الْقسم الأول
فِي الْقَوَاعِد الْكُلية الَّتِي تستنبط مِنْهَا الْمصَالح المرعية
فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَهِي سَبْعَة مبَاحث فِي سبعين بَابا
1 / 39
المبحث الأول
فِي أَسبَاب التَّكْلِيف والمجازاة
(بَاب الإبداع والخلق وَالتَّدْبِير)
اعْلَم أَن الله تَعَالَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيجَاد الْعَالم ثَلَاث صِفَات مترتبة:
أَحدهَا: الإبداع وَهُوَ إِيجَاد شَيْء لَا من شَيْء فَيخرج الشَّيْء من كتم الْعَدَم بِغَيْر مَادَّة: وَسُئِلَ رَسُول الله ﷺ عَن أول هَذَا الْأَمر؟ فَقَالَ: كَانَ الله وَلم يكن شَيْء قبله.
وَالثَّانيَِة: الْخلق وَهُوَ إِيجَاد الشَّيْء من شَيْء كَمَا خلق آدم من التُّرَاب:
﴿وَخلق الجان من مارج من نَار﴾ .
وَقد دلّ الْعقل وَالنَّقْل على أَن الله تَعَالَى خلق الْعَالم أنواعا وأجناسا وَجعل لكل نوع وجنس خَواص، فنوع الْإِنْسَان مثلا خاصته النُّطْق، وَظُهُور الْبشرَة واستواء الْقَامَة، وَفهم الْخطاب، وَنَوع الْفرس خاصته الصهيل، وَكَون بَشرته شعراء، وقامته عوجاء، وَألا يفهم الْخطاب،
وخاصة السم إهلاك الْإِنْسَان الَّذِي يتَنَاوَلهُ، وخاصة الزنجبيل الْحَرَارَة واليبوسة، وخاصة الكافور الْبُرُودَة، وعَلى هَذَا الْقيَاس جَمِيع الْأَنْوَاع من الْمَعْدن والنبات وَالْحَيَوَان.
وَجَرت عَادَة الله تَعَالَى أَلا تنفك الْخَواص عَمَّا جعلت خَواص لَهَا، وَأَن تكون مشخصات الْأَفْرَاد خُصُوصا فِي تِلْكَ الْخَواص، وتعينا لبَعض محتملاتها، فَكَذَلِك مميزات الْأَنْوَاع خُصُوصا فِي خَواص أجناسها، وَأَن تكون مَعَاني هَذِه الْأَسَامِي المترتبة فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص، كالجسم والنامي وَالْحَيَوَان وَالْإِنْسَان وَهَذَا الشَّخْص متمازجة متشابكة فِي الظَّاهِر، ثمَّ يدْرك الْعقل الْفرق بَينهَا، ويضيف كل خَاصَّة إِلَى مَا هِيَ خَاصَّة لَهُ،
1 / 41
وَقد بَين النَّبِي ﷺ خَواص كثير من الْأَشْيَاء، وأضاف الْآثَار إِلَيْهَا كَقَوْلِه ﷺ:
" التلبينة مجمة لفؤاد الْمَرِيض ". وَقَوله فِي الْحبَّة السَّوْدَاء:
" شِفَاء من كل دَاء إِلَى السام " وَقَوله فِي أَبْوَال الْإِبِل وَأَلْبَانهَا:
" شِفَاء للذربة بطونهم " وَقَوله فِي الشبرم:
" حَار جَار ".
وَالثَّالِثَة تَدْبِير عَالم المواليد ومرجعه إِلَى تصيير حوادثها مُوَافقَة للنظام الَّذِي ترتضيه حكمته مفضية إِلَى الْمصلحَة الَّتِي اقتضاها وجوده كَمَا أنزل من السَّحَاب مَطَرا، وَأخرج بِهِ نَبَات الأَرْض ليَأْكُل مِنْهُ النَّاس والأنعام، فَيكون سَببا لحياتهم إِلَى أجل مَعْلُوم. وكما أَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ ألقِي فِي النَّار
فَجَعلهَا الله بردا وَسلَامًا؛ ليبقى حَيا، وكما أَن أَيُّوب ﵇ كَانَ اجْتمع فِي بدنه مَادَّة الْمَرَض، فَأَنْشَأَ الله تَعَالَى عينا فِيهَا شِفَاء مَرضه. وكما أَن الله تَعَالَى نظر إِلَى أهل الأَرْض فمقتهم عربهم وعجمهم، فَأوحى إِلَى نبيه ﷺ أَن ينذرهم ويجاهدم؛ ليخرج من شَاءَ من الظُّلُمَات إِلَى النُّور.
وتفصيل ذَلِك أَن القوى المودعة فِي المواليد الَّتِي لَا تنفك عَنْهَا لما تزاحمت وتصادمت أوجبت حِكْمَة الله حُدُوث أطوار مُخْتَلفَة بَعْضهَا جَوَاهِر وَبَعضهَا أَعْرَاض والأعراض إِمَّا أَفعَال أَو إرادات من ذَوَات الْأَنْفس أَو غَيرهَا، وَتلك الأطوار لَا شَرّ فِيهَا بِمَعْنى عدم صُدُور مَا يَقْتَضِيهِ سَببه أَو صُدُور ضد مَا يَقْتَضِيهِ، وَالشَّيْء الَّذِي اعْتبر بِسَبَبِهِ الْمُقْتَضى لوُجُوده كَانَ حسنا لَا محَالة كالقطع حسن من حَيْثُ أَنه يَقْتَضِيهِ جَوْهَر الْحَدِيد وَإِن كَانَ قبيحا من حَيْثُ فَوت بنية إِنْسَان، لَكِن فِيهَا شَرّ بِمَعْنى حُدُوث شَيْء غَيره أوفق بِالْمَصْلَحَةِ مِنْهُ بِاعْتِبَار الْآثَار أَو عدم حُدُوث شَيْء آثاره محمودة، وَإِذا تهيأت أَسبَاب هَذَا الشَّرّ اقْتَضَت رَحْمَة الله بعباده ولطفه بهم وَعُمُوم قدرته على الْكل وشمول علمه بِالْكُلِّ أَن يتَصَرَّف فِي تِلْكَ القوى والأمور الحاملة لَهَا بِالْقَبْضِ والبسط والإحالة والإلهام، حَتَّى تفضى تِلْكَ الْجُمْلَة إِلَى الْأَمر الْمَطْلُوب
1 / 42
أما الْقَبْض فمثاله مَا ورد فِي الحَدِيث أَن الدَّجَّال يُرِيد أَن يقتل العَبْد الْمُؤمن فِي الْمرة الثَّانِيَة، فَلَا يقدر الله عَلَيْهِ مَعَ صِحَة دَاعِيَة الْقَتْل وسلامة أدواته وَأما الْبسط فمثاله أَن الله تَعَالَى أنبع عينا لأيوب صلوَات الله عَلَيْهِ بركضه الأَرْض وَلَيْسَ بِالْعَادَةِ أَن تقضي الركضة إِلَى نبوع المَاء، وأقدر بعض المخلصين من عباده فِي الْجِهَاد على مَا لَا يتصوره الْعقل من مثل تِلْكَ الْأَبدَان وَلَا من أضعافها، وَأما الأحالة ممثالها جعل النَّار هَوَاء طيبَة لإِبْرَاهِيم ﵇، وَأما الإلهام فمثاله قصَّة خرق السَّفِينَة وَإِقَامَة الْجِدَار وَقتل الْغُلَام وإنزال الْكتب والشرائع على الْأَنْبِيَاء ﵈. . والإلهام تَارَة يكون
للمبتلى وَتارَة يكون لغيره لاجله وَالْقُرْآن الْعَظِيم بَين أَنْوَاع التَّدْبِير بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ.
