتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بعد توقفها ووضع أوزارها مباشرة، وذلك لتستمر لها الهيمنة السياسية بعد أن تمت لها الهيمنة العسكرية.
وليت الخلاف في الهيئة الأم وأشباهها من المنظمات الأخرى وقف عند التنابز بالألقاب فيما بينها، بل تنابزت بالمدافع والدبابات والمقاتلات في حروب متلاحقة بين أعضائها كانت وما زالت يهلك بها المشاركون في هذه المنظمات الآلاف من أبناء أممهم، فلم تربطهم المواثيق التي اتفقوا عليها إلا وهم متهالكون على المقاعد قبالة بعضهم عند عقد الاجتماعات، ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾، وبعد الافتراق يظهر أثرًا النفاق خرابا ودمارا، ولنكتف بضرب المثل بأقرب منظمتين بالنسبة لنا، منظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة الجامعة العربية، فلم تكد سنة تمر أو حتى بضعة أشهر منذ أنشئتا دون أن يقع قتال بين أعضائها يقتل فيه البراء، وتطفح به برك الدماء، وتؤول ديار عامرة إلى بلا بلاقع، هذا غير سباب بذيء تفضح به الأسرار، ويهتك به الأستار ينقله الأثير إلى سمع أهل الأرض، تلك هي أخوة بني الإنسان التي فج ضوءها الأزرق من (نيويورك) مقر لجنة حقوق الإنسان، والتي أفاءت من زرقتها المعتمة على الإنسان في جنبات الآفاق، بما في ذلك منظماته المتشاجرة، والتي لا تندمل لها جراحات، والذي نقول ليس بالمجهول، فالكل معنا له مثلنا أذن وعين، إلا أن بعض الحكام الموقعين على إعلان حقوق الإنسان ومنهم من هو في منطقتنا هذه أيضا، ينكلون بأبناء شعوبهم بأنواع من النكال لا أسمح لقلمي أن يسيل لها مداده، حيث لا تكاد تصدق أو تخطر ببال، فقد تعدى بعضها كل حدود الصفة البشرية، وما أظنها تقع من زواحف الأجحار، وكواسر الأحراش، حتى لا يظن التالي لكلماتي هذه أني قد قسوت في التعبير أو نبا القلم من يدي، إني سأكتفي بالتلميح الكافي عن التصريح، بما أنا موقن منه حق اليقين، حين سلب شرف وانتهك عرض والمعتدى عليه أو عليها مغلول بأصفاد في غيابة السجن، فقط لأنهم قالوا لحكامهم هذا حرام وهذا حلال، ولم يجد بشيء ذلك التوقيع على إعلان للإنسان في ورقة لتقرأ أو تنشر، فلم يصاحب ذلك خوف من الله بقليل أو كثير، زيادة على معظم مواد الإعلان التي وضعت لتميل حيث مال الهوى، كما سنوضح في هذا البحث إن شاء الله تعالى.
ما كان للإنسان الذي وضع أو الذي رضي بتلك، تاركا ما وضع ربه له من أجمل حقوق بلغت الغاية وأوفت الكفاية إلا أن يظل قابضا على جلد القنفذ الذي ظنه المنقذ من همومه وأنكاده، فهل يحيف الله على الإنسان لما
45 / 188
سخر له كل ما في سمائه وأرضه، بما نرى كل يوم ونسمع، ولكنه لم يقرَ ولم يقنع، وهل أنقص سبحانه شيئا فجاء الإنسان ليتم هذا النقص قد قرأ هذا الإنسان أو سمع أو علم ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾، ولكن لما كان الإنسان (ظلوما جهولا) اكتفى بحمل الأمانة قولا وأباها عملا، إلا الذين هم قليل ما هم.
وفي مراجعتنا لمواد حقوق الإنسان وجدناها متكررة متداخلة، وكنا عازمين قبل أن يتبين لنا ذلك جعل حديث منفرد عن كل مادة من الثلاثين، ولكننا وجدنا الكلام سيتكرر مع تكرار ما يشير إليه كثير من هذه المواد، فأثرنا أن نقسمها إلى مجموعات، كل مجموعة منها تشمل المواد المتقاربة الموضوع، فأصبحت عشر مجموعات بعشرة أبواب مرتبة هكذا:
الباب الأول عن المادتين، ١، ٢
الباب الثاني عن المواد، ٧، ٨، ٩، ١١،١٠
الباب الثالث عن المواد، ٣، ٥، ١٢
الباب الرابع، ٤، ١٨، ٢٠،٢١
الباب الخامس عن المادة، ١٦
الباب السادس عن المواد، ١٣، ١٤، ١٥
الباب السابع عن المادتين، ١٧، ٢٣
الباب الثامن عن المواد، ٢٢، ٢٤، ٢٥
الباب التاسع عن المادتين، ٢٦، ٢٧
الباب العاشر عن المواد، ٢٨، ٢٩، ٣٠
هذا وما قصدنا المقارنة بين ما وضع الله وما وضع الإنسان معاذ الله، فنكون قد خسئنا وخسرنا. لأن المقارنة بين الكائن والمكون في حكم العقل المجرد أمر محال، وإنما قصدنا أن نظهر كيف تفعل الحجة الدامغة بالحجة الداحضة، والله يخرج من قلوبنا سخائمها حتى تكون مصفاة من كدر الرياء، آمين.
وإن يعجب القارئ فعجب أن التاريخ الذي أعلن فيه حقوق الإنسان كان نفس التاريخ الذي أعلن فيه قيام إسرائيل على جثث وعظام الأمة الفلسطينية، والفلول التي بقيت منها قطَعت في الأرض هائمة على وجهها، والتاريخ هو عام ١٩٤٨م تاريخ حقوق على ورق أعلنت، وحقوق شعب بأكمله سرقت، أختطف وطن بأسره أرضا وزرعا وضرعا وديارا بعد أن أوغل فيه تذبيحا وتمزيقا، الأطفال قبل النساء والنساء قبل الرجال في قصة هي من أبشع ما حكت الدنيا من قصص التوحش اليهودي، فعل الصهيونيون ذلك عام إعلان حقوق الإنسان تماما ليفهموا كل الخليقة أنهم ليسوا من بني الإنسان حتى يتقيدوا بحقوق الإنسان، ولا زالوا ملتزمين بما طبعوا عليه من الفظاظة والقسوة ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾، هذا وصف خالقهم لهم، وتأكيدا لوصف خالقهم هذا ازدادوا على مر الأيام قسوة وضراوة حتى مزقوا القرآن، مع يقينهم من أنه كتاب الله بما قرؤوه في توراتهم، أما عن الأمم المتحدة فقد حضرت هذه المسماة بإسرائيل هذه الهيئة بأسوأ صور التحقير، لما وضعت تحت نعلها ما يزيد عن عشرين قرارا أصدرته ضدها هي ومجلس أمنها.
ذلك لأن السجية التكوينية لليهودي هي أنه لا يعيد ما سرقه إلا إذا جدعت أنفه، ولا يرد ما اختطفته يده إلا إذا كسرت ذراعه أو سلبته حياته، فليس داخلا في نظام دنياه لغة المحادثة أوالمفاهمة، وهل من عقل يتصور بأن هناك من يصدق القول عنهم أكثر من بارئهم، وصاحب الصنعة أدرى بسر صنعته ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، ثم نقل سبحانه سرهم التكويني هذا إلى رسوله محمد ﷺ حين قال له هذا القول العجب: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ
45 / 189
فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾ إذا ماذا لهم من علاج؟ ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾، إذا وهذا إخبار الله عنهم فالتعاهد والتوادد مع اليهود ضرب من المحال، ومحاولة لا تأتي إلا بأسوأ الوبال.
ولهذا لم يكن منه ﷺ بعد أن أمهلوه من الله بحلم طويل، وصابرهم ﵇ الصبر الجميل، إلا أن ينفذ أمر الله النازل إليه فيهم، فاستأصل شأفه شرهم، ومحا وصحبه أثرهم، وأزال من أرض الجزيرة كل ما عانوه من نجس ودنس، ذلك لأن اليهودي مخلوق فاقد الحياء مع الله والرسل والناس، فما من أمة سبت ربها بأبشع وأقذع ما يقال إلا َهم، وما من أمة قتلت الأنبياء غيرهم، فماذا تنتظر منهم أن يفعلوا بمن دون ذلك؟
فلن تصفو الحياة إلا إذا اختفوا من الحياة، فهل من مدكر؟
والآن نبدأ في تفاصيل البحث، طالبين العون من المستعان وأن يجعله عملا نافعا لمن كتب ولمن قرأ، بعد أن يجري القلم بصادق القول والقصد له وحده.
