Human Development from Fetal Stage to Elderly
نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين
Daabacaha
مكتبة الأنجلو المصرية
Lambarka Daabacaadda
الرابعة
Noocyada
مقدمة
...
تقديم الطبعة الرابعة:
تصدر الطبعة الرابعة من كتاب "نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنين" بعد أن استقبلت طبعاته السابقة بحمد الله وتوفيقه استقبالًا كريمًا طيبًا من الأروقة الأكاديمية في مصر والعالم العربي، وهو ما يحمل من معاني المسئولية أكبر مما يحمل من الشعور بالفخر والاعتزاز.
وهذا الكتاب هو كتابنا المشترك الثاني بعد كتابنا الأول: "علم النفس التربوي"، وإذا كان موضوع هذا الكتاب هو "نمو الإنسان"، فإنه بذلك يعد امتدادًا وتوسيعًا لآفاق كتابنا الأول، فعلم نفس النمو لم يستقل أبدًا عن ميدان علم النفس التربوي مجاله الرحب وأفقه الواسع، فكل بحث في النمو الإنساني وكل دراسة حوله إنما تتم وعين الكاتب وقلب الباحث على طرق تويجه هذا النمو؛ بحيث يتحقق للإنسان في كل مراحل حياته هذا التآلف السعيد بين عالمه الشخصي وعالمه الاجتماعي، وعلماء النفس التربويون هم كتيبة من فيلقٍ عظيم من المتخصصين في العلوم الإنسانية، يسعون جاهدين ليحققوا للإنسان حلمه المنشود.
والكتاب الذي بين يديك هو وصف لأبدع رحلات الإنسان، هذه الرحلة المعجزة التي تبدأ به خلية أحاديث التكوين، ويتحول خلالها إلى جنين، فطفل، فمراهق، فشاب، فراشد، فكهل، ثم إلى شيخ، فهرم فانٍ. هذه الرحلة التي وصفها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، والتي تتضمن الكثير من آيات الله ﷾ وسنته في خلقه.
وقد وجَّه تصنيف مراحل النمو في هذا الكتاب تقسيم القرآن الكريم لها.
يقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ . [الروم: ٥٤] .
وقد عبَّر الكتاب عن هذه المراحل الثلاث الكبرى بما نسميه: "المراحل الكبرى" في حياة الإنسان، أو "الأعمال الثلاثة" للإنسان، ومعنى ذلك أن هذا الكتاب لم يلتزم بالتقسيم الشهير لنمو الإنسان، وإنما سار على نحو يتفق مع التقسيم
1 / 5
القرآني إلى مرحلتين للضعف، بينهما مرحلة قوة، هي مرحلة الرشد، والضعف الأول "ضعف الطفولة والصبا والشباب" هو ضعف التحول إلى الرشد، أما الضعف الثاني: "ضعف الشيخوخة والهرم" فهو ضعف التحول عن الرشد.
وقد جاءت الطبعة الرابعة من الكتاب في ستة أبواب. تناول الباب الأول الأسس العامة التي تقوم عليها دراسة النمو الإنساني، ويتألف من خمسة فصول. تناول الفصل الأول طبيعة النمو الإنساني وقضاياه الأساسية، وفي الفصل الثاني: عرض لأصول علم النفس في الغرب، وفي الفصل الثالث: محاولة لتحديد الوجهة الإسلامية لعلم نفس النمو، وتطلَّبَ ذلك السعي البحثَ في النمو الإنساني كما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ثم عند فقهاء المسلمين ومفكريهم وفلاسفتهم، ثم بناء نموذج النمو الإسلامي في هذا الإطار الإسلامي الشامل.
وفي الفصل الرابع: عرض لمناهج البحث في النمو الإنساني؛ بدأناه بتوصيف مركز للصلة الوثيقة بين المنهج العلمي في البحث والتصور الإسلامي للمعرفة، ثم تناولنا بشيء من التفصيل والتقويم الطرق المنوعة التي يستخدمها الباحثون المحدثون في هذا الميدان. أما الفصل الخامس: فقد خصصناه للنماذج النظرية للنمو الإنساني، مع التركيز خاصةً على نموذج بياجيه في النمو المعرفي، ونموذ إريكسون في النمو الانفعالي والوجداني، ونموذج كولبرج في النمون الخلقي والاجتماعي.
أما الباب الثاني: فيتناول مرحلة الجنين، والتي تعد جزءًا من العمر الأول للإنسان، والعمر الأول للإنسان هو تلك المرحلة الكبرى التي تبدأ بتكوين الجنين في الرحم، وتنتهي بدخول الإنسان عالم الراشدين، هي مرحلة تتسم بالضعف حسب الوصف القرآني لها، إلّا أنه ضعف التحول إلى القوة "أي: الرشد". ولهذا نلاحظ على هذه المرحلة الكبرى تحسنًا مستمرًّا مضطردًا يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، تحقيقًا لهذه الغاية. وقد جاء الباب الثاني حول أطوار مرحلة الجنين في ثلاثة فصول، التزمنا فيها بالتقسيم القرآني لها؛ ففي الفصل السادس تناولنا تكوين النطفة، وفي الفصل السابع عرضنا لأطوار نمو الجنين ابتداءً من طور النطفة الأمشاج، فطور العلقة، فطور المضغة، فطور تكوين العظام والعضلات "اللحم"، فطور التسوية، ثم خصَّصّنا الفصل الثامن لرعاية الجنين والأم الحامل.
ويمتد العمر الأول للإنسان إلى الباب الثالث الذي خصصناه لمرحلة الطفولة.
ومرة أخرى التزمنا في تصنيف أطوار هذه المرحلة بالتقسيم الإسلامي لها، وقد
1 / 6
جاء هذا الباب في أربعة فصول، فتناول الفصل التاسع طور الوليد، والفصل العاشر طور الرضيع، والفصل الحادي عشر طور الحضانة، والفصل الثاني عشر طور التمييز.
ومع تقدم الإنسان في النمو في عمر ضعفه الأول تزداد قوته توجهًا نحو الرشد، ولهذا خصصنا الباب الرابع للمرحلة الأخيرة من مراحل هذا العمر الأول، وهي مرحلة المراهقة والشباب، وقد جاء تناولها في فصلين موجهين مرةً أخرى بالمنظور الإسلام؛ ففي الفصل الثالث عشر تناول لطور بلوغ الحلم "أو المراهقة"، وفي الفصل الرابع عشر معالجة لطور بلوغ السعي "أو الشباب".
ويتناول الباب الخامس "العمر الثاني للإنسان" وهو الرشد الإنساني والقوة البشرية، والذي يمتد إلى أن يصل بالإنسان إلى ضعفه الجديد مع الشيخوخة، وقد جاء عرضنا لهذه الفترة الكبرى في أربعة فصول، فيعرض الفصل الخامس عشر لحدود الرشد، وكان موجهًا في هذا التحديد بالمحك الإسلامي، وفي تقيسم هذا العمر إلى مراحله وأطواره، وكان التزامنا -كالشأن في المراحل والأطوار السابقة- بالتوجيه الإسلامي، ولهذا تناول الفصل السادس عشر طور بلوغ الرشد "أو ما يسمى الرشد المبكر"، والفصل السابع عشر طور بلوع الأشد "أو ما يسمى وسط العمر"، ثم خصصنا الفصل الثامن عشر لموضوعٍ هو الشغل للمربين المعاصرين، وهو التعلم مدى الحياة للإجابة على السؤال الهام: كيف يتعلم الراشدون؟
وفي الباب السادس والأخير: يتناول الكتاب "العمر الثالث للإنسان" أي: مرحلة ضعف المسنين، وقد جاء عرضنا لهذه المرحلة في أربعة فصول موجهة كلها بالمنظور الإسلامي؛ ففي الفصل التاسع عشر عرضنا لحدود الضعف الثاني، وهي حدود الشيخوخة والهرم، وقد تطلَّب ذلك مناقشة مفصلة للمحكّات الشائعة في الوقت الحاضر، ومناقشتها في ضوء المحك الإسلامي، وقد خصصنا لهذا الموضوع الفصل التاسع عشر، أما الفصل العشرون: فقد تناول التغيرات التي تطرأ على الإنسان في طور الشيخوخة، وهو الذي يسميه القرآن الكريم أرذل العمر. وكان لابد أن ينتهي هذا الباب كما ينتهي الكتاب بفصلٍ عن رعاية المسنين، وهو الفصل الثاني والعشرون.