(بَاب ذكر عَالم الْمِثَال)
اعْلَم أَنه دلّت أَحَادِيث كَثِيرَة على أَن فِي الْوُجُود عَالما غير عنصري تتمثل فِيهِ الْمعَانِي بأجسام مُنَاسبَة لَهَا فِي الصّفة، وتتحقق هُنَالك الْأَشْيَاء قبل وجودهَا فِي الأَرْض نَحوا من التحقق، فَإِذا وجدت كَانَت هِيَ هِيَ بِمَعْنى من مَعَاني هُوَ هُوَ، وَإِن كثير من الْأَشْيَاء مِمَّا لَا جسم لَهَا عِنْد الْعَامَّة تنْتَقل وتنزل، وَلَا يَرَاهَا جَمِيع النَّاس، قَالَ النَّبِي ﷺ: " لما خلق الله الرَّحِم قَامَت فَقَالَت هَذَا مَكَان العائذ بك من القطيعة "، وَقَالَ: " أَن الْبَقَرَة وَآل عمرَان تأتيان يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُمَا غمامتان أَو غيايتان أَو فرقان من طير صواف تحاجان عَن أهلهما "، وَقَالَ: " تَجِيء الْأَعْمَال يَوْم الْقِيَامَة فتجيء الصَّلَاة ثمَّ تَجِيء الصَّدَقَة، ثمَّ يَجِيء الصّيام " الحَدِيث، وَقَالَ: " أَن الْمَعْرُوف وَالْمُنكر لخليقتان تنصبان للنَّاس يَوْم الْقِيَامَة، فَأَما الْمَعْرُوف فيبشر أَهله، وَأما الْمُنكر فَيَقُول: إِلَيْكُم إِلَيْكُم، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ إِلَّا لُزُوما " وَقَالَ: " أَن الله تَعَالَى يبْعَث الْأَيَّام يَوْم الْقِيَامَة كهيئتها، وَيبْعَث الْجُمُعَة زهراء منيرة ".
وَقَالَ: " يُؤْتى بالدنيا يَوْم الْقِيَامَة بِصُورَة عَجُوز شَمْطَاء زرقاء أنيابها، مُشَوه خلقهَا " وَقَالَ: " هَل ترَوْنَ مَا أرى؟ فَإِنِّي لأرى مواقع الْفِتَن خلال بُيُوتكُمْ
1 / 43
كمواقع الْقطر " وَقَالَ فِي حَدِيث الْإِسْرَاء: " فَإِذا أَرْبَعَة أَنهَار نهران باطنان ونهران ظاهران، فَقلت، مَا هَذَا يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: أما الباطنان فَفِي الْجنَّة، وَأما الظاهران فالنيل والفرات " وَقَالَ فِي حَدِيث صَلَاة الْكُسُوف: " صورت لي الْجنَّة وَالنَّار " وَفِي لفظ " بيني وَبَين جِدَار الْقبْلَة " وَفِيه أَنه بسط
يَده ليتناول عنقودًا من الْجنَّة، وَأَنه تكعكع من النَّار، وَنفخ فِي حرهَا وَرَأى فِيهَا سَارِق الحجيج، وَالْمَرْأَة الَّتِي ربطة الْهِرَّة حَتَّى مَاتَت، وَرَأى فِي الْجنَّة امْرَأَة مومسة سقت الْكَلْب، وَمَعْلُوم أَن تِلْكَ الْمسَافَة لَا تتسع للجنة وَالنَّار بأجسادهما الْمَعْلُومَة عِنْد الْعَامَّة. وَقَالَ: " حفت الْجنَّة بالمكاره وحفت النَّار بالشهوات " ثمَّ أَمر جِبْرِيل أَن ينظر إِلَيْهِمَا وَقَالَ: " ينزل ينزل الْبلَاء فيعالجه الدُّعَاء ". وَقَالَ: " خلق الله الْعقل فَقَالَ لَهُ: أقبل فَأقبل وَقَالَ لَهُ أدبر فَأَدْبَرَ ". وَقَالَ: " هَذَانِ كِتَابَانِ من رب الْعَالمين " الحَدِيث، وَقَالَ: " يُؤْتى بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْش، فَيذْبَح بَين الْجنَّة وَالنَّار "، وَقَالَ تَعَالَى:
﴿فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سويا﴾ .
واستفاض فِي الحَدِيث أَن جِبْرِيل كَانَ يظْهر للنَّبِي ﷺ ويتراءى لَهُ فيكلمه، وَلَا يرَاهُ سَائِر النَّاس، وَأَن الْقَبْر يفسح سبعين ذِرَاعا فِي سبعين أَو يضم حَتَّى تخْتَلف أضلاع المقبور وَأَن الْمَلَائِكَة تنزل على المقبور، فتسأله وَأَن عمله يتَمَثَّل لَهُ، وَأَن الْمَلَائِكَة تنزل إِلَى المحتضر بِأَيْدِيهِم الْحَرِير أَو الْمسْح وَأَن الْمَلَائِكَة تضرب المقبور بِمِطْرَقَةٍ من حَدِيد، فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، وَقَالَ النَّبِي ﷺ: " ليسلط على الْكَافِر فِي قَبره تِسْعَة وَتسْعُونَ تنينا تنهسه، وتلدغه حَتَّى تقوم السَّاعَة، وَقَالَ: " وَإِذا أَدخل الْمَيِّت الْقَبْر مثلت لَهُ الشَّمْس عِنْد غُرُوبهَا، فيجلس يمسح عَيْنَيْهِ، وَيَقُول: " دَعونِي أُصَلِّي " واستفاض فِي الحَدِيث: أَن الله تَعَالَى يتجلى بصور كَثِيرَة لأهل الْموقف، وَأَن النَّبِي ﷺ يدْخل على ربه وَهُوَ على كرسيه وَأَن الله تَعَالَى يكلم ابْن آدم شفاها إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى كَثْرَة.
والناظر فِي هَذِه الْأَحَادِيث بَين إِحْدَى ثَلَاثَة: إِمَّا أَن يقر بظاهرها فيضطر إِلَى إِثْبَات عَالم ذكرنَا شَأْنه وَهَذِه هِيَ الَّتِي تقتضيها قَاعِدَة أهل الحَدِيث نبه على ذَلِك السُّيُوطِيّ رَحمَه الله تَعَالَى، وَبهَا أَقُول، وإليها أذهب،
1 / 44
أَو يَقُول: أَن هَذِه الوقائع تتراءى لحس الرَّائِي، وتتمثل لَهُ فِي بَصَره، وَإِن لم تكن خَارج حسه، وَقَالَ بنظير ذَلِك عبد الله بن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى:
﴿يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين﴾ .
أَنهم أَصَابَهُم جَدب فَكَانَ أحدهم ينظر إِلَى السَّمَاء، فَيرى كَهَيئَةِ الدُّخان من الْجُوع، وَيذكر عَن ابْن الْمَاجشون أَن كل حَدِيث جَاءَ فِي التنقل والرؤية فِي الْمَحْشَر، فَمَعْنَاه أَنه يُغير أبصار خلقه، فيرونه نازلا متجليا ويناجي خلقه، ويخاطبهم وَهُوَ غير متغير عَن عَظمته وَلَا منتقل ليعلموا أَن الله على كل شَيْء قدير، أَو يَجْعَلهَا تمثيلا لتفهم معَان أُخْرَى، وَلست أرى المقتصر على الثَّالِثَة من أهل الْحق، وَقد صور الإِمَام الْغَزالِيّ فِي عَذَاب الْقَبْر تِلْكَ المقامات الثَّلَاث حِين قَالَ: أَمْثَال هَذِه الْأَخْبَار لَهَا ظواهر صَحِيحَة وأسرار خُفْيَة، وَلكنهَا عِنْد أَرْبَاب البصائر وَاضِحَة، فَمن لم ينْكَشف لَهُ حقائقها، فَلَا يَنْبَغِي أَن يُنكر ظواهرها، بل أقل دَرَجَات الْإِيمَان التَّسْلِيم والتصديق (فَإِن قلت) فَنحْن نشاهد الْكَافِر فِي قَبره مُدَّة، ونراقبه، وَلَا نشاهد شَيْئا من ذَلِك، فَمَا وَجه التَّصْدِيق على خلاف الْمُشَاهدَة
(فَاعْلَم) أَن لَك ثَلَاث مقامات فِي التَّصْدِيق بأمثال هَذَا:
أَحدهَا وَهُوَ الْأَظْهر والأصلح والأسلم: أَن تصدق بِأَنَّهَا مَوْجُودَة، وَهِي تلدغ الْمَيِّت، وَلَكِنَّك لَا تشاهد ذَلِك فَإِن هَذِه الْعين لَا تصلح لمشاهدة الْأُمُور الملكوتية، وكل مَا يتَعَلَّق فِي بِالآخِرَة فَهُوَ فِي علم الملكوت. . أما ترى الصَّحَابَة ﵃ كَيفَ كَانُوا يُؤمنُونَ بنزول جِبْرِيل ﵇،
وَمَا كَانُوا يشاهدونه، ويؤمنون بِأَنَّهُ ﵇ يُشَاهِدهُ، فَإِن كنت لَا تؤمن بِهَذَا فتصحيح أصل الْإِيمَان بِالْمَلَائِكَةِ وَالْوَحي أهم عَلَيْك وَإِن كنت آمَنت بِهِ، وجوزت أَن يُشَاهد النَّبِي ﷺ مَا لَا تشاهده الْأمة، فَكيف لَا تجوز هَذَا فِي الْمَيِّت، وكما أَن الْملك لَا يشبه الْآدَمِيّين والحيوانات، فالحياة والعقارب الَّتِي تلدغ فِي الْقَبْر لَيست من جنس حيات عالمنا، بل هِيَ جنس آخر، وتدرك بحاسة أُخْرَى.