الباب الأول: المادتان الأوليتان من إعلان حقوق الإنسان ١- يولد جميع الناس أحرار متساوين في الكرامة، وقد وهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء. ٢- لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد، سواء كان هذا البلد أو تلك مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود. سنلاحظ أن هاتين المادتين وكثيرًا من مواد الإعلان ذات كلمات جميلة أخّاذة، ظاهرها الرحمة لبني الإنسان، وتلك حقيقة إن تمت، ولكنها لم تتم لأن باطنها شغف هؤلاء الناس بإلفات النظر إليهم على أنهم الإنسانيون المتمدينون دون من عداهم، ولهذا فهم يصدرون المبادئ الصالحة والتعاليم النافعة وقد ظنوا أننا من البلاهة بحيث لا ندرك أن المفيد من إعلانهم قد أعلناه منذ أربع مائة وألف سنة، أفاء الله به علينا رحمة ظاهرة وباطنة بواسطة رسول بنا رؤوف رحيم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ فأسبغ الله علينا به نعمة ظاهرة وباطنة، لمن يسمع ويقرأ ادّعاء ورياء، وباطنها ضد ظاهرها عداء واعتداء، حتى ألفاظ الإعلان وضعوها بصورة يوهمون بها بأنهم أوجدوها ولسيوا من عندنا أخذوها. وها نحن نبدأ حديثنا عن المادتين اللتين ذكرنا نصهما آنفا من إعلان حقوق الإنسان فنقول وبتطويل:
الباب الأول: المادتان الأوليتان من إعلان حقوق الإنسان ١- يولد جميع الناس أحرار متساوين في الكرامة، وقد وهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء. ٢- لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد، سواء كان هذا البلد أو تلك مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود. سنلاحظ أن هاتين المادتين وكثيرًا من مواد الإعلان ذات كلمات جميلة أخّاذة، ظاهرها الرحمة لبني الإنسان، وتلك حقيقة إن تمت، ولكنها لم تتم لأن باطنها شغف هؤلاء الناس بإلفات النظر إليهم على أنهم الإنسانيون المتمدينون دون من عداهم، ولهذا فهم يصدرون المبادئ الصالحة والتعاليم النافعة وقد ظنوا أننا من البلاهة بحيث لا ندرك أن المفيد من إعلانهم قد أعلناه منذ أربع مائة وألف سنة، أفاء الله به علينا رحمة ظاهرة وباطنة بواسطة رسول بنا رؤوف رحيم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ فأسبغ الله علينا به نعمة ظاهرة وباطنة، لمن يسمع ويقرأ ادّعاء ورياء، وباطنها ضد ظاهرها عداء واعتداء، حتى ألفاظ الإعلان وضعوها بصورة يوهمون بها بأنهم أوجدوها ولسيوا من عندنا أخذوها. وها نحن نبدأ حديثنا عن المادتين اللتين ذكرنا نصهما آنفا من إعلان حقوق الإنسان فنقول وبتطويل:
45 / 190
لو رجعنا إلى بداية الخليقة لنسلط عليها فكر الباحث لوجدنا أن صفتي التعنصر والتميز هما من وضع أعدى عدو لله وللخلق أجمعين، ذلك هو إبليس الرجيم اللعين، في قصته مع آدم لما ميَز نفسه بعنصره، حيث توهم الفرق بين العنصر الذي خلق منه وهو النار، والعنصر الذي خلق منه آدم وهو التراب، قال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، فأدت به هذه العنصرية إلى الطرد من رحمة الله، وعليه فالأصل في العنصرية أنها صفة إبليسية، ومن تلبس بها تأبلس، وإذا فقد يلحق به في الطرد من رحمة الله، تلك قضية واقعية لا نماري فيها.
ولكن انطواء هذه العنصرية أو انطلاقها على مدى الدهور، يكون حسب معرفة الإنسان لصانعه وأصل صنعته، فإذا ما أدرك قدرة الصانع الأعظم سبحانه، عرف ضلة نفسه باعتباره مصنوعا له، وإذا أدرك أصل صنعته وهو التراب، عرف تفاهة قدره، فلا موجب لديه يجعله يميز نفسه عن غيره فقد فهم أن الصانع واحد هو الله، وأن الأصل واحد هو التراب تدوسه النعال، كلكم لآدام وآدم من تراب، فإذا ما علم هذا وسيطر على الأفهام في أي عصر، سيطرت روح التآخي وهيمنت مشاعر التواصل، وانزوت نزوات التعالي والكبر، فقد اعتصموا بحبل الله جميعا ولم يتفرقوا.
أما إذا أخلد الإنسان إلى الأرض واتبع هواه، ونسي ربه الذي سواه، وأصبح فكره حبيس نفس غرور، ولم يخطر بباله ذلك الطين الذي خلق منه، حتى ولو ادعى بأن له دينا، فيمسي على الفور عنصر عصيا ومفرقا غويا، فيبدأ بتمييز ذاته عن ذوات الغير، فإذا انتقل داخل وطنه ميز مسقط رأسه، فإذا تنقل خارج وطنه ميز وطنه، فإذا انتقل خارج قارته ميز قارته، ثم لا ينسى أن يميز نفسه بلونه ولنا في هذا التفصيل يأتي عند الحديث عن المواد المتصلة بذلك.. بل بلغ الأمر إلى العيب على ما يرتديه الغير من زي لأنه ليس كما يلبس هو وقومه، بل وعلى نوع الطعام لأند مخالف لطريقة ما يطهى عندهم ويطعم، بل وعلى اللهجات يسخر منها حيث لم تكن كما ينطق هو ويتكلم، وهكذا أصبح يعيش في نفس غيابة نسيت عيبها، فقد نسيت خالقها وما منه صنعت، لأن عنصريته التي قام عليها كيانه لم تفهم صيحة القرآن في الناس ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ .
وأحب أن أتناول هذه الآية بتوضيح فيه بعض التفصيل، فقد حفظت هذه الآية حتى من غير المتعلمين؟ وأصبح يدلل بها في هذا المجال بصورة عامة لم تبين الكثير من جمال الآية، فالنداء العظيم في أولها بدأ أولا من الله إلى الناس، يذكرهم بأن الأب واحد والأم، آدم وحواء، أي كلكم أشقاء، ولما تكاثرتم نشرناكم في الأرض، فأصبحتم قبائل وشعوبا هنا وهناك، لكن ذلك لا ينسيكم أصل الأبوين، فتعارفوا لتشعروا أنكم على سواء، والأشقاء في النسب شيء واحد، لكن لن يكونوا شيئا واحدا إذا ما تحول التعارف بينهم إلى معرفة موجدهم الأعز، لأن معرفته تعالى تعطي صبغة الإيمان، وهي أعلى ما يعلو به الإنسان، ومن صبغة الإيمان هذه تأتي صورة التآخي، وهي أعلى من التعارف، لأن التعارف عام بين كل الناس والتآخي خاص بين المؤمنين ولو كانوا غير أشقاء، فقد يكون في الأشقاء من استقام ومن أعوج، بل قد يكون منهم من آمن ومنهم من كفر.
ولهذا سمت خصوصية التآخي على عمومية التعارف ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾ فإنَ تنافي في هذه الجملة القرآنية المعظمة أكدت معنيين، أولهما تأكيد مكانة الأخوة، وثانيهما أن تكون فقط بين المؤمنين، ومن هو تحت ذلك فيقف أمرهم عند التعارف، وأن نبرهم ونقسط إليهم ما لم يكونوا مقاتلين أو مخرجين لنا من الديار، وعندئذ فلا برَ ولا قسط، ولكن ذراع يرفع بالسلام لا ينثني ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾، وكمله، ﴿أَكْرَمَكُمْ﴾ في الآية تعطي واضح الفهم بأن المكرمات عند الله للمؤمنين الأتقياء رتب تتفاوت، وفي النهاية جعلت الآية أعلى الرتب في المكرمات لمن توقى من تقي إلى أتقى، فلم يقل سبحانه (تقيكم) وإنما قال ﴿أَتْقَاكُمْ﴾ لأن تقيكم مرتبه أدنى من أتقاكم، ولهذا جاءت الكلمتان ﴿أَكْرَمَكُمْ﴾ و﴿أَتْقَاكُمْ﴾ على صيغة تفضيل واحدة، أي الأعلى منزلة في الإكرام هو الأعلى درجة في التقوى جعلنا الله منهم- أما ختام الآية ﴿عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ فمتصل بما ذكر فيها عليم بخلقكم هذا الذي أخبرتكم بشيء منه، لكن خبرته بأتقاكم بها (هو أعلم بمن اتقى) فتصبح المعاني في الآية.. مرتبة بالخلق فالانتشار فالتعارف فعليكم تقوى من فعل وحده ذلك.؟
تلك هي الآية التي يقرؤها الكثير اليوم ولا يعيها، والله بها أعلم، فلما وعاها أهل القرآن يوما عملوا بها واتحدوا عليها، فتعاملوا مع غيرهم بنصفها الأول ومع بعضهم بنصفها الآخر، فلم يتفاضلوا فيما
45 / 191
بينهم إلا بعمل ما يطمع أحدهم به أن يكون من الأتقى
فلما صمَت الآذان عن هذه الآية وأمثالها المنظمة للأسرة البشرية كل حسب مكانه ومكانته، أصبحت السيادة الآن في هذه الدنيا لذئاب التمييز والعنصرية، وكان الشعار هو أن يأكل الكبير الصغير، وجاء إعلان حقوق الإنسان فزادت شراسة هذا الشعار بما لم يعد معه ثقة ولا أمن ولا أمان.
(فأيهما أنفع للإنسان؟ ما وضعه الله له؟ أم الذي وضعه هو لنفسه؟) ... ولما شاء الله تعالى أن ينزل من السماء نوره ليحمله إلى خلقه خير خلقه صلوات الله وسلامه عليه، حاولت هوام الظلام يومئذ أن تطفئ نور الله هذا، فتشعبت جوانب كيدهم منقضة جميعها على النور البازغ حديثا، في شخص الرسول ﷺ والقلة لا تملك من المنعة شيئا للدفاع عن نفسها وكان من أبرز جوانب هذه المعركة عنجهية الجاهلية، والتي انحدرت متعاقبة منذ القرون الأولى فكان أول اصطدامها بضدها في عصر نوح ﵇، وظل شرها المميز العنصري يتوارث ويظهر مع رسالة كل رسول، حتى الرسول الخاتم ﷺ، فأرادت أن تعمل معه عملها الذي تعودته مع غيره، فكانت أن لقيت حتفها تماما على يد نبي الإسلام بما نزل عليه من وحي قاصم لكل عتل غاشم، ومادمنا قد اكتفينا بضرب المثل بأول الرسل وبآخرهم عليهم جميعا سلام الله، فلنذكر شيئا مما وقع في ذلك، بادئين بنبي الإسلام ﷺ، لا تحيزا منا ولا تمييزا، وإنما مرسلهم سبحانه هو الذي فضلهم على بعض ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض﴾، فإنه وإن كان نبينا صلوات الله عليه هو الآخر في ترتيب الأزمنة، فهو الأول في ترتيب المنزلة، فقد وضعه القرآن قبلهم جميعا في قوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه﴾ فبدأ سبحانه الخطاب به قبل نوح ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾، ثم ذكر بعد ذلك نوحا والنبيين من بعده، وأيضا في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾، فالآية بالنبيين بدأت عامة؟ وعند الترتيب وضعت نبينا في أولى الدرجات قبل نوح ومن بعده ﴿وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيم﴾ إلى آخر الآية، وشمل ذلك رسل أولي العزم، وفي القرآن أمر رسولنا أن يقول: ﴿وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾، وأمر نوح أن يقول: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ .
