Hulal Sundusiyya
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
Noocyada
وبقيت الأمة العربية تنوح على هذا الفردوس المفقود الذي هبط منه أهله بأعمالهم، نحوا من أربعمائة عام، نواح الثاكل لولده لا يريد أن ينسى مصابه، ولا يفتأ يذكر فصاله؛ ولما كنت من جملة هذه الأمة الباكية على الفردوس الضائع، أولعت من أوائل صباي بقراءة تاريخ الأندلس، والتنقيب عن كل ما يتعلق بالعرب في تلك الجزيرة، حتى إنني لما اطلعت على رواية «آخر بني سراج» للكاتب الأفرنسي الكبير «رينه شاتو بريان» بادرت بنقلها إلى العربية وذيلتها بتاريخ للأندلس نشرته من أربعين سنة؛ ثم نفدت نسخه بأجمعها، فأعدت طبعه منذ إحدى عشرة سنة، وقد قلت في خاتمة كتابي ذلك ما يناسب أن أعيده هنا، رعيا لكون الغرض الذي حداني يومئذ إلى نشر ذلك الملخص، هو نفس الغرض الذي يحدوني اليوم إلى نشر هذا المطول؛ فالروح التي أملت ذلك هي التي قد أملت هذا، وكلامي الأول هو كلامي الآخر، ولو كرت الأيام وتعددت الأعوام، قلت: «ولا أكتم القارئ الذي هو خليق بأن لا يخفى عليه ذلك بشفوف بصره ولطف حسه، أن الأمر غير خال في هذا الإملاء، من نزعة جنسية، وحنوة عصبية، وهفوة للفؤاد وراء آثار بني الجلدة، مما تستشعر فيه مرضاة هذه النفس، العظيمة السر، البعيدة مهوى الغرض، الغريبة شكل الهم، وتوفر به اللذة والراحة لهذا الوجدان الداخلي، السائح في إثر ما يتعلق بالنفس من جميع جهاتها، على ترجيح الأقرب فالأقرب؛ وقد طبع الخالق الحكيم هذا المرء على حب جنسه، والميل للاتصال بأبناء أبيه، فكأنما يتمثل بذلك صورة نفسه التي هي جزء من هذا المجموع، لما يحس من أن أقرب أنواع الدم إلى دمه، هو الجاري في عروق قومه؛ فهو يحن إليهم ويحنو عليهم، ويتألم لألمهم، ويعتز بعزهم؛ وتراه إذا غابت أشخاصهم استأنس بآثارهم بعد الأعيان، وارتاح إلى مواطنهم ورغب في الدوس على مواطئ أقدامهم ولو بعد أزمان وقد عهدنا الذي يصاب بعزيز أو بذي قرابة يختلف إلى قبره، ويشفي بالبكاء عنده حرارة صدره؛ وإذا ظفر بقطعة من ملبوسه، أو مفروشه أو برقعة من خطه، احتفظ بها، وغالى في قيمتها، وجعلها مدار أنسه، في خلوات نفسه، وروح حياته في منتبذ مناجاته. وبناء على هذا الشعور أولع الخلق بحفظ آثار الغابرين، وتطلعوا بغريزة فيهم إلى معرفة سير السالفين، ووقفوا على الأطلال الدوارس، وبكوا على الدمن البوالي، كأنما يجددون عندها عهودهم مع آبائهم، ويشدون لديها معهم عروة وفائهم».
إلى أن أقول: «فيا ليتنا نتبع الآن سنن من قبلنا، ونقتدي بسلفنا، ونبني بناء أوائلنا، ونعتبر بحمراء غرناطتنا، وخضراء دمننا، ونتأمل في سالف عزها، وسابق أمرها، ونتجنب الفرقة التي آلت إلى فقدها، ونسأل رسومها عما مضى من نعيمها فهي رسوم إن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا؛ فلا يكونن دائما من شأننا أن نتباهى بمجد الأوائل ونفاخر بعظم الرميم، دون أن نقتص أثر الآباء ونحيي ذكر القديم، ولا يبقى من نصيبنا في المجد إلا حديث سمر، ومجرد ذكر. وما أحسن ما قال شوقي شاعر العصر:
وذات دلال من بني الروم حولها
إذا ما تبدت إخوة سبعة مرد
عنيت بها حتى التقينا فهزها
فتى عربي ملء بردته مجد
فقالت: أطيب بعد عسر وشدة؟
فقلت نعم مسك الأحاديث والند
عطلنا من النعمى وطوق غيرنا
تداولت الأيام وانتقل العقد
Bog aan la aqoon