الْمقَام الثَّانِي: أَن تتذكر أَمر النَّائِم، وَأَنه قد يرى فِي نَومه حَيَّة تلدغه، وَهُوَ يتألم بذلك حَتَّى ترَاهُ رُبمَا يَصِيح ويعرق جَبينه، وَقد ينزعج من مَكَانَهُ كل ذَلِك يُدْرِكهُ من نَفسه
1 / 45
ويتأذى بِهِ كَمَا يتَأَذَّى الْيَقظَان وَهُوَ يُشَاهِدهُ، وَأَنت ترى ظَاهره سَاكِنا وَلَا ترى حواليه حَيَّة وَلَا عقربا، والحية مَوْجُودَة فِي حَقه وَالْعَذَاب حَاصِل وَلكنه فِي حَقك غير مشَاهد، وَإِذا كَانَ الْعَذَاب فِي ألم اللدغ فَلَا فرق بَين حَيَّة تتخلل أَو تشاهد.
الْمقَام الثَّالِث: إِنَّك تعلم أَن الْحَيَّة بِنَفسِهَا لَا تؤلم بل الَّذِي يلقاك مِنْهَا هُوَ ألم السم، ثمَّ السم لَيْسَ هُوَ الْأَلَم، بل عذابك فِي الْأَثر الَّذِي يحصل فِيك من السم، فَلَو حصل مثل ذَلِك الْأَثر من غير سم لَكَانَ الْعَذَاب قد توفر وَكَانَ لَا يُمكن تَعْرِيف ذَلِك النَّوْع من الْعَذَاب إِلَّا بِأَن يُضَاف إِلَى السَّبَب الَّذِي يفضى إِلَيْهِ فِي الْعَادة، فَإِنَّهُ لَو خلق فِي الْإِنْسَان لَذَّة الوقاع مثلا من غير مُبَاشرَة صُورَة الوقاع لم يُمكن تَعْرِيفهَا إِلَّا بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ لتَكون الْإِضَافَة للتعريف بِالسَّبَبِ وَتَكون ثَمَرَة السَّبَب حَاصِلَة وَإِن لم تحصل صُورَة السَّبَب، وَالسَّبَب يُرَاد لثمرته لَا لذاته، وَهَذِه الصِّفَات المهلكات تنْقَلب مهلكات مؤذيات ومؤلمات فِي النَّفس عِنْد الْمَوْت فَيكون آلامها كآلام لدغ الْحَيَّات من غير وجودهَا. انْتهى
(بَاب ذكر الْمَلأ الْأَعْلَى)
قَالَ الله تَعَالَى:
﴿الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله يسبحون بِحَمْد رَبهم ويؤمنون بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما فَاغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك وقهم عَذَاب الْجَحِيم رَبنَا وأدخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم وَمن صلح من آبَائِهِم وأزواجهم وذرياتهم إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم وقهم السَّيِّئَات وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فقد رَحمته وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم﴾ .
وَقَالَ رَسُول ﷺ:
" إِذا قضى الله تَعَالَى الْأَمر فِي السَّمَاء ضربت الْمَلَائِكَة بأجنحتها خضعانا لقَوْله، كَأَنَّهُ صلصة على صَفْوَان فَإِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا: مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالُوا: الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير " وَفِي رِوَايَة " إِذا قضى أمرا سبح حَملَة الْعَرْش، ثمَّ يسبح أهل السَّمَاء الَّذين يَلُونَهُمْ، حَتَّى يبلغ التَّسْبِيح أهل هَذِه السَّمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ قَالَ: الَّذين يلون حَملَة الْعَرْش،
1 / 46
لحملة الْعَرْش مَاذَا قَالَ ربكُم؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ، فيستخبر بعض أهل السَّمَوَات بَعْضًا حَتَّى يبلغ الْخَبَر أهل هَذِه السَّمَاء " وَقَالَ رَسُول ﷺ:
" إِنِّي قُمْت من اللَّيْل، فَتَوَضَّأت، وَصليت مَا قدر لي، فنعست فِي صَلَاتي حَتَّى
استثقلت، فَإِذا أَنا بربي ﵎ فِي أحسن صُورَة فَقَالَ: يَا مُحَمَّد قلت: لبيْك رب قَالَ فِيمَا يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟ قلت: لَا أَدْرِي قَالَهَا ثَلَاثًا. قَالَ: فرأيته وضع كَفه بَين كَتِفي حَتَّى وجدت برد أنامله من ثديي، فتجلى لي كل شَيْء وَعرفت. فَقَالَ: يَا مُحَمَّد قلت: لبيْك رب. قَالَ: فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟ قلت: فِي الْكَفَّارَات. قَالَ: وَمَا هن؟ قلت: مشي الْأَقْدَام إِلَى الْجَمَاعَات وَالْجُلُوس فِي الْمَسَاجِد بعد الصَّلَوَات، وإسباغ الْوضُوء حِين الكريهات. قَالَ: ثمَّ فيمَ؟ قَالَ: قلت: فِي الدَّرَجَات؟ قَالَ: وَمَا هن؟ قلت: إطْعَام الطَّعَام ولين الْكَلَام، وَالصَّلَاة بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام " وَقَالَ رَسُول ﷺ: " أَن الله إِذا أحب عبدا دَعَا جِبْرَائِيل فَقَالَ: إِنِّي أحب فلَانا فَأَحبهُ. قَالَ: فَيُحِبهُ جِبْرَائِيل. ثمَّ يُنَادي فِي السَّمَاء فَيَقُول: أَن الله يحب فلَانا فَأَحبُّوهُ، فَيُحِبهُ أهل السَّمَاء، ثمَّ يوضع لَهُ الْقبُول فِي الأَرْض. وَإِذا أبْغض عبدا دَعَا جِبْرَائِيل فَيَقُول إِنِّي أبْغض فلَان فَأَبْغضهُ قَالَ: فَيبْغضهُ جِبْرَائِيل ثمَّ يُنَادي فِي أهل السَّمَاء أَن الله يبغض فلَانا فَأَبْغضُوهُ قَالَ فَيبْغضُونَهُ ثمَّ يوضع لَهُ الْبغضَاء فِي الأَرْض " وَقَالَ رَسُول ﷺ:
" الْمَلَائِكَة يصلونَ على أحدكُم مَا دَامَ فِي مَجْلِسه الَّذِي صلى فِيهِ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارحمه اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ مَا لم يؤذ فِيهِ، مَا لم يحدث فِيهِ " وَقَالَ رَسُول الله ﷺ. " مَا من يَوْم يصبح الْعباد فِيهِ إِلَّا وملكان ينزلان فَيَقُول أَحدهمَا: اللَّهُمَّ أعْط منفقا خلفا وَيَقُول: الآخر اللَّهُمَّ أعْط ممسكا تلفا ".
اعْلَم أَنه قد استفاض من الشَّرْع: أَن لله تَعَالَى عبادا هم أفاضل الْمَلَائِكَة ومقربو الحضرة لَا يزالون يدعونَ لمن أصلح نَفسه، وهذبها، وسعى فِي إصْلَاح النَّاس فَيكون دعاؤهم ذَلِك سَبَب نزُول البركات عَلَيْهِم، ويلعنون من عصى
الله، وسعى فِي الْفساد، فَيكون لعنهم سَببا لوُجُود حسرة وندامة فِي نفس الْعَامِل، وإلهامات فِي صُدُور الْمَلأ السافل أَن يبغضوا هَذَا الْمُسِيء، ويسيئوا إِلَيْهِ، أما فِي الدُّنْيَا، أَو حِين يتخفف عَنهُ جِلْبَاب بدنه بِالْمَوْتِ الطبيعي، وَأَنَّهُمْ يكونُونَ سفراء بَين الله وَبَين عباده، وَأَنَّهُمْ يُلْهمُون فِي قُلُوب بني آدم خيرا أَي يكونُونَ أسبابا لحدوث خواطر الْخَيْر فيهم بِوَجْه من وُجُوه السَّبَبِيَّة، وَأَن لَهُم اجتماعات
1 / 47
كَيفَ شَاءَ الله وَحَيْثُ شَاءَ الله يعبر عَنْهُم بِاعْتِبَار ذَلِك بالرفيق الْأَعْلَى، والندى الْأَعْلَى وَالْمَلَأ الْأَعْلَى وَأَن الْأَرْوَاح أفاضل الْآدَمِيّين دُخُولا فيهم ولحوقا بهم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:
﴿يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي﴾ .