ولقد عمدت إلى توضيح هذا حتى لا يتوهم أحد أننا نميز رسولنا لمجرد التمييز تعصبا منا كما يفعل أهل الأديان الأخرى لأنبيائهم، فنحن نؤمن بهم جميعا ولا نفضل إلا من فضل الله ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه﴾، والمقصود - والله أعلم بعدم التفريق هنا في مهمتهم الكبرى التي جاؤوا بها جميعا، وهي تعريف المخلوقين بالخالق ليوحدوه بلا ند ولا نظير، أما درجات أشخاصهم وشمول شرائعهم فهو تفضيل وليس بالتفريق، وقد عقد الله لنبينا في ذلك الأفضلية في شخصه وشريعته كما أوضحنا آنفا.
أعود فأقول إن أول ما بدأت تقاوم به دعوة الرسول الكريم كانت العنصرية، تلك الصفة التي لا يتشح بها إلا الجاهلون، وكل جاهلي في كل عصر، فقد صور الكفر للغلاظ من سادة قريش أن الفرق بينهم ومن أجابوا المنادي صلوات الله عليه من المساكن يمنع التساوي معهم بالدين الجديد، ومن هذا النوع قدم القرآن قصصا عنهم في أكثر من آية وأكثر من سورة، لكني اخترت البعض منها لأتحدث عنه اكتفاء بما نريد الوصول إليه في معرض هذا البحث.
فقصة الضعفاء التي أوردها علماء أسباب النزول في آيات سورة الأنعام البادئة بقوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ وما تلاها من آيات سنذكرها بعد، أسندوا روايتها بلفظ يختلف ومعنى يتحد إلى ابن حبان وأحمد والطبراني وابن جرير الطبري وابن أبي حاتم، عن الصحابة سعد بن أبى وقاص وابن مسعود وعكرمة وخباب ﵃ أجمعين.
تقول القصة: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث ابن نوفل، في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: "لو أن ابن أخيك يطرد هؤلاء الأعبد، كان أعظم في صدورنا
45 / 192
وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه"، فكلم أبو طالب النبي ﷺ، فقال عمر بن الخطاب: "لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون؟ " فنزل قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ..﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾، وكان هؤلاء الضعفاء الذين قصدوهم، هم بلال، وعمار ابن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصالح مولى أسيد، وعبد الله بن مسعود، والمقدام بن عبد الله، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وغيرهم، ﵃ جميعا وأرضاهم، فأقبل عمر فاعتذر، فنزلت فيه الآية ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا..﴾ إلى آخر الآية، انتهى لفظ القصة. ولنقرأ أولا الآيات كاملة، ثم نتناول بعضها بالتفصيل.
﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾؟
فالآية الأولى قدمت قضية الحقيقة أساسا، وهي أن الذي يخاف من يوم المحشر هو الذي يقبل دائما أن ينذر، والذين لا يخافون هذا اليوم لا تغنيهم النذر ولا ينتفعون بها ﴿وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾، ثم يأتي بعد ذلك في الآية موضوع الطرد ليصحح الوضع، فالذين قبلوا الإنذار خوفا من يوم الحشر دخلوا في رحمة الله، فلا يملك أحد طردهم منها ولا الرسول نفسه، فأمره سبحانه أن يبقيهم في حضرته حتى لا يحرموا من تلقي الخير الهابط من السماء يقدمه إليهم من ربه، وأخبره بأنه سيكون ظالما لو طردهم، أما المستحق حقيقة للطرد فهو الذي عصى النذير، لأنه لا يخاف أن يحشر فتكبر، فكان أن طرد من حضرة الرسول ومن جنة ربه، وهكذا سدد الإسلام وفي أول ظهوره ضربة ماحقة إلى من تحمله العجرفة على تمييز نفسه وتحقير غيره.
ودور عمر ﵁ في القصة هام، فقد استولت عليه الرهبة لما نزلت الآيات تخالف رأيه، عندما قال: "لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون" فأسرع واجفا إلى النبي ﷺ يعتذر إلى الله بين يديه، فتنزل الآية بقبول اعتذاره، لكن بعد أن ذكرت أن ما وقع من عمر كان سوءا، فلما علم الله أن هذا السوء غير منوي، وإنما وقع بغير عمد من صحابي ولي، شرفه في نهاية الآية بالمغفرة له وإحلال الرحمة عليه، فقد خاطب سبحانه نبيه في شأن عمر قائلا: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإَِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فإذا كان ما أراده عمر ﵁ هو استدراج المتعالين لعلهم يؤمنون، ومع ذلك أعتبر الله عمله سوءا يوجب التوبة، ولم يشفع لعمر منزلته عند الله وعند رسوله إلا التوبة مما قال، فكيف بمن يشمخون اليوم ويتميزون، ومن يمدونهم في طغيانهم بالملق والزلفى؟، أظن لهم ميعاد يوم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
أما الذين قالوا لنبيهم نوح ﵇: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ وقالوا له: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ﴾ . رد نوح عن الأولى بشجاعة حملة الحق ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾، ملاقوا ربهم لينتصر لهم ممن يهزأ بهم، وهو نفسه علم أنه لن يسلم من أمر يفعله الله به إذا رضخ لقومه وطرد الضعفاء ﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ؟﴾ .
فهو ﵇ أدرك بأن النصر مؤكد لهؤلاء الذين ازدري بهم، وأن نبوته لن تغني عنه شيئا إذا عصى الله وطردهم، ثم لكي يغيظهم بدفاعه عن الضعفاء بدَل كلمة (الأرذلين) منهم بكلمة (المؤمنين) منه لما قال: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في آية ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في أخرى، بل ورد الإهانة عنهم بأن وصم خصومهم المستهزئين بهم، بالجهل مرة، وبعدم الفهم والتذكر ثانية ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ ثم، ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ .
45 / 193
وبعد الذي قدمه القرآن عن نبينا وعن نوح صلوات الله عليهما، وهما الرسولان اللذان حصرا الدنيا بكاملها بين رسالتيهما نسأل: أيهما أرفع وأنفع، وأكرم وأدوم، ما وضعه الله للإنسان، أم ما وضعه الإنسان لنفسه.
لقد مشت على هذا الصراط أمتنا الإسلامية سنين عديدة، لم يقم وزنا لحسب ولا عصب، اختفت في مجتمعها القومية وارتقت الربانية، إلى أن بدأ المسلمون ينسلَون من دينهم رويدا عصرا بعد عصر، وبدأ ثعبان العصبيات والقوميات يخرج من حجره، والذي حبسته في حجره طويلا تعارف الإنسان وأخوة الإسلام، إلى أن جاء عصرنا فحرص أعداء الإسلام والمستعمرون الذين احتلوا معظم رقعه الأرض الإسلامية أحقابا طوالا، ألا ينجابوا عنها إلا بعد أن يوقظوا فيها حمية القومية، فنودي على الفور بعد جلاء الخبثاء المفرقين بالقومية العربية، قبل أن يسبق أحد بنداء الإسلامية، وساد نداء القومية الجاهلية. وكان قد قدم لها بعمل ثابت وهو إنشاء الجامعة العربية في عصر احتلال الإنجليز للأرض العربية كلها تقريبا. وصرخت أصوات مسلمة مخلصة إبان ذلك تطالب بجعلها جامعة إسلامية لتوصد الباب على تحريك القوميات مستقبلا، وليجتمع فيها العالم الإسلامي كله، عسى أن يكون ذلك تمهيدا لعودة الخلافة الإسلامية لتعود بها قوة المسلمين لما وحدوا تحت الحكم بالقانون القرآني، لكن هذه الأصوات المخلصة أهملت ولم يصغ إليها، وغلبت فكرة الجامعة العربية الإسلامية، وأتى بعدها تبعا شعار القومية العربية وليست الأخوة الدينية، والآن تم للأعداء ما أرادوه من إيقاظ التفرقة والتمييز، حيث نظر بقية العالم الإسلامي إلى العرب نظرة الحذر والخيفة، فلم يشتركوا معنا نحن العرب إلا بالقرارات في المؤتمرات، ولم يطلقوا ١معنا رصاصة واحدة لما أخذ اليهود بتلابيبنا، والحق لهم لأننا أغفلناهم وجعلنا لأنفسنا جامعة تختص بنا، وقومية نتميز بها.
وفي ظل الجامعة العربية والقومية دخلت الشيوعية عدوة الإسلام الأولى أرض العرب وانتشرت، بل سادت وحكمت، وفي ظل ذلك أيضا اشتعلت الخصومات بين العرب، بل وتقاتلت دولهم بالجيوش، وفتك أبناء العم ببعضهم بالآلاف، في حروب شبه مستمرة مستعرة، وتتجدد هنا وهناك في عرض أرض العرب وطولها، وفي ظل الجامعة العربية والقومية العربية تجري مؤامرات العرب الصليبيين في لبنان لحصر المسلمين هناك بين فكي عبدة العجل اليهود، وعبدة الصليب النصارى، وذلك بمساعدة الدول المسيحية الصليبية.
وفي ظل القومية العربية وقعت بنا أشنع رزية، لما أصيبت أمتنا الإسلامية في أحشائها بضياع قدسها وما حوله من ملك إسلامي عريض قدمه إلينا أصحاب رسول الله ﷺ بقوة زنودهم لما جمعتهم جامعة إسلامية، وأضعناه في عصر القومية العربية.