وهكذا نجد بإزاء تصور للنمو على أنه "دورة حياة"، وليس مراحل منفصلة متقطعة، وإذا كان هذا التصور لم يشع في كتابات علم نفس النمو إلّا منذ سنوات
1 / 7
قليلة، فإن القرآن الكريم بإعجازه العلميّ الرفيع، عبَّر عنه بأبلغ تعبير منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا.
يقول الله تعالى في سورة الحج:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ...﴾ .
وهذا الكتاب ما هو إلّا محاولة علمية لخدمة هذه الآيات البينات، ونحن نفضل أن يكون "العلم في خدمة القرآن الكريم"، وقد حاولنا ما استطنا أن نعيد تنظيم المعرفة السيكولوجية المتاحة في هذا الإطار القرآني العظيم، سعيًا لتحديد وجهة إسلامية لعلم نفس النمو، ونرجو من الله ﷾ أن نكون قد وفقنا في تحقيق هذه الغاية النبيلة.
ولم يبق لنا أن نقول إلّا ما قلناه عند تقديم كتابنا الأول "علم النفس التربوي" وأيضًا في الطبعات السابقة من هذا الكتاب، من أننا نعتبر الجهد الذي بذلناه فيه رسالة ولاء لوطن أحببناه، وعلم كرسّنا حياتنا له، وهو ثمرة أخرى من ثمار عمرنا المشترك الذي قضيناه زوجين ووالدين وجدين ومعلمين وباحثين في علم النفس، والله نسأل أن ينفع به قارئه ودارسه، إنه ﷾ هو الموفق إلى سواء السبيل.
أ. د فؤاد عبد اللطيف أبو حطب
أستاذ علم النفس التربوي
كلية التربية جامعة عين شمس
ومدير المركز القومي للإمتحانات والتقويم التربوي
أ. د آمال أحمد مختار صادق
أستاذ علم النفس التربوي
كلية التربية جامعة حلوان
نائب رئيس جامعة حلوان
لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة
القاهرة
صفر ١٤١٩ هـ
يونية ١٩٩٨ م
1 / 8
الباب الأول: الأسس العامة
الفصل الأول: طبيعة النمو الإنساني
مدخل
...
الباب الأول: الأسس العامة
الفصل الأول: طبيعة النمو الإنساني
إن الذين يبحثون عن إجاباتٍ سهلة لأسئلتهم، وحلول جاهزة لمشكلاتهم، سوف يجدون النمو الإنساني موضوعًا محبطًا لتوقعاتهم، أما الذين يتسامحون مع الغموض، ويحبون التعامل مع الأسئلة التي لم يجب عنها بعد، بل الذين يفضلون الموضوعات التي تطرح المزيد من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات، فسوف يجدون فيه موضوعًا للتحدي والاستثارة، بل والإبداع العلمي.
والسؤال الذي نبدأ به هذا الكتاب هو: ما النمو؟ إن معظم دارسي هذا الموضوع -كغيرهم من دارسي الفروع الأخرى من علم النفس- يختلفون عن دارسي العلوم الطبيعية والبيولوجية، في أنهم يشعرون بأن موضوعهم مألوفٌ لديهم قبل البدء في أي دراسة منظمة له، فنحن جميعًا نعرف شيئًا عن أنفسنا في مراحل عمرنا المختلفة، وكلٌّ منا لاحظ عن قرب شخصًا آخر ينمو، طفلًا أو شابًا أو راشدًا أو كهلًا أو شيخًا، وكثيرون منا ساهموا في هذه العملية من خلال أدوار الوالدية، أو عمليات التنشئة والتطبيع، ومعظمنا سمع البرامج، وشاهد الأفلام، وقرأ ما هو شائع عن تقدم الإنسان وتدهوره في مختلف مراحل حياته، ولهذا السبب ربما يكون موضوع النمو هو الموضوع الوحيد من بين موضوعات مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية الذي يجعل قارئه مشاركًا مع كاتبه في حوار دائم، يتفق معه ويختلف، بل قد يشعر في كثير من الأحيان أن خبرته الشخصية لا تدعم النتائج التي تَمَّ التوصل إليها.
إلَّا أن الألفة الشديدة بموضوع البحث قد تكون عائقًا أكثر منها ميزة؛ فهناك خطر حقيقيٌّ على الفهم العلمي عندما يقترب المرء من موضوع البحث مزودًا بأفكار مسبقة راسخة عنه، وخاصة إذا كانت هذه الأفكار هي من نوع المعتقدات الشائعة في الحكمة الشعبية أو الفهم العام، وبالطبع فإن الفهم العام قد يتفق أحيانًا مع الملاحظة العلمية، إلّا أنه في كثير من الأحيان لا يتفق، خذه بعض الأمثلة على ذلك: يذكر الفولكلور التربوي أن الأطفال الذين يحظون بالاهتمام الوالديّ المباشر عند كل صيحة تصدر عنهم، سوف يصبحون مدلَّلِين معتمدين. كما يذكر أيضًا
1 / 3
إنه إذا غابت العصا "أي: العقاب" يفسد الطفل. ويذكر ثالثًا أن الأطفال الذين ينشأون وسط عائلات كبيرة يكون محصولهم اللغوي أكبر من أطفال الأسر الصغيرة، ناهيك أنه قد ظهرت على مدى التاريخ الإنساني وجهات نظر متباينة حول طبيعة الطفل، ومن ذلك مثلًا: هل يولد الطفل وشخصيته الأساسية كاملة التكوين؟ أم أن هذه الشخصية تحددها أساليب التنشئة الاجتماعية وخاصة التنشئة الوالدية؟ هل الأطفال متوحشون صغار؟ ودور المجتمع أن يعلمهم السلوك المدني؟ أم أنهم يولدون كائنات أخلاقية ويعلمهم المجتمع الجشع والأنانية؟ هذه بعض أفكار الفهم العام التي لا يوجد دليل علمي يدعمها، بل إن بعضها توجد حوله ثروة من الأدلة التي تدحضه.
ولم يتطور العلم إلّا عندما أنشأ مناهجه في البحث وطرقه في الدراسة، والتي بها نزداد فهما للقضايا الخلافية، فالخبرة الشخصية والفهم العام قد يكون نقطة البداية في دراسة النمو، إلّا أن اللجوء إلى الملاحظة العلمية المنظمة يساعد على ترشيد فهمنا لنمو السلوك الإنساني على أساس أدلة الواقع وشواهده، بالإضافة إلى أنها تعيننا على تغيير نظرتنا، وتوسيع آفاق وعينا، وكلما ازددنا تعلمًا بالأسلوب العلمي، يمكننا أن نرى أبعادًا جديدة في التفاصيل الكثيرة المألوفة في دورة الحياة الإنسانية.