وَقَالَ رَسُول الله ﷺ:
" رَأَيْت جَعْفَر بن أبي طَالب ملكا يطير فِي الْجنَّة مَعَ الْمَلَائِكَة بجناحين "
وَأَن هُنَالك ينزل الْقَضَاء، وَيتَعَيَّن الْأَمر الْمشَار إِلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى:
﴿فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم﴾ .
وَأَن هُنَالك يَتَقَرَّر الشَّرَائِع بِوَجْه من الْوُجُوه.
وَاعْلَم أَن الْمَلأ الْأَعْلَى ثَلَاثَة أَقسَام: قسم علم الْحق أَن نظام الْخَيْر يتَوَقَّف عَلَيْهِم، فخلق أجساما نورية بِمَنْزِلَة نَار مُوسَى، فَنفخ فِيهَا نفوس كَرِيمَة.
وَقسم اتّفق حُدُوث مزاج فِي البخارات اللطيفة من العناصر اسْتوْجبَ فيضان نفوس شاهقة شَدِيدَة الرَّفْض للألواث البهيمية.
وَقسم هم نفوس إنسانية قريبَة المأخذ من الْمَلأ الْأَعْلَى مَا زَالَت تعْمل
أعمالا منجية تفِيد اللحوق بهم حَتَّى طرحت عَنْهُم جلابيب أبدانها، فانسلكت فِي سلكهم وعدت مِنْهُم، وَالْمَلَأ الْأَعْلَى شَأْنهَا أَنَّهَا تتَوَجَّه إِلَى بارئها توجها ممعنا لَا يصدها عَن ذَلِك الْتِفَات إِلَى شَيْء وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿يسبحون بِحَمْد رَبهم ويؤمنون بِهِ﴾ .
وتتلقى من رَبهَا اسْتِحْسَان النظام الصَّالح واستهجان خِلَافه، فيقرع ذَلِك بَاب من أَبْوَاب الْجُود الإلهي وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا﴾ .
وأفضالهم تَجْتَمِع أنوارهم، وتتداخل فِيمَا بَينهَا عِنْد الرّوح الَّذِي وَصفه النَّبِي ﷺ بِكَثْرَة الْوُجُوه والألسنة، فَتَصِير هُنَالك كشيء وَاحِد وَتسَمى حَظِيرَة الْقُدس، وَرُبمَا حصل فِي حَظِيرَة الْقُدس إِجْمَاع على إِقَامَة حِيلَة لنجاة بني آدم من الدَّوَاهِي المعاشية والمعادية بتكميل أزكى خلق الله يَوْمئِذٍ وتمشية أمره فِي النَّاس، فَيُوجب ذَلِك إلهامات فِي قُلُوب المستعدين من النَّاس أَن يتبعوه، ويكونوا أمة أخرجت للنَّاس، وَيُوجب تمثل عُلُوم فِيهَا صَلَاح الْقَوْم وهداهم فِي قلبه وَحيا ورؤيا وهتفا، وَأَن تتراءى لَهُ فتكلمه شفاها، وَيُوجب نصر
1 / 48
أحبائه وتقريبهم من كل خير وَلعن من صد عَن سَبِيل الله وتقريبهم من كل ألم، وَهَذَا أصل من أصُول النُّبُوَّة، وَيُسمى إِجْمَاعهم المستمر بتأييد روح الْقُدس، ويثمر هُنَالك بَرَكَات لم تعهد فِي الْعَادة فتسمى بالمعجزات.
وَدون هَؤُلَاءِ نفوس اسْتوْجبَ فيضانها حُدُوث مزاج معتدل فِي بخارات لَطِيفَة لم تبلغ بهم السَّعَادَة مبلغ الْأَوَّلين، فَصَارَ كَمَا لَهُم أَن تكون
فارغة لانتظار مَا يترشح من فَوْقهَا، فَإِذا ترشح شَيْء بِحَسب استعداد الْقَابِل وتأثير الْفَاعِل انبعثوا إِلَى تِلْكَ الْأُمُور كَمَا تنبعث الطُّيُور والبهائم بالدواعي الطبيعية، وهم فِي ذَلِك فانون عَمَّا يرجع إِلَى أنفسهم، باقون بِمَا ألهموا من فَوْقهم فيؤثرون فِي قُلُوب الْبشر والبهائم، فتنقلب إرادتها وَأَحَادِيث نفوسها إِلَى مَا يُنَاسب الْأَمر المُرَاد، ويؤثرون فِي بعض الْأَشْيَاء الطبيعية فِي تضاعيف حركاتها وتحولاتها، كَمَا يدحرج حجر، فأثر فِيهِ ملك كريم عِنْد ذَلِك، فَمشى فِي الأَرْض أَكثر مِمَّا يتَصَوَّر فِي الْعَادة، وَرُبمَا ألْقى الصياد شبكة فِي النَّهر، فَجَاءَت أَفْوَاج من الْمَلَائِكَة تلهم فِي قلب هَذِه السَّمَكَة أَن تقتحم، وَهَذِه أَن تهرب وتقبض حبلا، وتبسط أُخْرَى، وَهِي لَا تعلم لما تفعل ذَلِك، وَلَكِن تتبع مَا ألهمت وَرُبمَا تقاتلت فئتان، فَجَاءَت الْمَلَائِكَة تزين فِي قُلُوب هَذِه الشجَاعَة والثبات بِأَحَادِيث وخيالات يقتضيها الْمقَام، وتلهم حيل الْغَلَبَة، وتؤيد فِي الرمى وأشباهه، وَفِي قُلُوب تِلْكَ أضداد هَذِه الْخِصَال ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا، وَرُبمَا كَانَ المترشح إيلام نفس إنسانية أَو تنعيمها، فسعت الْمَلَائِكَة كل سعي، وَذَهَبت كل مَذْهَب مُمكن، وبإزاء أُولَئِكَ آخَرُونَ أولو خفَّة وطيش وأفكار مضادة للخير أوجب حدوثهم تعفن بخارات ظلمانية هم الشَّيَاطِين لَا يزالون يسعون فِي أضداد مَا سعت الْمَلَائِكَة فِيهِ وَالله أعلم.
(بَاب ذكر سنة الله الَّتِي أُشير إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا﴾)
اعْلَم أَن بعض أَفعَال الله يَتَرَتَّب على القوى المودعة فِي الْعَالم بِوَجْه من وُجُوه الترتب، شهد بذلك النَّقْل وَالْعقل قَالَ رَسُول الله ﷺ:
" أَن الله خلق آدم من قَبْضَة
1 / 49
قبضهَا من جَمِيع الأَرْض، فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض، مِنْهُم الْأَحْمَر والأبيض وَالْأسود، وَبَين ذَلِك، والسهل والحزن، والخبيث وَالطّيب، وَسَأَلَهُ عبد الله بن سَلام مَا ينْزع الْوَلَد إِلَى أَبِيه أَو إِلَى أمه؟ فَقَالَ:
إِذا سبق مَاء الرجل مَاء الْمَرْأَة نزع الْوَلَد وَإِذا سبق مَاء الْمَرْأَة مَاء الرجل نزعت ".
وَلَا أرى أحدا يشك فِي أَن الإماتة تستند إِلَى الضَّرْب بِالسَّيْفِ أَو أكل السم، وَأَن خلق الْوَلَد فِي الرَّحِم يكون عقيب صب الْمَنِيّ، وَأَن خلق الْحُبُوب وَالْأَشْجَار يكون عقيب الْبذر وَالْغَرْس والسقي، وَلأَجل هَذِه الِاسْتِطَاعَة جَاءَ التَّكْلِيف، وَأمرُوا، ونهوا، وجوزوا بِمَا عمِلُوا، فَتلك القوى مِنْهَا خَواص العناصر وطبائعها، وَمِنْهَا الْأَحْكَام الَّتِي أودعها الله فِي كل صُورَة نوعية، وَمِنْهَا أَحْوَال عَالم الْمِثَال والوجود الْمقْضِي بِهِ هُنَالك قبل الْوُجُود الأرضي، وَمِنْهَا أدعية الْمَلأ الْأَعْلَى بِجهْد هممهم لمن هذب نَفسه، أَو سعى فِي إصْلَاح النَّاس، وعَلى من خَالف ذَلِك، وَمِنْهَا الشَّرَائِع الْمَكْتُوبَة على بني آدم وَتحقّق الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم فَإِنَّهَا سَبَب ثَوَاب الْمُطِيع وعقاب العَاصِي، وَمِنْهَا أَن يقْضِي الله تَعَالَى بِشَيْء، فيجر ذَلِك الشَّيْء شَيْئا آخر لِأَنَّهُ لَازمه فِي سنة الله، وخرم نظام اللُّزُوم غير مرضِي، وَالْأَصْل فِيهِ قَول رَسُول الله ﷺ:
" إِذا قضى الله لعبد أَن يَمُوت بِأَرْض جعل لَهُ إِلَيْهَا حَاجَة " فَكل ذَلِك نطقت بِهِ الْأَخْبَار، وأوجبته ضَرُورَة الْعقل.