وليمشي المكر السيئ من أعدائنا بلا توقف، جعلوا قضيتنا مع اليهود إقليمية وليست عقدية، حتى لا تتحرك لها مشاعر صاحب الإسراء صلوات الله عليه، فدرجوها من قضية القدس المقدس إلى قضية فلسطين، ثم إلى أزمة الشرق الأوسط، ولأننا أصبحنا إقليميين قوميين تقبلناها منهم بسرعة، واستقر الأمر على أنها مجرد أزمة وتزول، وأصبحنا جميعا على كل مستوى نرددها، فلم تعد قضية إسلامية ولا حتى عربية، وقل أن تذكر فلسطينية، وإنما هي أزمة الشرق الأوسط، ولا زلنا وحدنا نبتلع غم هذا الكرب العظيم، وراح من أوقعنا في فخ هذه القومية ينظر ضاحكا متشفيا، فهل بعد هذه النكبات المبكية نتحد في جامعة إسلامية، وفيما نزل بنا من عقاب الله كفاية ﴿أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ .
ولكن من المؤكد أنه سيعز دين الله، وسيطرد اليهود إن شاء الله من قدسنا مذؤومين مدحورين، ولو لينتقم سبحانه لنفسه منهم لتطاولهم عليه، وليس لأجل العرب والمسلمين الذين عاهدوهم وأعطوا الدنيئة في أنفسهم ودينهم، وما كانوا اليوم أوفى من ماضيهم الغادر، لما عاهدوا الرسول ﷺ خانوه، فما كان لليهود يوما دولة ولن يكون، فيكم قرناء الذلة والتيه، وثلاثون عاما أو زهاء ليست شيئا في أعمار الأمم حتى يحسب بها لليهود دولة، والانتظار لن يطول بما ليس في حسبان أهل التشاؤم والوهن والخنوع إن شاء الله،
_________
١ بل حاولوا ولم تسمح لهم الدول العربية بذلك تعميقا لمعنى القومية العنصرية.
45 / 194
وما قصه التفرق بسبب اللون؟ وهي قصة تلطخت بها مدنية المتحضرين فوق تلخطات ومخازي أهلت الأكثر في بؤر المظهر. وخاصة من الذين وضعوا إعلان حقوق الإنسان.
لقد أعطاني المدرس وأنا صغير درسا في سبب تباين ألوان البشرة، وقال لي: إن البشرة يسود لونها إذا عاش الإنسان في المناطق التي تشتد فيها حرارة الشمس، وتكون بيضاء في المناطق الباردة، فلما كبرت وكبرت معي مداركي بعض الشيء، علمت أولا أن هذه النظرية مصدرة إلينا عبر الماضي من عند غيرنا، وعلى كل حال لا مانع من أن نقبل أي مفيد من أي جهة، فلسنا متزمتين وقد يكون ذلك صحيحا فالكون لله والحر والبرد هو مقلبهما، لكن سألت نفسي، إن الأوروبيين عاشوا مئات السنين وهم مستعمرون للمناطق الحارة ولم يتغير لون بشرتهم، وزنوج أمريكا عاشوا فيها قرونا طويلة ولم يتغير لون بشرتهم، والطفل الأوروبي الذي ولد تحت خط الاستواء وتلقفته الشمس الحامية وكبر تحتها لم تغير لونه، والملونون من مستوطني البلاد الثلجة لم تغير الثلوج البيضاء ألوان أطفالهم التي لونهم الله بها وهم أجنة في بطون أمهاتهم، ثم إن هؤلاء السمر ابتداء من صعيد مصر إلى آخر القارة الإفريقية هل كانوا جميعا عراة حتى غيرت الشمس لون كل أجسامهم؟..
أم أنه لو كانت الشمس هي المغيرة للون لكان الوجه وحده هو الذي يتغير ويبقى الجسم المستور بالثياب بغير تغيير، فمعروف أن الأبيض كله أبيض، وأن الأسمر كله أسمر، وهكذا، وقد يقول قائل: إننا نلاحظ تغيير لون الوجه الأبيض إذا تعرض للشمس طويلا، ولكنه تغيير قليل لا يلبث أن يعود إلى أصل لونه عندما ينتهي التعرض لحرارة الشمس هناك، ثم هناك ألوان متعددة، فاللون الأصفر يغلب على معظم دول آسيا، فهل الشمس هناك صفراء؟ والبلاد العربية لونها بين بين، فهل لون الشمس في هذه المنطقة كذلك؟ وغير ذلك من ألوان في أنحاء الأرض متباينة وصور في تكوين الوجه مختلفة، كلنا نراها وخاصة في موسم الحج الجامع المهيب.
وإذا من الذي لون وصور ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾، إننا نرى الأشقاء بل التوائم يختلفون صورا ولونا وطولا وقصرا، وما خلقوا جميعا إلا من نطفة لا يتغير لونها، وكونوا في رحم واحد ما تعرضوا فيه لحرارة الشمس ولا لصقيع البرد، فجل الخالق وعز، وعفا الله عن المدرس الذي علمني وأنا صغير عكس هذا يوما، ولكنه هو الآخر معذور فقد تعلمه قبلي من غيره، والذي قبله كذلك وهكذا نسي الخالق ونسبت صنعته إلى غيره ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ ويا ليتنا وقفنا عند هذا، بل رحنا نتخذ من صنعة الله هذه تفرقة تمييزا، ووقع في هذه الفتنة الوافدة مسلمون كثيرون في جهات وأماكن مختلفة، أقولها وأنا متأكد منها، ألسنا هائمين إعجابا بتقليد الأجانب في كل شيء حتى ولو عصينا بذلك ربنا وصريح ما أنزله على رسولنا؟ لما قدم إلينا سبحانه تغير ألواننا على أنه آية من آياته، لا يفعلها سواه، لنجعلها ينابيع الإيمان للنفس الفاهمة المدركة، ففي سورة (الروم) وهو اسم لأمة غير عربية، سمى الله بها سورة من سور كتابه، يقول سبحانه فيها: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾، فالآية دليل على ما قلته آنفا من تحليل قصة اللون، وأن اختلاف اللغات والألوان بقدر لا يحصيه غيره هو خلق له مباشر، وليس بسبب كوني تقلبي من حرارة أو برودة أو تضاريس أو مناخ بيئة، فالتقدير المجمل للآية هو:
ومن دلائل وجوده وقدرته، خلق السموات والأرض، وخلق اختلاف لهجاتكم واختلاف ألوان أجسادكم، ومع أن اللغة واللون داخلان في خلق السموات والأرض، لكن اختصتا وحدهما في الآية بعبارة منفردة ليلفت سبحانه أنظار عباده إلى عظم آياته، والعالمين منهم خاصة كما ذكرت الآية، والتي من أعجبها فقط مجرد اللغة واللون، وإنما اختلافهما، وذكر سبحانه كلمة ﴿لآياتٍ﴾ مرتين، في أول الآية وآخرها، ليؤكد أن ذلك من معجزات الصانع وحده، ولكن هذه الآيات لا يجني جناها ويستفيد منها إلا (العالمين)، الذين علموا حقيقة الوجود والموجد عز وتنزه،.
45 / 195
فما الحال إذا قدم الله إلى خلقه ما ذكرته الآية ليميزوا بها الحقيقة الواقعة في هذا الملكوت فعكسوا الآية كما يقولون، وانطلقوا يميزون بين الناس بلون الجلد، فإن كان أهل الفكران والكفران مصرين على تسفلهم هذا، أو من تبعهم منا في هذا بما يعدّ عدم تصديق بما أنزل به القرآن، فنحن عندنا أيضا تمييز لهم يوم يقال ما سيعوه جيدا ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾، وبلون الوجوه كذلك، فعندنا لوجوههم سواد لن يزول أبدا ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوه﴾ ولو كانت في الدنيا بيضاء لامعة، فهي يومئذ بكفرهم سوداء حالكة. وإذا كانت اليوم سوداء فهي يومئذ بإيمانهم جميلة بيضاء.
ثم نسمع أيضا وصفا للتمييز عندنا بلون الوجوه فنقرأ ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾، يا لرهبة الوصف، ولو وقف سبحانه عند كلمة (الليل) لأعطت المعنى، ولكن لأن الليل قد يضيئه قمر وتتلألؤ فيه نجوم، فحدد وجه صاحب السيئات بالليل المظلم الذي لا قمر فيه ولا نجوم عندما يغيب كلاهما في آخر الليل، ونزيد من هذه الألوان ما قال كتابنا أيضا: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾، فوجه سواد الوجه في الآية الأولى لأنهم كفروا بربهم، وفي الثانية لأنهم كسبوا السيئات، وفي الثالثة لأنهم كذبوا على الله. بل منهم من سيميز بلون لم يسبق في الدنيا أن لون وجه أحد، وهو اللون الأزرق ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ .
هذه قاعدة التفرقة والتمييز عندنا، وحتى التفرقة بياض الوجه لها عندنا أيضا قول جميل ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وإذا كان الخلود هنا في الرحمة بمعنى الجنة، فإن ما سنسمع في الآية الآتية أحسن من الجنة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، فالنظر إلى وجه بارئ الجنة خير من كل الجنة، أما الوجود التعسة فهي ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ . باسرة: شديدة العبوس. وفاقرة: داهية تقصمهم..
ثم نسمع من القرآن ما لا يشبع منه مسمع، لنعرف القاعدة الصحيحة للتمييز بين الوجوه، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ . مسفرة: مضيئة من الفرح ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ . قترة: ظلمة، من هم هؤلاء؟ تجيب الآية، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ .
هذه هي قاعدة التفريق والتمييز عندنا نحن المسلمين، قاعدة تطبع الوجوه بطابع العمل الرباني، وليس ببشرة تتلون في دنيا التلون.