موضوع علم نفس النمو: النمو الإنساني أرض مشتركة لعدد من العلوم الإنسانية الاجتماعية والبيولوجية الفيزيائية، وتشمل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم الأجنة وعلم الوراثة وعلم الطب، إلّا أن علم النفس يقف بين هذه العلوم بتميزه الواضح يتناول هذه الظاهرة، وأنشأ فرعًا منه يختص بدراستها، هو علم نفس النمو "أو علم النفس الارتقائي، كما يسمى أحيانًا" Developmental psychology، ومع ذلك فإن تنوع المعارف التي زودتنا بها العلوم الأخرى، ووفرة هذه المعلومات تدعونا إلى وصف هذا المجال بأنه من نوع المجالات العلمية المشتركة Interdisciplinary، التي يحتاج أصحابها إلى كل ما توفر مصادر المعرفة الأخرى الوثيقة الصلة به. وعلم نفس النمو هو فرع علم النفس الذي يهتم بدراسة التغيرات التي تطرأ على سلوك الإنسان من المهد -بل وقبله- إلى اللحد، ويحدد بجنر "Bigner، ١٩٨٣: ٥" الاهتمامات التي تشغل العلماء في هذا الميدان بالأسئلة العشرة الآتية:
موضوع علم نفس النمو: النمو الإنساني أرض مشتركة لعدد من العلوم الإنسانية الاجتماعية والبيولوجية الفيزيائية، وتشمل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم الأجنة وعلم الوراثة وعلم الطب، إلّا أن علم النفس يقف بين هذه العلوم بتميزه الواضح يتناول هذه الظاهرة، وأنشأ فرعًا منه يختص بدراستها، هو علم نفس النمو "أو علم النفس الارتقائي، كما يسمى أحيانًا" Developmental psychology، ومع ذلك فإن تنوع المعارف التي زودتنا بها العلوم الأخرى، ووفرة هذه المعلومات تدعونا إلى وصف هذا المجال بأنه من نوع المجالات العلمية المشتركة Interdisciplinary، التي يحتاج أصحابها إلى كل ما توفر مصادر المعرفة الأخرى الوثيقة الصلة به. وعلم نفس النمو هو فرع علم النفس الذي يهتم بدراسة التغيرات التي تطرأ على سلوك الإنسان من المهد -بل وقبله- إلى اللحد، ويحدد بجنر "Bigner، ١٩٨٣: ٥" الاهتمامات التي تشغل العلماء في هذا الميدان بالأسئلة العشرة الآتية:
1 / 4
"١" ما نمط التغير الذي يطرأ على الإنسان مع نموه؟
"٢" ما التنظيم الذي تتخذه حياة الإنسان في دورتها الكلية أو مداها الكامل؟
"٣" ما الخصائص المميزة للنمو في كل مرحلة من مراحل دورة الحياة؟
"٤" ما الذي نتوقعه من الفرد في كل مرحلة من مراحل حياته؟
"٥" ما درجة الاتساق في التغير من مرحلة إلى أخرى في حياة الإنسان؟
"٦" ما درجة العمومية والتفرد في الشخصية الإنسانية في مراحل حياة الإنسان المختلفة؟
"٧" ما الذي يمكن أن نقدمه للإنسان حتى يفهم مسيرة حياته تجنبًا لمشاعر القلق أو الخوف من المستقبل؟
"٨" ما الذي يمكن أن تقدمه دراستنا لنمو سلوك الآخرين في فهم نمونا الذتي؟
"٩" ما العوامل والقوى والمتغيرات التي تؤثر في النمو الإنساني عبر مدى الحياة؟
"١٠" ما الذي يمكن أن تقدمه دراسة النمو في مواجهة متطللبات الإنسان في الماضي والحاضر والمستقبل؟
وقد حاول علماء النفس الإجابة على بعض هذه الأسئلة طوال أكثر من مائة عام انقضت حتى الآن "عام ١٩٩٨" منذ النشأة العلمية المنظمة لعلم نفس النمو.
وفي كل مرحلة من مراحل نمو هذا العلم سادت بعض الاهتمامات وتضاءلت أخرى.
فعندما ظهر هذا العلم في أواخر القرن التاسع عشر، كان تركيزه على فترات عمرية خاصة، وظلَّ على هذا النحو لعقود طويلة متتابعة، وكانت الاهتمامات المبكرة مقتصرة على أطفال المدارس، ثم امتدَّ الاهتمام إلى سنوات ما قبل المدرسة، وبعد ذلك إلى سن المهد "الوليد والرضيع"، فإلى مرحلة الجنين "مرحلة ما قبل الولادة".
وبعد الحرب العلامية الأولى بقليل، بدأت البحوث حول المراهقة في الظهور والذيوع، وخلال فترة ما بين الحربين ظهرت بعض الدراسات حول الرشد المبكر، إلّا أنها لم تتناول النمو في هذه المرحلة بالمعنى المعتاد، بل ركزت على قضايا معينة مثل ذكاء الراشدين وسمات شخصياتهم، ويذكر مايلز miles، ١٩٣٣" أنه حتى عام ١٩٣٣ لم تتجاوز بحوث سيكولوجية النمو السنوات الخمس والعشرين الأولى من حياة الإنسان، بينما تركت السنوات الخمسون أو الستون التالية "والتي
1 / 5
تشمل مراحل الرشد والشيخوخة" للتراث القصصي والفولكلور النفسي والاجتماعي والانطباعات الشخصية.
ومنذ الحرب العالمية الثانية ازداد الاهتمام التدريجي بالرشد، وخاصةً مع زيادة الاهتمام بحركة تعليم الكبار، أما الاهتمام بالمسنين فلم يظهر بشكلٍ واضحٍ إلّا منذ مطلع الستيات من هذا القرن، وكان السبب الجوهري في ذلك الزيادة السريعة في عددهم، ونسبتهم في الإحصاءات السكانية العامة، وما تتطلب ذلك من دراسة لمشكلاتهم، وتحديد أنواع الخدمات التي يجب أن توجه إليهم.
وتذكر هيرلوك "Hurlock، ١٩٨٠" سببين جوهرين لهذا الاهتمام غير المتكافئ بمراحل العمر المختلفة في مجال علم نفس النمو هما:
١- الحاجة إلى حل المشكلات العملية التطبيقية:
من الدوافع الهامة التي وجَّهَت البحث في مجال علم نفس النمو الضروروات العملية، والرغبة في حلِّ المشكلات التي يعاني منها الأفراد في مرحلة عمرية معينة، ومن ذلك أن بحوث الطفولة بدأت في أصلها للتغلب على الصعوبات التربوية والتعليمية لتلاميذ المدرسة الابتدائية، ثم توجهت إلى المشكلات المرتبطة بطرق تنشئة الأطفال على وجه العموم، ووجّه البحث في محلة المهد الرغبة في معرفة ما يتوافر لدى الوليد من استعدادات يولد مزودًا بها، أما البحث في مرحلة الرشد فقد وجهه الدافع إلى دراسة المشكلات العملية المتصلة بالتوافق الزواجي، وأثر تهدم الأسرة على الطفل، وقد أشرنا فيما سبق إلى العوامل التي وجهت البحث في مجال الشيخوخة.
٢- الصعوبات المنهجية في دراسة بعض مراحل العمر:
على الرغم من الاهتمام بدراسة المراحل المختلفة لدورة الحياة لدى العامة المتخصصين على حدٍّ سواء، إلّا أن البحث في بعض هذه المراحل عاقته بعض الصعوبات المنهجية، فالحصول على عينات البحث مثلًا أسهل في حالة تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، وتؤثر بعض الاتجاهات الوالدية في تعويق البحث في بعض المراحل، كأن ترفض الأمهات والآباء تعرض أطفالهم الرضع للبحث العلمي خوفًا عليهم من الأذى، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحصول على المعلومات من الراشدين سواء بتطبيق الاختبارات عليهم، أو إجراء المقابلات الشخصية معهم دونه خرط القتاد، وتزداد هذه الصعوبة مع تقدم الإنسان في السن، ولعل هذا يفسر لنا تركيز بحوث المسنين الحديثة على المودعين بمؤسسات الرعاية، وهم عادةً لا يمثلون الأصل الإحصائي العام في المجتمع.
1 / 6
أهداف البحث في علم نفس النمو:
يمكن القول أن لسيكولوجية النمو هدفين أساسيين: أولهما الوصف الكامل والدقيق قدر الإمكان للعمليات النفسية عند الناس في مختلف أعمارهم، واكتشاف خصائص التغير الذي يطرأ على هذه العمليات في كل عمر. وثانيهما تفسير التغيرات العمرية "الزمنية" في السلوك، أي: اكتشاف العوامل والقوى والمتغيرات التي تحدد هذه التغيرات، والهدف الثاني حديث نسبيًّا، فمن الوجهة التاريخية يمكن القول أن البحث في هذا الميدان منذ نشأته حتى وقتنا الحاضر، تركز على دراسة طبيعة التغير ومعدلاته في الجوانب المختلفة للسلوك؛ مثل: القدرة الحسية والحركية، ووظائف الإدراك والذكاء، والاستجابات الاجتماعية والانفاعالية وغيرها، وهي جميعًا تدخل في باب الوصف، وقد ازداد الاهتمام في السنوات الأخيرة بهدف التفسير، ثم أضيفت أهداف أخرى تتصل بالرعاية والمعاونة والتحكم والتنبؤ، أو باختصار التدخل في التغيرات السلوكية.