وَاعْلَم أَنه إِذا تَعَارَضَت الْأَسْبَاب الَّتِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الْقَضَاء بِحَسب جري الْعَادة، وَلم يُمكن وجود مقتضياتها أجمع - وَكَانَت الْحِكْمَة حِينَئِذٍ مُرَاعَاة أقرب الْأَشْيَاء إِلَى الْخَيْر الْمُطلق وَهَذَا هُوَ الْمعبر عَنهُ بالميزان فِي قَوْله ﷺ:
" بِيَدِهِ الْمِيزَان يرفع الْقسْط وَيخْفِضهُ " وبالشأن فِي قَوْله تَعَالَى:
﴿كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن﴾ .
1 / 50
ثمَّ التَّرْجِيح يكون تَارَة بِحَال الْأَسْبَاب أَيهَا أقوى، وَتارَة بِحَال الْآثَار المترتبة أَيهَا أَنْفَع، وبتقديم بَاب الْخلق على بَاب التَّدْبِير وَنَحْو ذَلِك من الْوُجُوه، فَنحْن أَن قصر علمنَا عَن إحاطة الْأَسْبَاب وَمَعْرِفَة الأحق عَن تعارضها نعلم قطعا أَنه لَا يُوجد شَيْء إِلَّا وَهُوَ أَحَق بِأَن يُوجد، وَمن أَيقَن بِمَا ذكرنَا استراح عَن اشكالات كَثِيرَة.
أما هيآت الْكَوَاكِب فَمن تأثيرها مَا يكون ضَرُورِيًّا كاختلاف الصَّيف والشتاء وَطول النَّهَار وقصره باخْتلَاف أَحْوَال الشَّمْس وكاختلاف الجزر وَالْمدّ باخْتلَاف أَحْوَال الْقَمَر، وَجَاء فِي الحَدِيث:
" إِذا طلع النَّجْم ارْتَفَعت العاهة " يَعْنِي بِحَسب جري الْعَادة لَكِن كَون الْفقر والغنى والجدب وَالْخصب وَسَائِر حوادث الْبشر بِسَبَب حركات الْكَوَاكِب فمما لم يثبت فِي الشَّرْع، قد نهى النَّبِي ﷺ عَن الْخَوْض فِي ذَلِك فَقَالَ: " من اقتبس شُعْبَة من النُّجُوم اقتبس شُعْبَة من السحر " وشدد فِي قَول: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَلَا أَقُول نصت الشَّرِيعَة على أَن الله لم يَجْعَل فِي النُّجُوم خَواص تتولد مِنْهَا الْحَوَادِث بِوَاسِطَة تغير الْهَوَاء المكتنف بِالنَّاسِ وَنَحْو ذَلِك، وَأَنت خَبِير بِأَن النَّبِي ﷺ نهى عَن الكهانة وَهِي الْأَخْبَار عَمَّن الْجِنّ، وَبرئ من أَتَى كَاهِنًا وَصدقه، ثمَّ لما سُئِلَ عَن حَال الْكُهَّان أخبر أَن الْمَلَائِكَة تنزل فِي الْعَنَان فَتذكر الْأَمر قضي فِي السَّمَاء، فتسترق الشَّيَاطِين السّمع، فتوحيه إِلَى الْكُهَّان، فيكذبون مَعهَا مائَة كذبة وَأَن الله تَعَالَى قَالَ:
﴿يأيها الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين كفرُوا وَقَالُوا لإخوانهم إِذا ضربوا فِي الأَرْض أَو كَانُوا غزى وَلَو كَانُوا عندنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا﴾ .
وَقَالَ رَسُول الله ﷺ: " لن يدْخل أحدكُم الْجنَّة عمله " وَقَالَ: " إِنَّمَا أَنْت رَفِيق والطبيب الله " وَبِالْجُمْلَةِ فالنهي يَدُور على مصَالح كَثِيرَة وَالله أعلم.
(بَاب حَقِيقَة الرّوح)
قَالَ الله تَعَالَى:
﴿يَسْأَلُونَك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا﴾ .
1 / 51
وَقَرَأَ الْأَعْمَش عَن رِوَايَة ابْن مَسْعُود (وَمَا أُوتُوا من الْعلم إِلَّا قَلِيلا) وَيعلم من هُنَالك أَن الْخطاب للْيَهُود والسائلين عَن الرّوح وَلَيْسَت الْآيَة نصافي إِنَّه لَا يعلم أحد من الْأمة المرحومة حَقِيقَة الرّوح كَمَا يظنّ، وَلَيْسَ كل ماسكت عَنهُ الشَّرْع لَا يُمكن مَعْرفَته الْبَتَّةَ، بل كثيرا مَا يسكت عَنهُ لأجل أَنه معرفَة دقيقة لَا يصلح لتعاطيها جُمْهُور الْأمة وَأَن أمكن لبَعْضهِم.
وَاعْلَم أَن الرّوح أول مَا يدْرك من حَقِيقَتهَا أَنَّهَا مبدأ الْحَيَاة فِي الْحَيَوَان وَأَنه يكون حَيا بنفخ الرّوح فِيهِ، وَيكون مَيتا بمفارقتها مِنْهُ، ثمَّ إِذا أمعن فِي التَّأَمُّل ينجلي أَن فِي الْبدن بخارا لطيفا متولدا فِي الْقلب من خُلَاصَة الأخلاط يحمل القوى الحساسة والمحركة والمدبرة للغذاء يجْرِي فِي حكم الطِّبّ، وَتكشف التجربة أَن لكل من أَحْوَال هَذَا البخار من رقته وغلظه وصفائه وكدرته أثرا خَاصّا فِي القوى والأفاعيل المنبجسة من تِلْكَ القوى وَأَن الآفة الطارئة على كل عُضْو وعَلى توليد البخار الْمُنَاسب لَهُ تفْسد هَذَا البخار، وتشوش أفاعيله ويستلزم تكونه الْحَيَاة، وتحلله الْمَوْت فَهُوَ الرّوح فِي أول النّظر، والطبقة السُّفْلى من الرّوح فِي النّظر الممعن، مثله فِي الْبدن كَمثل مَاء
الْورْد وكمثل النَّار فِي الفحم، ثمَّ إِذا أمعن فِي النّظر أَيْضا أنجلى أَن هَذَا الرّوح مَطِيَّة للروح الْحَقِيقِيَّة ومادة لتعلقها، وَذَلِكَ أَنا نرى الطِّفْل يشب، ويشيب، وتتبدل أخلاط بدنه وَالروح المتولدة من تِلْكَ الأخلاط أَكثر من ألف مرّة، ويصغر تَارَة، وَيكبر أُخْرَى، ويسود تَارَة ويبيض أُخْرَى، وَيكون جَاهِلا مرّة وعالما أُخْرَى إِلَى غير ذَلِك من الْأَوْصَاف المتبدلة والشخص هُوَ هُوَ، وَإِن نُوقِشَ فِي بعض ذَلِك فلنا أَن نفرض تِلْكَ التغيرات والطفل هُوَ هُوَ، أَو نقُول لَا نجزم بِبَقَاء تِلْكَ الْأَوْصَاف بِحَالِهَا، ونجزم بِبَقَائِهِ فَهُوَ غَيرهَا فالشيء الَّذِي هُوَ بِهِ هُوَ لَيْسَ هَذَا الرّوح، وَلَا هَذَا الْبدن، وَلَا هَذِه المشخصات الَّتِي تعرف، وَترى ببادئ الرَّأْي، بل الرّوح فِي الْحَقِيقَة حَقِيقَة فردانية ونقطة نورانية يجل طورها عَن طور هَذِه الأطوار المتغيرة المتغايرة الَّتِي بَعْضهَا جَوَاهِر وَبَعضهَا أَعْرَاض وَهِي مَعَ الصَّغِير كَمَا هِيَ مَعَ الْكَبِير وَمَعَ الْأسود كَمَا هِيَ مَعَ الْأَبْيَض إِلَى غير ذَلِك من المتقابلات، وَلها تعلق خَاص بِالروحِ الهوائي، أَولا وبالبدن ثَانِيًا من حَيْثُ إِن الْبدن مَطِيَّة النَّسمَة وَهِي كوَّة من عَالم الْقُدس ينزل مِنْهَا على النَّسمَة كل مَا استعدت لَهُ، فالأمور المتغيرة إِنَّمَا جَاءَ تغيرها من قبل
1 / 52