ووجه الله غايتنا ... وليس لغيره ننظر
ومن عن ربه يعرض ... لحقا وجهه مغبر
فبالتوحيد وحدتنا ... بهذا وحده نفخر
ألا سحْقا لمجتمع ... يفرق بينه المظهر ١
وفي أواخر هذا الباب نورد مجموعة وقائع تاريخنا العاطر ابتداء من عصر النبوة فما بعد لمن أراد المزيد، حيث ما مضى من حديثنا المطول كان كله قائما على أرفع الأدلة، وأيقن مقال، وهو القرآن الكريم، وأورد الآتي من غير تعليق.
_________
١ من قصيدة لنا في محاضرة ألقيناها منذ عامين في موسم الجامعة الثقافي عن التفرقة والتمييز.
45 / 196
١- من قول الرسول ﷺ في حجة الوداع:
"ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى"، (ابن هشام) .
٢- بلال الأسود جدا، ﵁، قال له الرسول ﷺ يوما: "يا بلال ما دخلت الجنة إلا وسمعت دف نعليك بين يدي، فما تصنع في الإسلام؟ فقال: لا شيء يا رسول الله غير أني كلما توضأت صليت ركعتين بعد الوضوء" رواه البخاري، وأصبحت ركعتا بلال سنة في الإسلام أقرها النبي صلوات الله عليه.
٣- تجادل أبو ذر ﵁ مع رجل أسود، قيل هو بلال وقيل غيره، فلما برح به الغضب عند الاحتداء قال له: يا ابن السوداء، فشكى إلى النبي ﷺ فقال لأبي ذر: "أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيكَ جاهلية، وقال: طف الصاع. طف الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح" (البخاري) .
٤- جاء عن النبي ﷺ أنه سأل جليسا له وقد مر بهما رجل: " ما رأيك في هذا؟ " فقال: "الجليس هذا رجل من أشراف الناس، هذا حري والله إن خطب أن يزوج، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله". فسكت رسول الله ﷺ، ثم مر رجل آخر، فقال الرسول ﷺ: "ما رأيك في هذا؟ ". فقال: "يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري إن خطب ألا يزوج، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله". فقال رسول الله ﷺ: "هذا خير- يقصد الفقير- من ملء الأرض من مثل هذا" (البخاري) .
٥- قال الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ " (البخاري) "أبغوني في ضعفائكم، إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" (أبو داود) .
٦- وأثر عن عمر ﵁ قوله للمسلمين: "لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقا وغربا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا، منهم فإن استقام اتبعوه. وإن جنف قتلوه، فقال طلحة ﵁: وما عليك لو قلت، وإن تعوج عزلوه، فقال عمر: لا، القتل أنكل لمن بعده".
٧- وكتب إلى أبي موسى الأشعري واليه على الكوفة يقول: "يا أبا موسى، إنما أنت واحد من الناس، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا، إن من ولي أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده".
٨ - وقال للناس يوما: "ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية؟ فقال له علي ﵁: يأتي بأربعة شهداء، أو يجلد حد القذف كسائر المسلمين".
٩- واشتكى يهودي عليا إلى عمر ﵄، وكان جالسا بجانبه، فقال له عمر: "قم يا أبا الحسن، قف بجانب اليهودي موقف القضاء"، وبعد تبرئة علي باعتراف اليهودي، لا حظ عمر على وجه علي تغيرا، فقال له: "أو قد ساءك أني أوقفتك بجانب اليهودي موقف القضاء"، فقال علي: "لا وإنما خشيت ظن اليهودي محاباتي عليه لما ناديته باسمه وناديتني بيا أبا الحسن".
١٠- وقولته (أي عمر) ﵁ لعمرو بن العاص لما ضرب ابنه واحدا من أهل مصر- في قصة مشهورة -: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وأعطى سوطه للشاكي وأمره أن يضرب ابن عمرو".
١١- قال عثمان ﵁ للمسلمين أثناء خلافته: "إني أثوب، وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون، فإذا نزلت من منبري فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم فوالله لئن ردني الحق عبد لأذلن ذل العبيد". (من تاريخ العصر الراشدي)
45 / 197
فاسمعوا يا واضعي حقوق الإنسان، هذه هي حقوقه في الإسلام فأيهما أفضل، ما وضعه خالق الإنسان للإنسان، أم ما وضعه الإنسان؟ الله أكبر، سبحانه من رحيم كريم، لا يضاهى ولا يمثل.
الباب الثاني: المواد (٧- ٨- ٩- ١٠- ١١) من حقوق الإنسان ... الباب الثاني: نتحدث في هذا الباب عن المواد ٧، ٨، ٩، ١٠، ١١ من حقوق الإنسان. ونورد نصوصها فيما يلي: المادة السابعة: كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان، وضد أي تحريض على تمييز كهذا. المادة الثامنة: لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها إياه القانون. المادة التاسعة: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا. المادة العاشرة: لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن ينظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظر عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه. المادة الحادية عشرة: كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمَن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه. ولا يدان أي شخص من جراء أداء عمل الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلكَ يعتبر جرما وفقا للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب، كذلك لا توقع عليه عقوبة أشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة. وسأبدأ الحديث عن هذا الباب بآيات من القرآن من قانون العدل كله، نفصلها ليدرك بها الكثير دقة مواد القضاء النازل من السماء، وأقصد بالكثرة المسلمين الذين لا يعلمون كتابهم، إلا أن يفتنوا بمن يؤلفون غيره. الآية الأولى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ . بدأ سبحانه الآية بتأكيد لفظي ليضفي على ما سيذكره التأكيد المعنوي، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ﴾، وكلمة ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ جاءت بعد اسم من أصدر الأمر، لتنشعر الهيبة والرهبة من عظمة صاحب الاسم الأمر بما سيقوله بعد، ولأن الآمر سبحانه وقد عرفتموه لا يمكن لأحد أن يأمر معه، أو ينقص من أمره قدر قطمير، ثم اختيار كلمة الأمر بعد اسمه المعظم يعطي الفهم القاطع بأن المقررات التي ستوضحها الكلمات التي في الآية لا تجيز الترك وعدمه، وإنما هي إلزام حتمي للتنفيذ، تلك هي ﴿أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، ولشتى أنواع الأمانة جاءت بلفظ الجمع، أعلاها الأمانة التي حملها الإنسان تجاه ربه، وهي إقامة شرائعه خالصة لذاته، وأدناها كلمة سر يؤتمن عليها، وبين الاثنين حقوق لا تحصى تتصل بالله تعالى، والكل مأمور بأدائها كاملة إلى أهلها، لكن الآكد في الآية من حيث الأمر بالأداء هو المرتبط بحقوق العباد لأن المرتبط بحقوق الله تعالى تعرضت له آيات أخرى عديدة، والقرينة التي تدل على أن حقوق الإنسان هي المعنية في هذه الآية، قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾، فالحكم بالعدل لا يمكن إلا في قضية عرضت ليرد حق سلب أو اغتصب، وهذا شأن من شؤون بني الإنسان ملازم لوجوده إلى أن ينتهي وجوده بانتهاء الدنيا، فلا بد من ظالم ومظلوم وباغ ومبغي
الباب الثاني: المواد (٧- ٨- ٩- ١٠- ١١) من حقوق الإنسان ... الباب الثاني: نتحدث في هذا الباب عن المواد ٧، ٨، ٩، ١٠، ١١ من حقوق الإنسان. ونورد نصوصها فيما يلي: المادة السابعة: كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان، وضد أي تحريض على تمييز كهذا. المادة الثامنة: لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها إياه القانون. المادة التاسعة: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا. المادة العاشرة: لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن ينظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظر عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه. المادة الحادية عشرة: كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمَن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه. ولا يدان أي شخص من جراء أداء عمل الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلكَ يعتبر جرما وفقا للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب، كذلك لا توقع عليه عقوبة أشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة. وسأبدأ الحديث عن هذا الباب بآيات من القرآن من قانون العدل كله، نفصلها ليدرك بها الكثير دقة مواد القضاء النازل من السماء، وأقصد بالكثرة المسلمين الذين لا يعلمون كتابهم، إلا أن يفتنوا بمن يؤلفون غيره. الآية الأولى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ . بدأ سبحانه الآية بتأكيد لفظي ليضفي على ما سيذكره التأكيد المعنوي، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ﴾، وكلمة ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ جاءت بعد اسم من أصدر الأمر، لتنشعر الهيبة والرهبة من عظمة صاحب الاسم الأمر بما سيقوله بعد، ولأن الآمر سبحانه وقد عرفتموه لا يمكن لأحد أن يأمر معه، أو ينقص من أمره قدر قطمير، ثم اختيار كلمة الأمر بعد اسمه المعظم يعطي الفهم القاطع بأن المقررات التي ستوضحها الكلمات التي في الآية لا تجيز الترك وعدمه، وإنما هي إلزام حتمي للتنفيذ، تلك هي ﴿أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، ولشتى أنواع الأمانة جاءت بلفظ الجمع، أعلاها الأمانة التي حملها الإنسان تجاه ربه، وهي إقامة شرائعه خالصة لذاته، وأدناها كلمة سر يؤتمن عليها، وبين الاثنين حقوق لا تحصى تتصل بالله تعالى، والكل مأمور بأدائها كاملة إلى أهلها، لكن الآكد في الآية من حيث الأمر بالأداء هو المرتبط بحقوق العباد لأن المرتبط بحقوق الله تعالى تعرضت له آيات أخرى عديدة، والقرينة التي تدل على أن حقوق الإنسان هي المعنية في هذه الآية، قوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾، فالحكم بالعدل لا يمكن إلا في قضية عرضت ليرد حق سلب أو اغتصب، وهذا شأن من شؤون بني الإنسان ملازم لوجوده إلى أن ينتهي وجوده بانتهاء الدنيا، فلا بد من ظالم ومظلوم وباغ ومبغي
45 / 198
عليه، ومن هنا يأتي العدل في صورة حكم،
يصدر من حكم صفته الحكمة التي لا تنثني ولا تميل، ثم من قرائن اهتمام الآية خاصة بحديثها عن الإنسان كلمة ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾، فإذا ما جاء بعدها ما يدل على أن الناس حكم بينهم بالعدل، كان ذلك عملا بموعظة جليلة الخطر عظيمة الأثر، مدحها الله بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ نعم ما يفيدكم به، ذلك أنه ما من شيء يذهب الغيظ ويجمع الشتات ويقيم المجتمعات على التآخي أكثر من العدل.