١- وصف التغيرات السلوكية:
على الرغم من أن هدف الوصف هو أبسط أهداف العلم إلّا أن أكثرها أساسية، فبدونه يعجز العلم عن التقدم إلى أهدافه الأخرى، والوصف مهمته الجوهرية أن يحقق للباحث "فهمًا" أفضل للظاهرة موضع البحث. ولذلك، فالباحث في علم نفس النمو عليه أن يجيب أولًا على أسئلة هامة مثل: متى تبدأ عملية نفسية معينة في الظهور؟ وما هي الخطوات التي تسير فيها، سواءً نحو التحسن أو التدهور؟ وكيف تؤلف مع غيرها من العمليات النفسية الأخرى أنماطًا معينة من النمو؟
خذ مثلًا على ذلك: إننا جميعًا نلاحظ تعلق الرضيع بأمه، وأن الأم تبادل طفلها هذا الشعور، والسؤال هنا: متى يبدأ شعور التعلق attachment في الظهور؟ وما هي مراحل تطوره؟ وهل الطفل المتعلق بأمه تعلقًا آمنًا يكون أكثر قدرة على الاتصال بالغرباء، أم أن هذه القدرة تكون أكبر لدى الطفل الأقل تعلقًا بأمه؟ هذه وغيرها أسئلة من النوع الوصفي.
ويجاب عن هذه الأسئلة بالبحث العلمي الذي يعتمد على الملاحظة، أي: من خلال مشاهدة الأطفال والاستماع إليهم، وتسجيل ملاحظتنا بدقة وموضوعية.
وكانت أقدم الملاحظات المنظمة المسجلة التي تتعلق بنمو الأطفال ما يسمى: "سير الأطفال"، والتي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر، وخلال القرن التاسع
1 / 7
عشر، وتتلخص في وصف نمو طفل واحد "هو في العادة ابن الباحث أو قريبه" في محاولة لتتبع التغيرات في النواحي الحسية والحركة واللغوية والقدرة العقلية.
وعلى الرغم من أن هذه الأعمال لا تعد من نوع الملاحظات العلمية؛ لأنها تتسم بالتحيز والانتقائية، إلّا أنها أثارت اهتمامًا كبيرًا بدراسة الأطفال، وبالمشكلات الجوهرية في سيكولوجية النمو.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، أجرى عالم النفس الأمريكي ج. ستانلي هول، أول بحث منظم حول ما أسماه: "محتويات عقول الأطفال"، وقد استخدم لأول مرة مجموعة من الأسئلة يمكن أن يجيب عنها كتابة مجموعات كبيرة من الأطفال. وأعدت هذه "الاستخبارات" لجمع معلومات عن سلوك الأطفال والمرهقين، واتجاهاتهم وميولهم، وقد كان غرض هول -مثل غرض كتاب سير الأطفال- وصف طبيعة "محتويات العقول" وصفًا دقيقًا، ويشمل ذلك الأفكار والمشاعر والانفعالات.
وبزيادة الاهتمام بميدان سيكولوجية النمو ابتكر علماء النفس طرقًا أفضل، وجمعوا بيانات أدق تصف لنا الجوانب المختلفة للنمو، وقد زودتنا نتائج هذه البحوث الوصفية بثروة هائلة من الحقائق الجزئية التفصيلية إلى حد يدفعنا إلى القول بأنه: لا يوجد فرع آخر من فروع علم النفس توافر له ما توافر لعلم نفس النمو من تفاصيل ودقائق المعرفة.
والغرض الذي يسعى إليه الوصف في العلم هو تحقيق درجة عالية من الفهم، ولا شك أن ما يعيننا على مزيد من الفهم، أن ملاحظتنا الوصفية في مجال علم نفس النمو لا تكون عادة منفصلة، وإنما تتخذ في الأغلب صورة النمط أو المتوالية، وحالما يستطيع الباحث أن يصف اتجاهات نمائية معينة، ويحدد موضع الطفل أو المراهق أو الراشد فيها، فإنه يمكنه الوصول إلى الأحكام الصحيحة حول معدل نموه، وهكذا نجد أن هدف الوصف في علم نفس النمو يمر بمرحلتين أساسيتين؛ أولاهما: الوصف المفصل للحقائق النمائية، وثانيتهما: ترتيب هذه الحقائق في اتجاهات أو "أنماط" وصفية كما يسميها فشبن "Fishbein، ١٩٨٤: ٧"، وهذه الأنماط قد تكون متآنية في مرحلة معينة، أو متتابعة عبر المراحل العمرية المختلفة.
٢- تفسير التغيرات السلوكية:
الهدف الثاني لعلم نفس النمو هو التعمق فيما وراء الأنماط السلوكية التي تقبل الملاحظة، والبحث عن أسباب حدوثها، أي: هدف التفسير، والتفسير يعين الباحث على تعليل الظواهر موضع البحث من خلال الإجابة على سؤال: لماذا؟ بينما
1 / 8
الوصف يجب على السؤال: ماذا؟ وكيف؟
وقد ظلَّ وصف اتجاهات النمو هدفًَا سائدًا في هذا الميدان لسنوات طويلة، ولم تتحول البحوث إلّا في الربع الأخير من القرن العشرين إلى الهدف الثاني، وهو تفسير التغيرات السلوكية التي نلاحظها مع تقدم الإنسان في العمر. ومن الأسئلة التفسيرية: لماذا يتخلف الطفل في المشي، أو يكون أكثر طلاقة في الكلام، أو أكثر قدرة على حل المشكلات المعقدة بتقدمه في العمر؟ وإلى أيّ حدٍّ ترجع هذه التغيرات إلى "الفطرة" التي تشمل فيما تشمل الخصائص البيولوجية والعوامل الوراثية ونضج الجهاز العصبي، أو إلى "الخبرة" أي: التعلم واستثارة البيئة؟
والإجابة على مثل هذه الأسئلة تتطلب من الباحث أن يسير في اتجاهين؛ أحدهما: يجيب على السؤال: لماذا تبدأ متوالية سلوكية معينة في الظهور؟ وثانيهما: لماذا تستمر هذه المتوالية السلوكية في النمو؟ وعادة ما تبدأ الإجابة بتقصي الدور النسبي للفطرة "الوراثة"، والخبرة "البيئة".
فمثلًا إذا كان الأطفال المتقدمون في الكلام في عمر معين يختلفون وراثيًّا عن المتخلفين نسبيًّا فيه، نستنتج من هذا أن معدل التغير في اليسر اللغوي يعتمد ولو جزئيًّا على الوراثة، أما إذا كشفت البحوث عن أن الأطفال المتقدمين في الكلام يلقون تشجيعًا أكثر على إنجازهم اللغوي، ويمارسون الكلام أكثر من غيرهم، فإننا نستنتج أن التحسن في القدرة اللغوية الحادث مع التقدم في العمر يمكن أن يعزى -جزئيًّا على الأقل- إلى الزيادة في الاستثارة البيئية.
وفي الأغلب نجد أن من الواجب علينا لتفسير ظواهر النمو أن نستخدم المعارف المتراكمة في ميادين كثيرة أخرى من علم النفس وغيره من العلوم؛ مثل: نتائج البحوث في مجالات التعلم والإدراك والدافعية، وعلم النفس الاجتماعي، وسيكولوجية الشخصية، والوراثة، وعلم وظائف الأعضاء "الفسيولوجيا"، والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع.
وإليك بعض الأمثلة على العلاقات بين هذه الموضوعات المتعددة؛ فبعض الخصائص مثل المظهر الجسمي ومعدلات النمو الجسمي والذكاء، وبعض صور الضعف العقلي والمرض العقلي، تتحدد جزئيًّا بالوراثة، ولكي نفهم هذه النواحي فهمًا كاملًا، فإن الأخصائي في سيكولوجية النمو يحتاج إلى بعض المعلومات من علم الوراثة، كما أن التغيرات الجسمية والسلوكية السريعة التي تحدث في فترة المراهقة تتحدد كثيرًا بعمليات فسيولوجية أساسية، منها نشاط الغدد الصماء، والكيمياء الحيوية لجهاز الدم في الجسم، ولبحث هذه الظواهر يجب على علم
1 / 9
النفس أن يحصل على نتائج علم الفسيولوجيا وعلم الغدد الصماء، ومن البحوث التي تجرى في ميدان طب الأطفال تحصل على معلومات هامة عن تأثيرات المرض وسوء التغذية والعقاقير في النمو الجسمي والنفسي.