الاستعدادات الأرضية بِمَنْزِلَة حر الشَّمْس يبيض الثَّوْب ويسود الْقصار وَقد تحقق عندنَا بالوجدان الصَّحِيح أَن الْمَوْت انفكاك النَّسمَة، عَن الْبدن لفقد استعداد الْبدن لتوليدها لَا انفكاك الرّوح الْقُدسِي عَن النَّسمَة، وَإِذا تحللت النَّسمَة فِي الْأَمْرَاض المدنفة وَجب فِي حِكْمَة الله أَن يبْقى الشَّيْء من النَّسمَة بِقدر مَا يَصح ارتباط الرّوح الإلهي بهَا، كَمَا أَنَّك إِذا مصصت الْهَوَاء من القارورة تخَلّل الْهَوَاء حَتَّى تبلغ إِلَى حد لَا تخَلّل بعده، فَلَا تَسْتَطِيع المص، أَو تنفقئ القارورة، وَمَا ذَلِك إِلَّا لسر نَاشِئ من طبيعة الْهَوَاء، فَكَذَلِك سر فِي النَّسمَة وحد لَهَا لَا يجاوزهما الْأَمر، وَإِذا مَاتَ الْإِنْسَان كَانَ للنسمة نشأة أُخْرَى فينشئ فيض الرّوح الإلهي
فِيهَا قُوَّة فِيمَا بَقِي من الْحس الْمُشْتَرك تَكْفِي كِفَايَة السّمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام بمدد من عَالم الْمِثَال أَعنِي الْقُوَّة المتوسطة بَين الْمُجَرّد والمحسوس المنبثة فِي الافلاك كشيء وَاحِد، وَرُبمَا تستعد النَّسمَة حِينَئِذٍ للباس نوراني أَو ظلماني بمدد من عَالم الْمِثَال، وَمن هُنَالك تتولد عجائب عَالم البرزخ، ثمَّ إِذا نفخ فِي الصُّور أَي جَاءَ فيض عَام من بارئ الصُّور بِمَنْزِلَة الْفَيْض الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي بَدْء الْخلق حِين نفخت الْأَرْوَاح فِي الأجساد، وَأسسَ عَالم المواليد أوجب فيض الرّوح الإلهي أَن يكتسي لباسا جسمانيا أَو لباسا بَين الْمِثَال والجسم فَيتَحَقَّق جَمِيع مَا أخبر بِهِ الصَّادِق المصدوق عَلَيْهِ أفضل الصَّلَوَات وأيمن التَّحِيَّات، وَلما كَانَت النَّسمَة برزخا متوسطا بَين الرّوح الإلهي وَالْبدن الأرضي وَجب أَن يكون لهالا وَجه إِلَى هَذَا، وَوجه إِلَى ذَلِك، وَالْوَجْه المائل إِلَى الْقُدس هُوَ الملكية، وَالْوَجْه المائل إِلَى الأَرْض هُوَ البهيمية، ولنقتصر من حَقِيقَة الرّوح على هَذِه الْمُقدمَات لتسلم فِي هَذَا الْعلم، وتفرع عَلَيْهَا التفاريع قبل أَن ينْكَشف الْحجاب فِي علم أَعلَى من هَذَا الْعلم وَالله أعلم.
(بَاب سر التَّكْلِيف)
قَالَ الله تَعَالَى:
﴿إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا ليعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات وَيَتُوب الله على الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾
نبه الْغَزالِيّ والبيضاوي وَغَيرهمَا على أَن المُرَاد بالأمانة تقلد عُهْدَة
التَّكْلِيف بِأَن
1 / 53
تتعرض لخطر الثَّوَاب وَالْعِقَاب بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَة، وبعرضها عَلَيْهِنَّ اعْتِبَارهَا بِالْإِضَافَة إِلَى استعدادهن، وبإبائهن الْآبَاء الطبيعي الَّذِي هُوَ عدم اللياقة والاستعداد، وبحمل الْإِنْسَان قابليته واستعداده لَهَا.
أَقُول وعَلى هَذَا فَقَوله تَعَالَى ﴿إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا﴾ خرج مخرج التَّعْلِيل؛ فَإِن الظلوم من لَا يكون عادلا، وَمن شَأْنه أَن يعدل، والجهول من لَا يكون عَالما، وَمن شَأْنه أَن يعلم، وَغير الْآدَمِيّ إِمَّا عَالم عَادل لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ الظُّلم وَالْجهل كالملائكة، وَإِمَّا لَيْسَ بعادل وَلَا عَالم وَلَا من شَأْنه أَن يكسبها كَالْبَهَائِمِ، وَإِنَّمَا يَلِيق بالتكليف، ويستعد لَهُ من كَانَ لَهُ كَمَال بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، وَاللَّام فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ليعذب﴾ لَام الْعَاقِبَة كَأَنَّهُ قَالَ عَاقِبَة حمل الْأَمَانَة التعذيب والتنعيم، وَإِن شِئْت أَن تستجلي حَقِيقَة الْحَال فَعَلَيْك أَن تتَصَوَّر حَال الْمَلَائِكَة فِي تجردها لَا يزعجها حَالَة ناشئة من تَفْرِيط الْقُوَّة البهيمية كالجوع والعطش وَالْخَوْف والحزن، أَو إفراطها كالشبق وَالْغَضَب والتيه وَلَا يهمها التغذية والتنمية وَلَو أحقهما، وَإِنَّمَا تبقى فارغة لانتظار مَا يرد عَلَيْهَا من فَوْقهَا، فَإِذا ترشح عَلَيْهَا أَمر من فَوْقهَا من إِجْمَاع على إِقَامَة نظام مَطْلُوب أَو رضَا من شَيْء، أَو بغض شَيْء امْتَلَأت بِهِ، وانقادت لَهُ، وانبعثت إِلَى مُقْتَضَاهُ وَهِي فِي ذَلِك فانية عَن مُرَاد نَفسهَا بَاقِيَة بِمُرَاد مَا فَوْقهَا، ثمَّ تتَصَوَّر حَال الْبَهَائِم فِي تلطخها بالهيآت الخسيسة لَا تزَال مشغوفة بمقتضيات الطبيعة فانية فِيهَا لَا تنبعث إِلَى شَيْء إِلَّا انبعاثا بهيميا يرجع إِلَى نفع جَسَدِي واندفاع إِلَى مَا تعطيه الطبيعة فَقَط.
ثمَّ تعلم أَن الله تَعَالَى قد أودع الْإِنْسَان بِحِكْمَتِهِ الباهرة قوتين: قُوَّة ملكية تتشعب من فيض الرّوح الْمَخْصُوصَة بالإنسان على الرّوح الطبيعية السارية فِي الْبدن وقبولها ذَلِك الْفَيْض وانقهارها لَهُ، وَقُوَّة بهيمية تتشعب من النَّفس الحيوانية الْمُشْتَرك فِيهَا كل حَيَوَان المتشبحة بالقوى الْقَائِمَة بِالروحِ الطبيعية واستقلالها بِنَفسِهَا وإذعان الرّوح الإنسانية لَهَا وقبولها الحكم مِنْهَا، ثمَّ تعلم أَن بَين القوتين تزاحما وتجاذبا، فَهَذِهِ تجذب إِلَى الْعُلُوّ دون تِلْكَ إِلَى
1 / 54
السّفل وَإِذا برزت البهيمية، وغلبت آثارها كمنت الملكية، وَكَذَلِكَ الْعَكْس، وَأَن للباري جلّ شَأْنه عناية بِكُل نظام، وجودا بِكُل مَا يسْأَله الاستعداد الْأَصْلِيّ والكسبي، فَإِن كسب هيآت بهيمية أمد فِيهَا، وَيسر لَهُ مَا يُنَاسِبهَا، وَإِن كسب هيآت ملكية أمد فِيهَا، وَيسر لَهُ مَا يُنَاسِبهَا كَمَا قَالَ الله ﷿.