ولهذا كان الإمام العادل ضمن أنواع سبعة فقط من عباد ممتازين، لا يلفح وجوههم اللهب يوم الحر الأكبر، حيث استظلوا ببرد الظل الأعظم دون سواهم، ثم يختم سبحانه آيته الكريمة بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، فهذه الكينونة الملازمة له سبحانه أزلا ودواما، كينونة اتصاف بكل كمال، وتنزيه عن كل نقص، ومنها ما ذكره هنا بصيغة المبالغة ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، فهو سميع لما يقال سرا أو علنا، بصير بما يعمل جهرا أو خفاء، وعلى قاعدة أن نهايات الآيات لا بد من ارتباطها بما يذكر فيها، فإن رد العباد على الذي أمرهم به في الآية سيكون قولا يدل على الاستعداد للعدل أو عكسه، وهذا القول إما بصوت أو بهمس، وهو في الحالين سميع، ثم ينتقل الأمر من القول إلى العمل، فإن كان القول طاعة تبعه العمل بالعدل، وإن كان القول معصية فلا عدل وكان الظلم، ثم المثوبة أو العقوبة، فمستحيل أن يأمر الله بشيء ثم يترك أثره هملا، هذا هو العدل الذي يقتضي بحفظ الحقوق ونزاهة إصدار الأحكام، بصورة ما ترامى إلى الآذان شبيه لها، ذلك لأنها من الحكم العدل العظيم أحكم الحاكمين.
فأيهما أنفع للإنسان، حقوق وضعها لنفسه هو طامع أن يسلبها من غيره، أم حقوق من خالقه لا طمع له فيها لأنه المنزه عن الاحتياج لغيره؟.
تحليل لآية ثانية: يقول الحق المبين:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ .
بدأت الآية بنداء، فمن المنادي؟، ومن المنادون؟، وما هو المطلوب من النداء؟
المنادي هو أحكام الحاكمين، والمنادون هم المؤمنون به المطيعون له، ولن يكون ردهم على راحمهم وقد آمنوا به إلا لبيك خير المنادين، فلن يكون نداؤك إلا الخير لنا أجمعين.
وما هو المطلوب من النداء؟ آمركم أن تكونوا ملازمين قائمين أبدا بالعدل، ولهذا بالغت في صورة اللفظ ﴿قَوَّامِينَ﴾ فالعدل أمر قائم لا ينقطع، وهكذا اجعلوه بينكم لا يخل ميزانه ولا يختل أركانه، والعدل من أهم ما يظهره ويقيمه إذا ما أريد حجبه من المتخاصمين، بالإنكار أو بليِّ اللسان بزخرف الكلام، هو الشهادة بالواقع الصحيح الذي رئي أو سمع، ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾، وكلمة شهداء أتت بعدها كلمة ﴿لِلَّهِ﴾ لتؤدي معنيين، أولهما، وأنت تشهد سواء كنت مدعوا أو متطوعا، أن تؤديها وأنت مراقب لله، فاستحضارك مراقبة الله أثناء الشهادة سيجعلك تقول الصدق الذي يظهر الحق، وثاني المعنيين أن تقصد بهذه الشهادة مثوبة الله ورضاه، وليس أجرا من أحد المتخاصمين تعطاه، أو ثناء من الحاكم أو القاضي الذي أعنته بشهادتك على إعلان الحق وخذلان الباطل فهذان المعنيان إذا حضرا الشاهد أثناء شهادته، كان العدل أصفى وأنقى عندما يستعمل لتؤدى به الحقوق، ثم تستمر الآية قائلة ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾، مراتب ثلاث، بدأ بأعلاها سبحانه وانتهى بأدناها، فليس لدى النفس، ولو كان غير النفس أبا أو أما، فإذا ما هيمن الشاهد على نفسه وقتل فيها حب الإيثار الملازم للنفوس عادة، فيصبح انتصاره في المرتبة الثانية أيسر وأسهل، ولهذا ذكرت الآية الوالدين بعد النفس ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾، فهو مستعد أن يشهد على والديه وقد شهد على ما هو أعز
45 / 199
منهما، فما بعد روحه (الذي فيه) روح، وبهذا يكون عند المرتبة الثالثة ﴿وَالأَقْرَبِينَ﴾ أولى لأداء الشهادة بيسر أكثر وسهولة أوفر، فأي الأقربين أقرب إليه من أبويه،.
ثم تقول الآية: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ ولأنه اختلف إن كان هذا تشريعا محضا أو تشريعا مسببا، فقد رأينا أن نترك هذا الأمر ونستمر في التحليل المتصل بهذا البحث، فالغنى مظهر قد يرغب أو يرهب، والفقر مظهر قد يدعوا إلى ازدراء الفقير أو العطف عليه، وكلا النوعين إما ظالم أو مظلوم، وعندئذ يكون الشاهد ناظرا من أعلى إلى هذا كله، لأنه سيؤدي الشهادة ومعه الحليتان اللتان ذكرناهما آنفا، مراقبة الله والرغبة في رضاه، إذا فيترك أمر الكل إلى من هو بالكل أرحم، فلا ينحني أمام رهبة، ولا يميل أمام رغبة، فالله أولى وأحق بعباده من أن يتفضل عليهم سواه ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾، ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾، فالهوى هو الغالب وجوده عند الشهادة أو الإقرار بالحق على النفس، والغالب وجوده أيضا عند الشهادة أو الإقرار بالحق على الوالدين، ونفس الأمر عند الشهادة أو الإقرار بالحق على الأقربين، ونفس الأمر عندما نرهب غنيا أو نستضعف فقيرا ولم يزد هذا الهوى خوف من الله ولا رجاء ما عنده، يكون الهوى قد اتبع، وتبعا لذلك يكون العدل قد غاب، ويكون الظلم قد حضر، والحق قد أهدر، وهل يكون إتباع الخاطف من العواطف إلا هذا هوى- متبعا وعدلا ضائعا، لهذا كان النهي القوي في كلام الآية المقدر بهذا المعنى: احذروا أن تتبعوا الهوى فإن يؤدي بكم إلى أن لا تعدلوا.
﴿تَلْوُو أَوْ تُعْرِضُوا﴾، فالألتواء وهو الميل مع الهوى عن الحق، من شاهد أو قاض، أو الإعراض وهو أبعد خطرا وأضر أثرا، يقع أيضا من شاهد أو قاض، إن وقع أحدهما أو هما معا من الشهود أو القضاة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ .
فهو عند أهل المعاني قبل أهل التأويل ليس ختام الآية هذا خبرا لمجرد العلم به، وإنما يحمل إنذارا مخيفا لمن لم يطع ما في الآية، فلوى وأعرض حتى أظهر باطلا وأمات حقا، لأن صفة الخبرة بالنسبة لله تعالى ليست في حاجة إلى أن تقدم للمؤمنين ليعرفوها فما اعتبروا مؤمنين وما استحقوا أن يناديهم الله بها في أول الآية إلا لأن مستلزمات الإيمان جعلتهم عرفوا فيما عرفوا خبرة الله بكل ملكوته وما يجري فيه ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾، وإنما نهاية الآية تقول للمؤمنين: إذا اتبعتم هواكم بعد أن علمتم أني خبير لا يخفى علي شيء، فقد استوجبتم عقاب فاعلي ذلك، ومبلغ علمي إن شاء الله أن مفسرا واحدا لم يشذ عن معنى ما ذكرناه.
إذا فأسال: أيهما أنفع للإنسان، هذه الحقوق التي وضعها له خالقه، وأولاها حراسة قوية تولاها بنفسه سبحانه، أم تلك التي سماها الإنسان حقوقا وحتى لم يحقها لنفسه وإنما أتبعها هواه؟، الله أكبر، ومن أحسن من الله حكما؟.
وعن آية ثالثة نتحدث:
فمن عظمة القرآن الذي أنزله الله على خير إنسان ﷺ نقدم قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ .
الآية الكريمة: بدأت بتقديم ما فيها من رواسخ الدعائم القضائية، لتثبت حقوق الإنسان على الأرض إلى أن تنتهي الأرض وإنسانها، دون السماح لكائن أن يغير مما أحق الله ورسم، ولو كان رسولا نبيا كداود أو غيره، فبدأت
45 / 200
بالترغيب للإصغاء، وهل أتاك
يا رسولنا محمدا، خبر قصة أخيك داود لما امتحناه بقضية حقوقية ليفصل فيها. ثم يمشي القارئ معي ليجد أن حديثي عن الآية لن يتناول القصة من حيث السرد وحكاية الوقائع، وما قيل في ذلك من كلام طويل تعرض فيه الكثير للقول المؤلف والرأي المختلف، وسأفضل الظاهر من ألفاظ الآية لأربط ذلك بموضوع حقوق الإنسان الذي نحن بصدده، وحتى الحديث في قصة داود ﵇ بالظاهر الكلامي هو أسلم وأبرأ إلى الله من الشطح والغلو الأسطوري المهلك، فقد أنذر علي ﵁ من يخوص في أمر داود بما يحلى القصاص من التزويق الحديثي، بأن يجلده ستين ومائة جلدة.