وكثير من دوافع الشخص ومشاعره واتجاهاته وميوله، تتحدد إلى حدٍّ كبير بالجماعة التي ينتمي إليها، سواء كانت طبقة اجتماعية، أو جماعة دينية، أو جغرافية، أو عنصرية، وقد قدَّم لنا علم الأنثربولوجيا وعلم الاجتماع حقائق هامة عن أثر البيئة الاجتماعية والثقافة في نمو الشخصية، وفي النمو الاجتماعي للإنسان.
ومن الواضع من هذا كله أن الفهم الشامل لسيكولوجية النمو، والتغيرات النمائية والميكانيزمات والعمليات المحددة له، يتطلب تكامل أنواع عديدة من المعارف التي نحصل عليها من مصادر متعددة للعلم.
وحتى يمكننا الحكم على نتائج البحوث التي أجريت في ميدان النمو، يجب أن نميِّز دائمًا بين الوصف والتفسير؛ فالظواهر يجب أن توصف قبل أن تفسير، ولكن الوصف في حدِّ ذاته لا يعطينا تعليلًا يوضح لماذا تحدث الظاهرة، أو يشرح العوامل أو المحددات التي تؤثر فيها. خذ مثلًا على ذلك إذا وجد الباحث أن الطفل من سن ٣ سنوات يميل إلى أن يصبح أكثر ميلًَا إلى السلوك السلبي والمعارضة والعناد من طفل سن الثالثة، هذه النتيجة هي مجرد وصف، ولا تعطي أي معلومات عن الأسباب التي تؤدي بالطفل إلى هذا السلوك، وأخطر ما في الأمر أن يميل المرء إلى تفسير سلوك هذا الطفل في ضوء العمر الزمني وحده، وكأنه بذلك يقول: إن الطفل يميل إلى المعارضة لأن عمره ثلاث سنوات، إن هذه العبارة ليست دقيقة علميًّا، كما أنها ليست مقنعة منطقيًّا.
٣- التدخل في التغيرات السلوكية:
الهدف الثالث من أهداف الدراسة العلمية لنمو السلوك الإنساني هو التدخل في التغيرات السلوكية سعيًا للتحكم فيها، حتى يمكن ضبطها وتوجيهها والتنبؤ بها.
ولا يمكن أن يصل العلم إلى تحقيق هذا الهدف إلّا بعد وصف جيد لظواهره وتفسيرٍ دقيق صحيح لها من خلال تحديد العوامل المؤثرة فيها، لنفرض أن البحث العلمي أكد لنا أن التاريخ التربوي الخاطيء للطفل يؤدي به إلى أن يصبح بطيئًَا في عمله المدرسي، ثائرًا متمردًا في علاقاته مع الأفراد، إن هذا التفسير يفيد في أغراض العلاج؛ من خلال تصحيح نتائج الخبرات الخاطئة، والتدريب على مهارات التعامل الاجتماعي مع الآخرين، وقد يتخذ ذلك صورًا عديدة لعل أهمها
1 / 10
التربية التعويضية Compensatory education، والتعلم العلاجي Rmedial Learning.
ولعل هذا الهدف يقودنا إلى مهمة عاجلة لسيكولوجية النمو، وهي مهمة الرعاية والمساعدة، والمتخصص في علم نفس النمو لا يستطيع ذلك إلّا إذا توافر له من الفهم من خلال الوصف والقدرة على التعليل من خلال التفسير ما يمكِّنُه من اقتراح نوع الرعاية المناسبة، وبالطبع فإن الرغبة في المساعدة والرعاية يشترك فيها الأخصائي النفسي مع آخرين غيره؛ منهم الآباء والأمهات والمعلمون والأطباء والممرضون والأخصائيون الاجتماعيون والدعاة والوعاظ والإعلاميون، ومهمة علم نفس النمو أن يقدم لهؤلاء وغيرهم الفهم الواضح، والتعليل الدقيق لظواهر النمو الإنساني.
خصائص النمو الإنساني النمو عملية تغير ... خصائص النمو الإنساني: حتى يتوجه فهمنا لطبيعة النمو الإنساني وجهةً صحيحةً نعرض فيما يلي الخصائص الجوهرية لهذه العملية الهامة. ١- النمو عملية تغير: كل نمو في جوهره تغير، ولكن ليس كل تغير يعد نموًّا حقيقيًّا، وتستخدم كلمة نمو في التراث السيكولوجي العربي المعاصر ترجمة لكلمة Development، ولو أنها ليست الترجمة الدقيقة، فالأصح أن تترجم هذه الكلمة الإنجليزية بكلمة "تنمية"، وهناك ترجمة محدودة للكلمة بمعنى: "ارتقاء"، حين يستخدم مصطلح "علم النفس الارتقائي"، ترجمة لعبارة Developmental Psychology كما أشرنا. وفي هذا الصدد قد يقتصر استخدام كلمة نمو على أن تكون ترجمة لكلمة Growth، والتي يقصر البعض استخدامها على الزيادة الإضافية في مقدار الخاصية أو الصفة السلوكية. وعمومًا يمكن القول أن علم نفس النمو يهتم بالتغيرات السلوكية التي ترتبط ارتباطًا منتظمًا بالعمر الزمني، فإذا كانت هذه التغيرات تطرأ على النواحي البيولوجية والفسيولوجية والنيرولوجية، وتحدث في بنية الجسم الإنساني ووظائف أعضائه نتيجة للعوامل الوراثية "الفطرة" في أغلب الأحيان، فإن هذه التغيرت تسمى نضجًا Maturation، أما إذا كانت هذه التغيرات ترجع في جوهرها إلى آثار الظروف البيئية "الخبرة"، تسمى تعلمًا Learing.
خصائص النمو الإنساني النمو عملية تغير ... خصائص النمو الإنساني: حتى يتوجه فهمنا لطبيعة النمو الإنساني وجهةً صحيحةً نعرض فيما يلي الخصائص الجوهرية لهذه العملية الهامة. ١- النمو عملية تغير: كل نمو في جوهره تغير، ولكن ليس كل تغير يعد نموًّا حقيقيًّا، وتستخدم كلمة نمو في التراث السيكولوجي العربي المعاصر ترجمة لكلمة Development، ولو أنها ليست الترجمة الدقيقة، فالأصح أن تترجم هذه الكلمة الإنجليزية بكلمة "تنمية"، وهناك ترجمة محدودة للكلمة بمعنى: "ارتقاء"، حين يستخدم مصطلح "علم النفس الارتقائي"، ترجمة لعبارة Developmental Psychology كما أشرنا. وفي هذا الصدد قد يقتصر استخدام كلمة نمو على أن تكون ترجمة لكلمة Growth، والتي يقصر البعض استخدامها على الزيادة الإضافية في مقدار الخاصية أو الصفة السلوكية. وعمومًا يمكن القول أن علم نفس النمو يهتم بالتغيرات السلوكية التي ترتبط ارتباطًا منتظمًا بالعمر الزمني، فإذا كانت هذه التغيرات تطرأ على النواحي البيولوجية والفسيولوجية والنيرولوجية، وتحدث في بنية الجسم الإنساني ووظائف أعضائه نتيجة للعوامل الوراثية "الفطرة" في أغلب الأحيان، فإن هذه التغيرت تسمى نضجًا Maturation، أما إذا كانت هذه التغيرات ترجع في جوهرها إلى آثار الظروف البيئية "الخبرة"، تسمى تعلمًا Learing.
1 / 11
وفي كلتا الحالتين: النضج والتعلم، قد تدل التغيرات على تحسن أو تدهور، وعادة ما يكون التدهور في الحالتين في المراحل المتأخرة من العمر "فؤاد أبو حطب ١٩٧٢، ١٩٧٥".