﴿فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى وَصدق بِالْحُسْنَى فسنيسره لليسرى وَأما من بخل وَاسْتغْنى وَكذب بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى﴾ . وَقَالَ: ﴿كلا نمد هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء من عَطاء رَبك وَمَا كَانَ عَطاء رَبك مَحْظُورًا﴾ .
وَأَن لكل قُوَّة لَذَّة وألما، فاللذة أَدْرَاك مَا يلائمها، والألم إِدْرَاك مَا يُخَالِفهَا وَمَا أشبه حَال الْإِنْسَان بِحَال من اسْتعْمل مخدرا فِي بدنه، فَلم يجد ألم لفح النَّار حَتَّى إِذا ضعف أَثَره، وَرجع إِلَى مَا تعطيه الطبيعة وجد الْأَلَم أَشد مَا يكون أَو بِحَال الْورْد على مَا ذكره الْأَطِبَّاء أَن فِيهِ ثَلَاث قوى: قُوَّة أرضية تظهر عِنْد السحق والطلاء، وَقُوَّة مائية تظهر عِنْد الْعَصْر وَالشرب، وَقُوَّة هوائية تظهر عِنْد الشم، فَتبين أَن التَّكْلِيف من مقتضيات النَّوْع، وَأَن الْإِنْسَان يسْأَل ربه بِلِسَان استعداده أَن يُوجب عَلَيْهِ مَا يُنَاسب الْقُوَّة الملكية، ثمَّ يثيب على ذَلِك، وَأَن يحرم عَلَيْهِ الانهماك فِي البهيمية، ويعاقب على ذَلِك وَالله أعلم.
1 / 55
(بَاب انْشِقَاق التَّكْلِيف من التَّقْدِير)
اعْلَم أَن لله تَعَالَى آيَات فِي خلقه يَهْتَدِي النَّاظر فِيهَا إِلَى أَن الله لَهُ الْحجَّة الْبَالِغَة فِي تَكْلِيفه لِعِبَادِهِ بالشرائع، فَانْظُر إِلَى الْأَشْجَار وأوراقها وأزهارها وثمراتها، وَمَا فِي كل ذَلِك من الكيفيات المبصرة والمذوقة وَغَيرهَا، فَإِنَّهُ جعل لكل نوع أوراقا بشكل خَاص، وأزهارا بلون خَاص، وثمارا مُخْتَصَّة بطعوم، وبتلك الْأُمُور يعرف أَن هَذَا الْفَرد من نوع كَذَا وَكَذَا، وَهَذِه كلهَا تَابِعَة للصورة النوعية ملتوية مَعهَا إِنَّمَا تَجِيء من حَيْثُ جَاءَت الصُّورَة النوعية، وَقَضَاء الله تَعَالَى بِأَن تكون هَذِه الْمَادَّة نَخْلَة مثلا مشتبك مَعَ قَضَائِهِ التفصيلي بِأَن تكون ثَمَرَتهَا كَذَا وخواصها كَذَا.
وَمن خَواص النَّوْع مَا يُدْرِكهُ كل من لَهُ بَال، وَمن خواصه مَا لَا يُدْرِكهُ إِلَّا الألمعي الفطن كتأثير الْيَاقُوت فِي نفس حامله بالتفريح والتشجيع، وَمن خواصه مَا يعم كل الْأَفْرَاد، وَمن خواصه مَا لَا يُوجد إِلَّا فِي بَعْضهَا حَيْثُ تستعد الْمَادَّة، كالأهليلج الَّذِي يسهل بطن من قبض عَلَيْهِ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ لَك أَن تَقول لما كَانَت ثَمَرَة النّخل على هَذِه الصّفة؟ فَإِنَّهُ سُؤال بَاطِل لِأَن وجود لَوَازِم الماهيات مَعهَا لَا يطْلب (بلم، ثمَّ أنظر إِلَى أَصْنَاف الْحَيَوَان تَجِد لكل نوع شكلا وخلقة، كَمَا تَجِد فِي الْأَشْجَار، وتجد مَعَ ذَلِك لَهَا حركات اختيارية، وإلهامات طبيعية، وتدبيرات جبلية يمتاز كل نوع بهَا، فبهيمة الْأَنْعَام ترعى الْحَشِيش، وتجتر، وَالْفرس وَالْحمار والبغل ترعى الْحَشِيش، وَلَا تجتر، وَالسِّبَاع تَأْكُل اللَّحْم، وَالطير يطير فِي الْهَوَاء، والسمك يسبح فِي المَاء، وَلكُل نوع من الْحَيَوَان صَوت غير صَوت الآخر، ومسافدة غير مسافدة الآخر، وحضانة للأولاد غير حضَانَة الآخر، وَشرح هَذَا يطول، وَمَا ألهم نوعا من الْأَنْوَاع إِلَّا علوما تناسب مزاجه، وَإِلَّا مَا يصلح بِهِ ذَلِك النَّوْع.
وكل هَذِه الإلهامات تترشح عَلَيْهِ من جَانب بارئها من كوَّة الصُّورَة النوعية، وَمثلهَا كَمثل تخاطيط الأزهار، وطعوم الثمرات فِي تشابكها مَعَ الصُّورَة النوعية، وَمن أَحْكَام النَّوْع مَا يعم الْأَفْرَاد، وَمِنْهَا مَا لَا يُوجد إِلَّا فِي الْبَعْض حَيْثُ تستعد الْمَادَّة، وتتفق الْأَسْبَاب، وَإِن كَانَ أصل الاستعداد يعم الْكل، كاليعسوب من بَين النَّحْل، والببغاء يتَعَلَّم محاكاة أصوات النَّاس بعد تَعْلِيم وتمرين، ثمَّ أنظر إِلَى نوع الْإِنْسَان تَجِد لَهُ مَا وجدت فِي الْأَشْجَار، وَمَا وجدت فِي أَصْنَاف الْحَيَوَان كالسعال والتمطي والجشاء وَدفع الفضلات ومص الثدي فِي أول نشأته، وتجد مَعَ ذَلِك فِيهِ خَواص يمتاز بهَا من سَائِر الْحَيَوَان: مِنْهَا النُّطْق، وَفهم الْخطاب، وتوليد الْعُلُوم الكسبية من تَرْتِيب الْمُقدمَات البديهية، أَو من التجربة والاستقراء والحدس وَمن الاهتمام بِأُمُور يستحسنها بعقله، وَلَا يجدهَا بحسه، وَلَا وهمه، كتهذيب النَّفس، وتسخير الأقاليم تَحت حكمه، وَلذَلِك يتوارد على أصُول هَذِه الْأُمُور جَمِيع الْأُمَم حَتَّى سكان شَوَاهِق الْجبَال، وَمَا ذَلِك إِلَّا لسر نَاشِئ من جذر صورته النوعية، وَذَلِكَ السِّرّ أَن مزاج الْإِنْسَان يَقْتَضِي أَن يكون عقله قاهرا على قلبه، وَقَلبه قاهرا على نَفسه.
ثمَّ انْظُر إِلَى تَدْبِير الْحق لكل نوع، وتربيته إِيَّاه، ولطفه بِهِ، فَلَمَّا كَانَ النَّبَات لَا يحس، وَلَا يَتَحَرَّك جعل لَهُ عروقا تمص الْمَادَّة المجتمعة من المَاء والهواء ولطيف التُّرَاب، ثمَّ يفرقها فِي الأغصان وَغَيرهَا على تَقْسِيم تعطيه الصُّورَة النوعية، وَلما كَانَ الْحَيَوَان حساسا
1 / 56
متحركا بالإرادة لم يَجْعَل لَهُ عروقا تمص الْمَادَّة من الأَرْض، بل ألهمه طلب الْحُبُوب والحشيش وَالْمَاء من مظانها، وألهمه جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الارتفاقات، وَالنَّوْع الَّذِي لَا يتكون من الأَرْض تكون الديدان مِنْهَا دبر الله تَعَالَى لَهُ بِأَن أودع فِيهِ قوى التناسل،
وَخلق فِي الْأُنْثَى رُطُوبَة يصرفهَا إِلَى تربية الْجَنِين، ثمَّ حولهَا لَبَنًا خَالِصا، وألهم الْمُتَوَلد مص الثدي وازدراد اللَّبن، وَجعل فِي الدَّجَاجَة رُطُوبَة يصرفهَا إِلَى تكون الْبيض، فَإِذا باضت أَصَابَهَا يبس وخلو جَوف يحملانها على جُنُون يَسْتَدْعِي ترك مُخَالطَة بني نوعها، واستحباب حضَانَة شَيْء تسد بِهِ جوفها، وَجعل من طبع الْحَمَامَة الْأنس بَين ذكرهَا وأنثاها، وَجعل خلو جوفها هُوَ الْحَامِل على حضَانَة الْبيض، ثمَّ جعل رطوبتها البالية تتَوَجَّه إِلَى التهوع، وَجعل لَهَا رَحْمَة على الفرخ، وَجعل رحمتها مَعَ الرُّطُوبَة البالية سَببا لتهوعها وَدفع الْحُبُوب وَالْمَاء إِلَى جَوف فرخها، وَجعل الذّكر مِنْهَا بِسَبَب الْأنس يُقَلّد أنثاها، وَخلق للفراخ مزاجا رطبا ثمَّ حول رطوبتها ريشا تطير بِهِ.