إذا فما يعنيني من هذه الواقعة الحقوقية في الآية، أنها بدأت بقفز المتقاضين من فوق الحائط وهو منظر شاذ جدا لا يفعله إلا من يريد أمرا جللا من قتل أو سرقة، وهذا ما دعا داود ﵇ إلى الفزع لما رآهم يهبطون عليه من سور مسجده وهو في خلوته مع الله، وأن الفزع هو من تصور شر قد يقع له منهم، فالمسالم لا يقتحم الأسوار وإنما يأتي من باب الدار، لكن الذي تأكد بعد ذلك أنهم من مسالمون، بل هم لداود وحكمته وعدله طالبون، ولهذا كانوا مسرعين إلى طمأنة داود وإزالة ما لاحظوا عليه من فزع ﴿قَالُوا لا تَخَفْ﴾ وقدموا أنفسهم إليه زيادة في تهدئة روعه ﴿خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ .
تحدثت الآية عن الخصمين بالجمع لأن كلا منهما معه مناصر له- إذا فالخصومة وطلب الحقوق شيء لا صبر معه، وأن الخصومات إذا طالت دون فصل، والحقوق إذا ضاعت دون رد، فسيتولد منها مخاطر تدمر المجتمعات وتأتي عليها من القواعد، فالمظلوم لا يصبر طويلا وعلقم الظلم يملأ فمه بالمرارة، فإما أن ينصف سريعا ممن تولوا أمر مجتمعه أو يتولى بنفسه رفع الظلم عن نفسه ورد حقه إليه ولو بصورة ليس فيها نازع ولا رادع، وهذا ما جعلنا نأخذ هذا المعنى من تسور المحراب، ولم ينتظر حتى يزول المانع من الدخول من الباب. حيث كان في هذا اليوم ممنوعا لأكثر من سبب ذكرها المفسرون، فهل قدر الظالمون ما يموج في ضلوع المظلومين؟، ثم بدأ عرض القضية على داود من المتسورين سواء كانوا ملائكة أو بشرا حسبما اختلف المؤولون، لأن القصد من الواقعة كلها إقرار حق وتثبيت عدل يبقى إلى يوم الساعة، وبدأ العرض من الطرفين بالطريقة المؤدبة التي تليق بتقديم القضايا للقضاة، حيث قالوا مقيمين الاحترام لداود دون أن يرجح أحدهم كفة الحق لنفسه، حتى يسمعوا الحكم ممن احتكموا إليه ﴿بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ﴾ ولم يقل أحد الخصمين احكم لي فالحق لي، وكل ما قالوه ﴿وَلا تُشْطِطْ﴾، ذكروه بعدم الميل بعاطفة، فقد يكون في أمر أحد المتخاصمين ما يرقق القلب دون الحق، فيقع الحكم بالتعجل وليس بالتدقق، وهذا ما يرجح بأن المتسورين للحائط ملائكة، موجهون بهذه الكلمات الشرعة من الذي أرسلهم سبحانه، ثم زادوا ﴿وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾، أي احكم بيننا بالحل بالوسط المرضي لقواعد الحق ولو لم يرض المحكوم له أو المحكوم عليه، وهذا مبدأ رائع لعرض الأمور من غير تهور ولا رعونة، والقضية هي ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ .
فهنا ترك داود ﵇ بداية الكلام للشاكي، لأنه الأحق بسبب ما يعانيه من ضياع حقه - وهذا مبدأ أخذ منا حتى اليوم- ثم على الشاكي ألا يبدأ شكواه بالغضب والسب لشاكيه، ولهذا قال رغم تألمه من خصمه ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾، ذلك بأن الحقوق بعد أن ترد يجب أن يبقى الود - وهذا مبدأ قرره القرآن أيضا وقد انعدم أو كاد - فالتقاضي الآن أصبح يولد أحقادا قد يتقاذفها الورثة ليبقى عداء بعيد الأمد سيء الأثر.
وعريضة الدعوى المقدمة إلى القاضي داود ﵇، وهي- فيما أعلم- قضية تدريب له كيف يتعلم الفصل في القضايا على أنها أول قضيه تعرض عليه، هي غاية في الغرابة وأشد ما تكون شدا للعاطفة وتأثيرا مجنحا إلى الميل، أحد الخصمين يملكَ مائة شاة إلا واحدة، وبلغ به طمعه أن يجعلها تكمل المائة، والشاة المكملة للمائة
45 / 201
لأجير فقير يعمل عنده يقوم بأمر غنمه مقابل أن تتربى شاته تطعم من طعام غنمه، ويبدو أن الشاة بورك فيها وأصبحت بحال طيب لفت نظر الغني صاحب التسعة والتسعين، فأراد أن يضمها إلى غنمه، ويجعل صاحب الشاة مجرد أجير، يعوض عنها بشيء ولا يكون له في الغنم شيء، ومكنه وضعه أن يضغط على صاحب الشاة ترغيبا أو ترهيبا، ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾، أي خاطبني بما تأكدت به من إصراره على ما يريد، وأنا أريد أن تبقى شاتي لي.
وسواء كانت صورة الدعوى هكذا حدثت في الواقع، أو وضعت لضرب المثل للقضايا الصعبة السريعة التأثير في نفس القاضي- الله أعلم- فإنها قد أخذت الشكل المتوقع، خصوصا لدى القلوب الحانية التي تستقر بين جنوب الأنبياء صلوات الله عليهم ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .
ومن هنا كان النطق بالحكم من داود عاجلا وسريعا بسرعة نسبة واحدة إلى تسعة وتسعين ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾، والعجب أن حنو داود قد فاض بالحكم لذي النعجة مع أنها لا زالت في حوزته ولم تنزع منه بعد، وألصق جناية الظلم بخصمه لمجرد أن سأله نعجته ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾، فكيف لو اتبع السؤال بالاستيلاء؟، إنها من حيث الأساس رأفة تليق بنبي صفي، ولكن في هذا الموضع وهو مقام تمحيص الحقوق، لا بد أن تقترن الرأفة بالتروي والتأني، حتى تدرس القضية بكل المتخاصمين وبكل الشاهدين، وهذا لم يفعله داود ﵇، ومع أنه قدم حيثيات الحكم الصحيحة لما قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾، فهذا تقرير لأمر يلابس الناس دواما، خاصة شركاء المادة، لغلبة سوء الظن على حسنه، بأن شريكه ليس كفئا له، أو يحتوي على حظ أكثر من حقه، ومن هنا يأتي بغي بعض على بعض، ويستمر القرآن في تقدير الأمر يجريه الأمر سبحانه على لسان هذا النبي الكريم، حيث لم يدخل في الكثرة التي تبغي على بعضها أولئك الذين آمنوا بربهم، فراقبوه متبعين ما أحل مجتنبين ما حرم، ولما كان الوصف الكمي للباغين هو الكثرة، فلابد أن يكون العكس هو القلة ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ .
بيد أن هذا القول الحق لم يعف داود ﵇ من نتائج حكمه غير المسدد وسبب عدم تسديده أمران، أولهما مطاوعته لرقة قلبه لوضع ذي النعجة الواحدة، خاصة أنه الشاكي، ولا يغلب على الشعور إلا أن الشاكي هو المعتدى عليه في أي الاحتكام يقع بين خصمين، فتعجل ﵇ بإصدار الحكم لصالح الشاكي قبل أن يسمع دفاع لمشكو تجاه شاكيه وهذا أمر لا يمكن أن يبيحه الله الذي شدد فرضية العدل في ملكوته،.
والأمر الثاني الذي جعل الحكم غير مسدد هو- والله أعلم- أن داود ﵇ وهو يؤدي أول اختبار في الفصل في القضايا، دفعه الحنان أيضا إلى عدم انتظار توجيه السماء، فما كان مرسله سبحانه يدعه ليحيد، فكان عليه وهو نبي من أهل الوحي أن ينتظر حتى تهبط عليه طريقة الفصل في المنازعات لتصبح الركائز المعروضة فقط وقتئذ.
فكانت نتيجة امتحان داود في نهاية الموضوع هو قوله سبحانه ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾، والظن هنا بمعنى الإدراك والعلم، وبالصورة التي أعلمه بها، وليس بخرافات الإسرائيليات التي أترعت بها التفاسير الغثة، عندما وقع في مصيدتها عشاق الأقاصيص، ﴿أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ امتحناه وما جفيناه، حيث قبلنا سجدته وغفرنا هفوته وأحسنا أوبته ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ ذلك لأن الدرس أفاض عليه كامل المعرفة بأسرار القضايا وخبايا المشاكل البشرية التي سيظل الإنسان يتخبط فيها بسبب ماديته المتأصلة فيه، وبعده عن الروحية المتوادة المتسامحة.
45 / 202
لقد انتفع داود بالدرس التدريبي العظيم هذا، فاستحق لما علم منه ربه ذلك بأن يجعله الخليفة العادل في الأرض، والقاضي المتحق الذي لا سبيل معه لميل الهوى ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ .
وانظر إلى نهاية الآية المنذرة بالعذاب الشديد، لمن يميل مع الهوى ويضل بتضيع الحقوق، عندما يحكم أمة أو يفصل في قضية، فويل له من ناس ليوم الحساب، عندما يكون يومها حسابا عسيرا كأعسر ما يكون الحساب، ذلك أنه أؤتمن على شيء هو من أعظم الحرمات عند الله، وما كانت كذلك - وهو أعلم - إلا لأنها خير ما يتم به الهدوء النفسي والأمان الإنساني، فإن لم يحاسب الحاكم أو القاضي نفسه ليوزع الحساب بين من لجأوا إليه أو ألوا إليه بدقة، اعتبرته الآية ضالا غاويا له العقاب الخاص بالضالين.
وبعد انتهائي من عرض العجائب الحقوقية لهذه الآية، وإنذارها من يحيد عن هذه الحقوق بلفتة بصر أن ينال جزاءه، بالشدة التي ذكرتها كلماتها الرهيبة، أكان يجوز للإنسان أن يجد لنفسه أقوى وأحكم مما جعله الله، حقا إن الإنسان لربه لكنود.