وهكذا يمكن القول أن المعنى السابق لكلمتي "تنمية" و"ارتقاء"، متضمن في استخدام كلمة "نمو"، الأكثر شيوعًا واستخدامًا في اللغة السيكولوجية العربية، ولهذا فإن موقفنا في هذا الكتاب هو اسخدام كلمة "نمو" لتدل على التغيرات الارتقائية أو التنموية التي أشرنا إليها، ولعل مما يفيد أغراض هذا الاستخدام أن من معاني كلمة Development الإنجليزية، كلمات مثل: نمو Growth، وتطور Evolution، وفيهما لا تتبع حالة معينة حالة أخرى فحسب، وإنما لا بد أيضًا أن تنبثق الحالة الراهنة من حالة سابقة، وقد يكون النمو أو التنمية في هذه الحالة تدريجيًّا "أي: تطور"، أو تحوليًّا "أي: ثورة" Revolution.
أما التغيرات غير النمائية، فإنها على العكس تعد نوعًا من حالة الانتقال التي لا تتطلب ثورة، أو تطورًا، أو تنمية بالمعنى السابق؛ فالشخص قد يغير ملابسه إلّا أن ذلك لا يعني نموًّا، فتتابع الأحداث في هذا المثال لا يتضمن وجود علاقة بين الحالة الراهنة للشخص وحالته السابقة، ومن السخف، بل من العبث، أن نفترض مثلًا أن ملابس الشخص التي كان يرتديها في العام الماضي نمت بالتطور أو الثورة إلى ما يرتديه الآن.
وهناك خاصية أخيرة في التغيرات النمائية أنها شبه دائمة باعتبارها نتاج كلٍّ من التعلم والنضج، وفي هذا تختلف عن التغيرات المؤقتة أو العارضة أو الطارئة؛ مثل: حالات التعب أو النوم أو الوقوع تحت تأثير مخدر، فكلها ألوان من التغير المؤقت في السلوك، ولكنها ليست نموًّا؛ لأن هذه التغيرات جميعًا تزول بزوال العوامل المؤثرة فيها، وتعود الأحوال إلى ما كانت عليه من قبل.
1 / 12
٢- النمو عملية منتظمة:
توجد أدلة تجريبية على أن تغيرات النمو تحدث بطريقة منتظمة، على الأقل في الظروف البيئية العادية، ومن هذه الأدلة ما يتوافر من دراسة الأطفال المبتسرين "الذين يولدون بعد فترة حمل تقل عن ٣٨ أسبوعًا"، والذين يوضع الواحد منهم في محضن يتشابه مع بيئة الرحم لاكتمال نموه كجنين، فقد لوحظ أنهم ينمون بيولوجيًّا وفسيولوجيًّا وعصبيًّا بنفس معدل نمو الأجنة الذين يبقون في الرحم نفس الفترة الزمنية.
وتحدث تغيرات منتظمة مماثلة بعد الولادة، واشهر الأدلة على ذلك جاء من بحوث جيزل وزملائه الذين درسوا النمو الحركي للأطفال في السنوات الأولى من حياتهم، فقد لاحظوا الأطفال في فترات منتظمة، وفي ظروف مقننة، ووصفوا سلوكهم وصفًا دقيقًا، ووجدوا نمطًا تتابعيًّا للنمو الحركي، حتى أن جيزل اقترح لوصف هذ التتابع المنتظم الثابت تسمية خاصة هي "المورفولوجيا النفسية". ومن أمثلة ذلك "الاتجاه من أعلى إلى أسفل" الذي أشار إليه كوجهل وغيره، و"الاتجاه من الوسط إلى الأطراف"، كما تظهر خصائص الانتظام في سلوك الحبو والوقوف والمشي واستخدام الأيدي والأصابع والكلام، هذه الألوان من السلوك تظهر في معظم الأطفال بترتيبٍ وتتابعٍ يكاد يكون واحدًا؛ ففي نضج المهارات الحركية عند الأطفال نجد أن الجلوس يسبق الحبو، والحبو يسبق الوقوف، والوقوف يسبق المشي، وهكذا. فكل مرحلة تمهد الطريق للمرحلة التالية، وتتابع المراحل على نحو موحد.
وقد تثير هذه الخاصية مرةً أخرى مسألة العلاقة بين النمو والعمر الزمني التي أشرنا إليها في وصفنا للتغيرات النمائية، لقد أدَّى ذلك بكثير من الباحثين إلى الاهتمام بوضع قوائم بالأحداث التي تطرأ على حياة الإنسان مع تقدمه في العمر.
ومع ذلك لم يقدم ذلك الجهد إسهامًا يذكر في فهمنا لطبيعة عملية النمو، والأجدى بالطبع هو وصف الأنماط السلوكية التي تنتج عن التكامل بين الذخيرة السلوكية المتوافرة لدى الفرد في وقت ما، والخبرات الجديدة التي يتعرض لها، ولهذا نجد كيسن "Kessen، ١٩٦٠" يقول: إن العمر في حد ذاته ليس هو المعادل الموضوعي للنمو، والعمر -في رأينا- ليس "زمنًا أجوف"، كما أن النمو لا يمكن أن يحدث في "فراغ زمني" وإنما يحدث فيه دائمًا هذا التفاعل والتكامل بين الخبرة الراهنة والبنى السلوكية التي تكونت من قبل لدى الفرد، وهو التفاعل والتكامل الذي يؤدي إلى تغيير طريقة الفرد في التفاعل مع البيئة، وعلى نحوٍ يؤدي به إلى مستويات أعلى من هذا التفاعل والتكامل "في حالة التحسن"، أو إلى مشتويات أدنى منهما "في حالة التدهور"، وهما وجها النمو. والخلاصة هنا أن النمو الإنساني يحدث في فترة محددة من الزمن، إلّا أن الزمن وحده ليس شرطًا كافيًا لحدوث النمو، وباختصار نقول: إن التغيرات النمائية هي المحتوى السلوكي للزمن.
1 / 13
٣- النمو عملية كلية:
يلجأ بعض مؤلفي كتب النمو إلى تناول الموضوع حسب مظاهر النمو ومجالاته، فيخصصون فصولًا أو كتبًا كاملة حول النمو الجسمي أو النمو العقلي أو النمو الوجداني أو النمو الاجتماعي عبر عدة مراحل لحياة الإنسان، وهذا أسلوب له حدوده، فقد يوحي بأن المكونات الجسمية والعقلية والاجتماعية والوجدانية الانفعالية من النشاط الإنساني، أو الشخصية الإنسانية، يمكن الفصل بينها، وتداول كل منها على أنه مظهر مستقل بالفعل، وهذا بالطبع مستحيل؛ فالنمو عملية كلية Holistic تحدث مظاهرها كلها متآنية وبينها علاقات متداخلة. والتركيز على تحليل المكونات قد يوقع القارئ في خطأ تجاهل ما يجب أن تكون عليه كل مرحلة من مراحل الحياة من تكامل واتساق.
وأيّ مبتدئ في علم النفس يعلم أن تحليل النمو إلى مكوناته هو أمر اصطناعي، على الرغم من أهميته. فالباحثون الذين يعملون في أي مجال من مجالات النمو، يلاحظون أن التغير في أحد مظاهر النمو له تضميناته وآثاره في المظاهر الأخرى؛ فالنمو اللغوي لا يعتمد فقط على المهارات اللغوية والنمو العقلي، وإنما يعتمد في كثير من جوانبه على النمو الاجتماعي والوجداني للطفل، وعلى ذلك فمن الواجب على المهتم بعلم نفس النمو أن يتبع منهجه التحليلي بنظرة تركيبية، وإلّا افتقد "وحدة" الشخصية، "وتكامل" السلوك. وقد وصف أحد مؤلفي هذا الكتاب دور كل من التحليل والتركيب في دراسة السلوك الإنساني في موضع آخر "فؤاد أبو حطب، ١٩٩٦"، وفي جميع الأحوال يجب أن نكون على وعيٍ بأن الكائن الإنساني هو مخلوق جسمي ومعرفي ووجداني واجتماعي في آنٍ واحد، وكل مكون من هذه المكونات يعتمد -جزئيًّا على الأقل- على التغيرات التي تحدث في المكونات الأخرى.