لكن الآسى الذي يملأ القلب نكدا، يأتي من الإنسان الذي ادعى الإيمان، وراح يثق بحقوق صنعت للغرض والغاية، وترك قرآنه وقانونه ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، ولكن بعد أن مات ﷺ، ما فتنا فقط عن البعض وإنما عن الكل، فحاق بنا ما ذكرت نفس الآية ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾، (وقد كان) وعسى ألا يقع بالبعض الباقي.
وننهي هذا الباب بنصوص من فخرنا العدلي واعتزازنا القضائي، بما نباهي به الدنيا قاطبة، نقدمها عددا ونصا بغير تعليق لمن يدخرها.
١- آية من آيات زخر بها كتاب الله العظيم:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم؟﴾ سورة النحل، آية ٧٦.
٢- حدث أن النبي ﷺ وهو عند أم سلمة ﵂، أن دعا وصيفة لها مرات فلم ترد عليه، فاستبان الغضب في وجهه، فخرجت أم سلمة تبحث عنها فوجدتها تلعب فقالت لها: "أراك هنا تلعبين ورسول الله يدعوك! " فأقبلت الصبية على رسول الله ﷺ وهي تقول: "والذي بعثك بالحق ما سمعتك"، وكان بيد الرسول سواك فقال لها: "لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك" رواه الإمام أحمد.
٣- أتت امرأة عمر بن الخطاب ﵁ تذكر زوجها عنده فقالت: "زوجي من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسي"، فقال لها عمر: "جزاك الله خيرا، فقد أحسنت الثناء"، فلما ذهبت قال كعب بن مسور ﵁، وكان جالسا بجانب عمر: "يا أمير المؤمنين، لقد أبلغت إليك في الشكوى"، فقال عمر: "ومن اشتكت؟ "، فقال كعب: "اشتكت زوجها"، قال عمر: "علي بها"، فعادت ومعها زوجها، فقال عمر لكعب: "أقض بينهما"، فقال كعب: "أقضي وأنت حاضر"، قال له عمر: "إنك فطنت إلى ما لم أفطن إليه"، فقال: "كعب وهو يقضي بينها: إن الله تعالى يقول: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾، فعلى زوجها
45 / 203
أن يصوم ثلاثة أيام ويفطر عندها يوما، ويقوم ثلاث ليال ويبيت عندها ليلة"،.. وتفصيل حكم كعب ﵁، إشارة إلى قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا﴾، أي من حق الزوجة أن تباشر لتعف، ثم الإنجاب تبعا لذلك إن كان، ولا يجوز تركها في ذلك ولو بنوافل العبادات، ثم أمر كعب زوجها أن يعطيها يوما بليلة بعد كل ثلاث لتصبح هي الرابعة.
وقد بنى هذا الحكم على افتراض أنه متزوج بأقصى المباح لما قرأ ﴿مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ على أنه سيغيب عنها مع زوجاته الثلاث، كل بحقها المؤقت لها، وهي الزوجة الرابعة يعطيها الوقت الرابع، فسر عمر ﵁ من فطانة كعب ومن حسن ما قضى به، وبعثه قاضيا على البصرة) من (الطرق الحكيمة) لابن القيم.
٤- وكتب عمر بن الخطاب منشور للناس يقول فيه:
"إني لم أبعث عمالي- ولاتي - لا ليضربوا جلودكم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي لأقتص له"، فقال عمرو بن العاص،: "لو أن رجلا أدب بعض رعيته، أتقصه منه؟ "، فقال عمر: "إي والذي نفسي بيده لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله ﷺ يقلق من نفسه". المصدر السابق.
٥- وقصة (جبلة بن الأيهم) المشهورة:
وكان من ذوي الجاه والسلطان في الجاهلية وفي الإسلام، فقد كان يطوف يوما بالكعبة ورداؤه يجره خلفه فوطئ عليه أحد الطائفين من ضعفاء المسلمين، فاستدار إليه ابن الأيهم ولطمه لطمة شديدة، وكان ذلك أيضا في خلافة عمر ﵁، فذهب المضروب إلى عمر وشكا إليه، فاستدعاه عمر وحكم بأن يضربه الرجل إلا أن يصفح، لكن الرجل أبى الصفح وأصر على أن يقتص، فقال جبلة لعمر: "كيف تسويني به وأنا ملك وهو سوقة"- أي من عامة الناس- فقال ﵁: "إن الإسلام سوى بينكما"، فطلب من عمر أن يمهله، فأمهله، فذهب ولم يرجع وإنما فر هاربا إلى بلاد الرومان، وارتد عن الإسلام إلى نصرانيته وبعد مدة أحس بالندم، وعلم بأنه ترك الحق وعاد إلى الباطل، ثم كتب قصيدة في ذلك، منها هذه الأبيات.
تنصرت الأشراف من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر
٦- في (الطرق الحكمية) لابن القيم ﵀ قوله:
من له ذوق في الشريعة وإطلاع على كمالها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط بمقاصدها وحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تستخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
وفي تاريخ إسلامنا من هذه الأمثلة الشيء الكثير ثم يأتي الإنسان ليضع لنفسه أف له ولما وضع، وهل ينبئك مثل خبير؟.
45 / 204
حقوق الإنسان في الإسلام
بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي محاضر بكلية الحديث
الباب الثالث
موضوع هذه الحلقة هو الحديث عن المواد الآتية من إعلان حقوق الإنسان كما رتبناها حسب تقاربها واتجاهها لغرض واحد، وهي المواد: ٣ و٥ و٩ و١٢، وهذه نصوصها.
المادة الثالثة: لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه.
المادة الخامسة: لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة.
المادة التاسعة: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسُّفًا.
المادة الثانية عشرة: لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات.
ونبدأ الحديث في هذا الباب بتقديم خمس آيات قصيرات تمثل أول واقعة تتم على الأرض يعتدي فيها على الحياة والحرية والسلامة الشخصية حسب التعبير اللفظي للمادة الأولى في هذا الباب والثالثة في إعلان حقوق الإنسان، ثم بعد ذكر الآيات نقوم بتفصيل معناها لنرى ما هو الحق الذي تقرر من خالق الإنسان لصون حياة الإنسان من أن تكون في مهب أعاصير الهوى والميل، تُقتل وتُباد حيثما يقصد بها ويراد، ولنذكر الآيات ثم نتعرض لها بالتحليل إن شاء الله تعالى.
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
46 / 247
لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين﴾ .
فالأمر في أول كلمة من هذه القصة من منزِّل هذا الكلام سبحانه، على خاتم رسله ﷺ مكلفا إياه أن يبلغها للناس ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾، أي بلّغ للعلم والفائدة، وليس للإخبار والإحاطة ﴿نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾، والإنباء تعبير بوصول بالنبوءة التي هي من شأن الأنبياء لما يلقى إليهم من نبأ كان غيبا وأظهرهم الله عليه لينقلوه إلى عباده ليأخذوا عظته ويدركوا عظمه.. ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ﴾ ولهذا لم يقل: واتل عليهم خبر ابني آدم، لأن الخبر مجرد إعلام بشيء ترك أثرا أو لم يترك، وابني آدم هما بالتواتر والأرجح قابيل وهابيل، فقابيل هو أول من مثل الشر على الأرض، وكان بذلك أول جندي لإبليس نفذ به أول برنامج سوئه لما قال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ فالشطر الأول من تعبير إبليس كان قابيل رمزه، والشطر الثاني كان هابيل رمزه أيضا، ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي بالحق الذي وقع وبالحق الذي يجب أن يؤخذ من قصتهما. ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ والكلام عن القربان تحدث فيه المفسرون كثيرا، وربما تسللت إليه خرافات الإسرائيليات، ولكن مبلغ اجتهادنا عن الأصح من الكثير الذي قيل، أن الله جعل حواء تنجب توأما ذكرا وأنثى في كل ولادة، وأنه كان تشريع ابتدائي أن يتزوج الذكر بالأنثى من كل توأم، حتى يكثر النوع البشري ثم ينسخ ذلك ويحرم كما حدث في العصر التالي مباشرة فلم يكن في البداية غير أولاد آدم ينتظر منهم الجنس الإنساني ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء﴾، لكن زميلة قابيل لم تكن بالجمال التي عليه زميلة هابيل، فحقد على أخيه وطلب منه مبادلته، - وذلك مبدأ مؤلم صارت به الشهوة من أشد الدوافع إلى التوحش الإنساني - لكن أخاه أخبره بأن هذا تنظيم الله ولا بد أن يتجه إليه ليسمح أو يمنع. وأن على كل منهما أن يقرب إلى الله قربانا، وأن قبول القربان من أحدهما دليل على قضاء مأربه، فكان أن تقبل الله من هابيل ولم يتقبل من أخيه ﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾، وقالوا عن أن الذي جعله لم يتقبل منه، هو وقوع أسباب عدة، منها أنه استجاب للشهوة ولم يستجب لإيثار الأخوة، وأنه بسؤال أخيه ما هو من نصيبه المقسوم له من الله، اعتراض على هذه القسمة وعدم رضا بعدل الله وحكمه، وزادوا أنه لما احتكما إلى الله بالقربان، قرب هو أردأ ما عنده، بيننما هابيل قرب خير ما عنده، وهذا أيضا مبدأ صحيح أقره القرآن بقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، لكن الجندي الأول لإبليس أبى إلا أن ينفد أمر الشر كاملا، فازداد حقده على أخيه رافضا حكم الله في القضية، حتى وصل به الأمر إلى قرار بقتله، ليسجل على نفسه أنه أول قاتل على الأرض بلا أسباب ولا حيثيات، سوى تطوعه ليكون أسبق ممثل لإبليس في الاعتداء
46 / 248