وعلى الرغم من أن المنحى الكليّ في النظر إلى النمو يعود بأصوله إلى سمتس عام ١٩٦٢. "Smuts، ١٩٢٦"، حين نحت مصطلح Holism، إلّا أن توظيفه في علم نفس النمو لم يظهر بشكل جادٍّ إلّا على يد شوستر وآشبورن "Schuster & Ashburn ١٩٩٢"، والذي ظهر في الطبعة الأولى من كتابهما عام ١٩٨٠، وعندهما أن المنظور الكلي يجب أن يتسع ليشمل المنحى التكاملي Inregrated في دراسة النمو الإنساني، والذي يتطلب دراسة أسرة الفرد وتاريخه وبيئته وأهدافه وأدواره، ولعل هذا يذكرنا بالمنظور التكاملي للنمو الذي قدمه عالم النفس المصري الرائد يوسف مراد، منذ أواخر الأربعينيات، وهو ما تناوله أحد مؤلفي هذا الكتاب في دراسة مستقلة "فؤاد أبو حطب ١٩٩٦".
1 / 14
٤- النمو عملية فردية:
يتسم النمو الإنساني بأنَّ كل فرد ينمو بطريقته وبمعدله، ومع ذلك فإن الموضوع يخضع للدراسة العلمية المنظمة، فمن المعروف أن البحث العلمي يتناول حالات فردية من أي ظاهرة فيزيائية أو نفسية، ثم يعمم من هذه الحالات إلى الظواهر المماثلة، إلّا أن شرط التعميم العلمي الصحيح أن يكون عدد هذه الحالات عينة ممثلة للأصل الإحصائي الذي تنتسب إليه، وبالطبع فإن هذا التعميم في العلوم الإنسانية يتم بدرجة من الثقة أقل منه في العلوم الطبيعية، وذلك بسبب طبيعة السلوك الإنساني، الذي هو موضوع البحث في الفئة الأولى من هذه العلوم.
والنمو الإنساني -على وجه الخصوص- خبرة فريدة، ولهذا فإن ما يسمى القوانين السلوكية قد لا تطبق على كل فرد بسبب تعقد سلوك الإنسان، وتعقد البيئة التي يعيش فيها، وتعقد التفاعل بينهما، ومن المعلوم في فلسفة العلم أن التعميم لا يقدِّم المعنى الكلي للقانون إذا لم يتضمن معالجة مفصلة لكل حالة من الحالات التي يصدق عليها، ومعنى هذا أن علم نفس النمو له الحق في الوصول إلى قوانينه وتعميماته، إلّا أننا يبقى معنا الحق دائمًا في التعامل مع الإنسان موضع البحث فيه على أنه كائن فريد، ولعلنا بذلك نحقق التوازن بين المنحى الناموسي العام Nomothtic، والمنحى الفردي الخاص Ldiographic، وهو ما لا يكاد يحققه أي فرع آخر من فروع علم النفس.
٥- النمو عملية فارقة: على الرغم من أن كثيرًا من العلومات التي تتناولها بحوث النمو تشتق مما يسمى المعاير السلوكية، إلّا أننا يجب أن نحذر دائمًا من تحويل هذه المعايير إلى قيود، وهذا ما نبَّه إليه نيوجارتن وزملاؤه "Neugartten et al ١٩٦٥" منذ عام ١٩٦٥. وهذا التحفظ ضروري وإلّا وقع الناس في خطأ فادحٍ يتمثل في إجبار أنفسهم وإجبار الآخرين على الالتزام بما تحدده هذه المعايير، ويدركونه بالطبع على أنه النمط "المثالي" للنمو، ومعنى ذلك أن ما يؤديه الناس على أنه السلوك المعتاد أو المتوسط، أو ما يؤدى بالفعل، "وهو جوهر المفهوم الأساسي للمعاير" يتحول في هذه الحالة ليصبح ما يجب أن يؤدى، ولعل هذا هو سبب ما يشيع بين الناس من الاعتقاد في وجود أوقات ومواعيد "ملائمة" لكل سلوك. وهكذا يصبح المعيار العملي البسيط تقليدًا اجتماعيًّا، ويقع الناس أسرى لما يسميه هيوز ونوب "Hughes & Noppe، ١٩٨٥" بالساعة الاجتماعية؛ بها يحكمون على كل نشاط من الأنشطة العظمى في حياتهم بأنه في "وقته تمامًا" أو أنه "مبكر" أو "متأخر" عنه، يصدق هذا على دخوله المدرسة أو إنهاء الدراسة أو الالتحاق بالعمل أو الزواج أو التقاعد، ما دام لكل ذلك معاييره، فحينما ينتهي الفرد من تعليمه الجامعيّ مثلًا في سن الثلاثين، فإنه يوصف "بالتأخير" حسب الساعة الاجتماعية، بينما إنجازه في سن السابعة عشرة يجعله "مبكرًا".
٥- النمو عملية فارقة: على الرغم من أن كثيرًا من العلومات التي تتناولها بحوث النمو تشتق مما يسمى المعاير السلوكية، إلّا أننا يجب أن نحذر دائمًا من تحويل هذه المعايير إلى قيود، وهذا ما نبَّه إليه نيوجارتن وزملاؤه "Neugartten et al ١٩٦٥" منذ عام ١٩٦٥. وهذا التحفظ ضروري وإلّا وقع الناس في خطأ فادحٍ يتمثل في إجبار أنفسهم وإجبار الآخرين على الالتزام بما تحدده هذه المعايير، ويدركونه بالطبع على أنه النمط "المثالي" للنمو، ومعنى ذلك أن ما يؤديه الناس على أنه السلوك المعتاد أو المتوسط، أو ما يؤدى بالفعل، "وهو جوهر المفهوم الأساسي للمعاير" يتحول في هذه الحالة ليصبح ما يجب أن يؤدى، ولعل هذا هو سبب ما يشيع بين الناس من الاعتقاد في وجود أوقات ومواعيد "ملائمة" لكل سلوك. وهكذا يصبح المعيار العملي البسيط تقليدًا اجتماعيًّا، ويقع الناس أسرى لما يسميه هيوز ونوب "Hughes & Noppe، ١٩٨٥" بالساعة الاجتماعية؛ بها يحكمون على كل نشاط من الأنشطة العظمى في حياتهم بأنه في "وقته تمامًا" أو أنه "مبكر" أو "متأخر" عنه، يصدق هذا على دخوله المدرسة أو إنهاء الدراسة أو الالتحاق بالعمل أو الزواج أو التقاعد، ما دام لكل ذلك معاييره، فحينما ينتهي الفرد من تعليمه الجامعيّ مثلًا في سن الثلاثين، فإنه يوصف "بالتأخير" حسب الساعة الاجتماعية، بينما إنجازه في سن السابعة عشرة يجعله "مبكرًا".
1 / 15
وتوجد بالطبع أسباب صحيحة لكثير من قيود العمر، فمن المنطقي مثلًا أن ينصح طبيب الولادة سيدة في منتصف العمر بعدم الحمل، كما أن من العبث أن نتوقع من طفل في العاشرة من عمره أن يقود السيارة، إلّا أن هناك الكثير من قيود العمر التي ليس لها معنى على الإطلاق فيما عدا أنها تمثل ما تعود الناس عليه، كأن تعتبر العشرينات أنسب عمر للزواج في المعيار الأمريكي "Neugarten et al، ١٩٦٥"، وهذه المجموعة الأخيرة من القيود هي التي نحذّر منها، حتى لا يقع النمو الإنساني في شرك "القولية" والجمود، بينما هو في جوهره مرن على أساس مسلمة الفروق الفردية التي تؤكد التنوع والاختلاف بين البشر.
٦- النمو عملية مستمرة: الخاصية السادسة والأكثر أهمية من خصائص النمو تتصل في جوهرها بمفهوم مدى الحياة Life-span، والذي يؤكده المنظور الإسلامي للنمو كما سنبين فيما بعد، ومعنى ذلك أن التغيرات السلوكية التي تعتمد في جوهرها على النضج والتعلم تحدث باستمرار في جميع مراحل العمر، ويمكن التدليل على ذلك من شواهد كثيرة من مختلف مراحل العمر، ابتداءً من مرحلة الجنين، وحتى الشيخوخة. وهكذا يصبح النمو تيارًا متصلًا لا نقاطًا متقطعة، ويمكن أن نشبه دراستنا لأجزاء منفصلة من مدى الحياة الإنسانية بدراسة أجزاء مقتطفة من فيلم أو رواية أو مسرحية، ولك أن تتصور مدى الصعوبة التي تنتابك في الفهم أو في تتبع شخصيات الرواية أو أحداثها، إذا لم تشاهد منها إلّا الفصل الثاني من بين فصولها الثلاثة. وبالمثل كيف يمكننا فهم نمو الفرد الإنساني إذا لاحظناه فقط في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو الشيخوخة؟ فكما أن الفصل الثاني في المسرحية يتطور من الفصل الأول، ويعتمد عليه، وفي نفس الوقت يؤلف الأساس الذي يبنى عليه الفصل الثالث، فإن مراهقة الإنسان تتطور من خبرات طفولته، وتعتمد عليها وتؤلف أساس خبرات الرشد التالية. ولأغراض الفهم العلمي تنقسم دورة الحياة في العادة إلى مراحل متعددة، وقد أطلق عليها ليفنسون "Levinson، ١٩٧٨" مصطلح "مواسم" الحياة، بل إن معظم كتب علم نفس النمو تركز على بعض المراحل دون سواها، ولعل المرحلتين الأكثر شيوعًا هما الطفولة والمراهقة، وهو الطابع الغالب على معظم ما صدر في هذ الميدان من كتب باللغة العربية إذا استثنينا كتاب الرائد الراحل فؤاد البهي السيد "الأسس النفسية للنمو من الطفولة إلى الشيخوخة" "فؤاد أبو حطب، ١٩٩٧"، بل إن معظم الكليات والمعاهد الجامعية تقدم مقررات حول نمو الطفل ونمو المراهق ونمو الراشد وهكذا.
٦- النمو عملية مستمرة: الخاصية السادسة والأكثر أهمية من خصائص النمو تتصل في جوهرها بمفهوم مدى الحياة Life-span، والذي يؤكده المنظور الإسلامي للنمو كما سنبين فيما بعد، ومعنى ذلك أن التغيرات السلوكية التي تعتمد في جوهرها على النضج والتعلم تحدث باستمرار في جميع مراحل العمر، ويمكن التدليل على ذلك من شواهد كثيرة من مختلف مراحل العمر، ابتداءً من مرحلة الجنين، وحتى الشيخوخة. وهكذا يصبح النمو تيارًا متصلًا لا نقاطًا متقطعة، ويمكن أن نشبه دراستنا لأجزاء منفصلة من مدى الحياة الإنسانية بدراسة أجزاء مقتطفة من فيلم أو رواية أو مسرحية، ولك أن تتصور مدى الصعوبة التي تنتابك في الفهم أو في تتبع شخصيات الرواية أو أحداثها، إذا لم تشاهد منها إلّا الفصل الثاني من بين فصولها الثلاثة. وبالمثل كيف يمكننا فهم نمو الفرد الإنساني إذا لاحظناه فقط في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو الشيخوخة؟ فكما أن الفصل الثاني في المسرحية يتطور من الفصل الأول، ويعتمد عليه، وفي نفس الوقت يؤلف الأساس الذي يبنى عليه الفصل الثالث، فإن مراهقة الإنسان تتطور من خبرات طفولته، وتعتمد عليها وتؤلف أساس خبرات الرشد التالية. ولأغراض الفهم العلمي تنقسم دورة الحياة في العادة إلى مراحل متعددة، وقد أطلق عليها ليفنسون "Levinson، ١٩٧٨" مصطلح "مواسم" الحياة، بل إن معظم كتب علم نفس النمو تركز على بعض المراحل دون سواها، ولعل المرحلتين الأكثر شيوعًا هما الطفولة والمراهقة، وهو الطابع الغالب على معظم ما صدر في هذ الميدان من كتب باللغة العربية إذا استثنينا كتاب الرائد الراحل فؤاد البهي السيد "الأسس النفسية للنمو من الطفولة إلى الشيخوخة" "فؤاد أبو حطب، ١٩٩٧"، بل إن معظم الكليات والمعاهد الجامعية تقدم مقررات حول نمو الطفل ونمو المراهق ونمو الراشد وهكذا.
1 / 16
وعلى الرغم من ملائمة مفهوم المرحلة النمائية للأغراض الأكاديمية إلّا أنه قد يؤدي إلى نوعين من سوء الفهم: أولهما: الشعور بأن مراحل الحياة منفصلة منعزلة، بينما هي ليست كذلك بحكم أنها جزء من تيار الحياة المتدفق، والواقع أن هذه المراحل يتطور بعضها من بعض بشكل مستمر، وثانيهما: الحصول على انطباع زائف عن أن مراحل الحياة ثابتة، بينما هي في الواقع تتضمن تغيرت وتحولات دائمة في داخلها، ومن ذلك مثلًا أن الفرد لا يبقى معطلًا في مرحلة المراهقة، حتى يصبح مستعدًا للقفز إلى الأمام في مرحلة الرشد المبكر. وما يحدث بالفعل أنه يوجد نمو دائم داخل المراهقة، كما هو الحال في جميع مراحل الحياة.
والرشد المبكر لا يتبع المراهقة فحسب، ولكنه يتطور تدريجيًّا منها، ومعظم ما نحن عليه في مرحلة معينة من مراحل حياتنا هو نتاج لما كنا عليه في المراحل السابقة.
ولعل هذا هو ما دفعنا إلى أن يتمركز كتابنا هذا حول مفهوم "النمو مدى الحياة" Life - Span Edvelopment، حتى يتجنب القارئ سوء الفم الذي ينشأ حتميًّا على التركيز المستمر على مراحل الحياة مع الفشل في إدراك الاستمرار والتواصل في أنماط النمو لدى الفرد، ونحن حين نركز على مفهوم "مدى الحياة" في دراسة النمو، فإننا بذلك ندمج الماضي في المستقبل على نحوٍ يقودنا إلى وعي "حاضر" باتصال الحياة، فالماضي والمستقبل هما المحوران الرئيسيان للزمن السيكولوجي "فؤاد أبو حطب، آمال صادق، ١٩٨٥".
ولعل مفهوم "مدى الحياة" الذي شاع كثيرًا في دراسات سيكولوجية النمو ابتداء من الربع الأخير من القرن العشرين "على الرغم من جذوره الأصيلة في الثقافة العربية الإسلامية كما سنتبين فيما بعد" هو الذي دفع مارجريت ميد "mead، ١٩٧٢" إلى المطالبة بتوظيف هذا المفهوم في فهم طبيعة العلاقة بين الأجيال "وخاصة جيل الأحفاد وجيل الأجداد"، فكل منهما يتعلم من الآخر معنى اتصال الحياة؛ فالجد يقدِّمُ لحفيده آصرة الماضي، والحفيد يقدم لجده الإحساس بالمستقبل، ومن خلال تفاعلهما يتشكل الماضي والمستقبل في بوتقة الحاضر.
ومفهوم مدى الحياة يقودنا إلى مسألة هامة أخرى، وهي أن النمو لا يعني التحسن المستمر في مختلف مراحل العمر، وقد اقترح أحد مؤلفي هذا الكتاب "فؤاد أبو حطب، ١٩٨٣، ١٩٨٥" نسقًا ارتقائيًّا تطوريًّا لدورة الحياة، وجوهر هذا النسق أن مسار الحياة Life -Path، أو مدى الحياة يتضمن متوالية معقدة حتى الأحداث والظواهر التي يشهدها الإنسان من لحظة الإخصاب في رحم الأم حتى
1 / 17
لحظة الاستلقاء على فراش الموت، إلّا أن هذه المتوالية لا تتضمن تصورًا خطيًّا لحدوثها، وإنما هي في معناها الحقيقي دورة، أو إذا شئت الدقة: منحنى يصوره الإعجاز الإلهي في قول القرآن الكريم:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: ٥٤] .
منحنى يمثل قوة بين ضعفين، ووسطًا بين طرفين، ويعد الصبا young-hood بكل ما فيه من نمو في الطفولة والمراهقة طرف الضعف الأول، أما الشيخوخة ageing بكل ما فيها من تدهور، فهي طرف الضف الثاني، وبينهما قوة الرشد Adulthood، وهذ التصور القرآني للنمو مدى الحياة هو الموجه العام لبناء هذا الكتاب.
1 / 18