وَلما كَانَ الْإِنْسَان مَعَ احساسه وقبوله للالهامات الجبلية والعلوم الطبيعية ذَا عقل وتوليد للعلوم الكسبية - ألهمه الزَّرْع وَالْغَرْس وَالتِّجَارَة والمعاملة، وَجعل مِنْهُم السَّيِّد بالطبع والاتفاق، وَالْعَبْد بالطبع والاتفاق، وَجعل مِنْهُم الْمُلُوك والرعية، وَجعل مِنْهُم الْحَكِيم الْمُتَكَلّم بالحكمة الإلهية والطبيعية والرياضية والعملية، وَجعل مِنْهُم الْغَنِيّ الَّذِي لَا يَهْتَدِي لذَلِك إِلَّا بِضَرْب من تَقْلِيد، وَلذَلِك ترى أُمَم النَّاس من أهل الْبَوَادِي والحضر متواردين على هَذِه ...، وَهَذَا كُله شرح الْخَواص والتدبيرات الظَّاهِرَة الْمُتَعَلّقَة بقوته البهيمية وارتفاقاته المعيشية، ثمَّ انْتقل إِلَى قوته الملكية.
وَاعْلَم أَن الْإِنْسَان لَيْسَ كَسَائِر أَنْوَاع الْحَيَوَان، بل لَهُ إِدْرَاك أشرف من إدراكاتهم، وَمن علومه الَّتِي يتوارد عَلَيْهَا أَكثر أَفْرَاده غير من عَصَتْ مادته أَحْكَام نَوعه - التفتيش عَن سَبَب إيجاده وتربيته، والتنبيه بِإِثْبَات مُدبر
فِي الْعَالم هُوَ أوجده ورزقه، والتضرع بَين يَدي بارئه ومدبره بهمته وَعلمه حسب مَا يتَضَرَّع إِلَيْهِ هُوَ وَجَمِيع أَبنَاء جنسه دَائِما سر مدا بِلِسَان الْحَال وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
1 / 57
﴿ألم ترى أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَكثير من النَّاس وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب﴾ .
أَلَيْسَ أَن كل جُزْء من الشَّجَرَة من أَغْصَانهَا وأوراقها وأزهارها متكفف يَده إِلَى النَّفس النباتية الْمُدبرَة فِي الشَّجَرَة دَائِما سر مدا، فَلَو كَانَ لكل جُزْء مِنْهَا عقل لحمد النَّفس النباتية حمدا غير حمد الآخر، وَلَو كَانَ لَهُ فهم لَا نطبع التكفف الحالي فِي علمه وَصَارَ تكففا بالهمة.
فَاعْلَم من هُنَاكَ أَن الْإِنْسَان لما كَانَ ذَا عقل ذكي انطبع فِي نَفسه التكفف العلمي حسب التكفف الحالي، وَمن خواصه أَيْضا أَن يكون فِي نوع الْإِنْسَان من لَهُ خلوص إِلَى منبع الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة يتلقاها مِنْهُ وَحيا أَو حدسا أَو رُؤْيا، وَأَن يكون آخَرُونَ قد تفرسوا من هَذَا الْكَامِل آثَار الرشد وَالْبركَة، فانقادوا لَهُ فِيمَا يَأْمر، وَينْهى، وَلَيْسَ فَرد من أَفْرَاد الْإِنْسَان إِلَّا لَهُ قُوَّة للتخلص إِلَى الْغَيْب برؤيا يَرَاهَا، أَو بِرَأْي يبصره، أَو هتيف يسمعهُ، أَو حدس يتفطن لَهُ، إِلَّا أَن مِنْهُم الْكَامِل، وَمِنْهُم النَّاقِص، والناقص يحْتَاج إِلَى الْكَامِل، وَله صِفَات يجل طورها عَن طور صِفَات الْبَهَائِم كالخشوع والنظافة وَالْعَدَالَة والسماحة، وكظهور بوارق الجبروت والملكوت من استجابة الدُّعَاء وَسَائِر الكرامات وَالْأَحْوَال والمقامات.
والأمور الَّتِي يمتاز بهَا الْإِنْسَان من سَائِر أَفْرَاد الْحَيَوَان كَثِيرَة جدا لَكِن جماع الْأَمر وملاكه خصلتان:
أَحدهمَا زِيَادَة الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة وَلها شعبتان شُعْبَة غائصة فِي الارتفاقات لمصْلحَة نظام الْبشر واستنباط دقائقها، وَشعْبَة مستعدة للعلوم الغيبية الفائضة بطرِيق الوهب.
وَثَانِيهمَا براعة الْقُوَّة العملية، وَلها أَيْضا شعبتان: شُعْبَة هِيَ ابتلاعها للأعمال من طَرِيق بلعوم اخْتِيَارهَا وإرادتها، فالبهائم تفعل أفعالا بِالِاخْتِيَارِ، وَلَا تدخل أفعالا فِي جدر أَنْفسهَا، وَلَا تتلون أَنْفسهَا بأرواح تِلْكَ الْأَفْعَال، وَإِنَّمَا تلتصق بالقوى الْقَائِمَة بِالروحِ الهوائي فَقَط، فيسهل عَلَيْهَا صُدُور أَمْثَالهَا.
وَالْإِنْسَان يفعل أفعالا، فتفنى الْأَفْعَال، وتنزع مِنْهَا أرواحها، فتبلعها النَّفس، فَيظْهر فِي النَّفس إِمَّا نور وَإِمَّا ظلم، وَقَول الشَّرْع شَرط الْمُؤَاخَذَة على الْأَفْعَال أَن يَفْعَلهَا بِالِاخْتِيَارِ بِمَنْزِلَة قَول الطَّبِيب شَرط الضَّرَر بالسم وَالِانْتِفَاع بالترياق أَن يدخلا فِي البلعوم، وينزلا فِي الْجوف، وأمارة مَا قُلْنَا أَن النَّفس الإنسانية تبلع من أَرْوَاح الْأَعْمَال مَا اتّفق عَلَيْهِ أُمَم بني آدم من عمل الرياضات والعبادات وَمَعْرِفَة أنوار كل ذَلِك وجدانا، وَمن الْكَفّ عَن الْمعاصِي والمنهيات ورؤية قسوة كل ذَلِك وجدانا.
1 / 58
وَشعْبَة: هِيَ أَحْوَال ومقامات سنية، كمحبة الله والتوكل عَلَيْهِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْبَهَائِم جِنْسهَا.
وَاعْلَم أَنه لما كَانَ اعْتِدَال مزاح الْإِنْسَان بِحَسب مَا تعطيه الصُّورَة النوعية لَا يتم إِلَّا بعلوم لَا يتَخَلَّص إِلَيْهَا أزكاهم، ثمَّ يقلده الْآخرُونَ وبشريعة تشْتَمل على معارف إلهية وتدبيرات ارتفاقية وقواعد تبحث عَن الْأَفْعَال
الاختيارية وتقسمها إِلَى الْأَقْسَام الْخَمْسَة من الْوَاجِب، وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ، والمباح وَالْمَكْرُوه، وَالْحرَام، ومقدمات تبين مقامات للإحسان وَجب فِي حِكْمَة الله تَعَالَى وَرَحمته أَن يهئ فِي غيب قدسه رزق قوته الْعَقْلِيَّة يخلص إِلَيْهِ أزكاهم فيتلقاه من هُنَالك، وينقاد لَهُ سَائِر النَّاس بمنزله مَا ترى فِي نوع النَّحْل من يعسوب يدبر لسَائِر أفرادها لَوْلَا هَذَا التلقي بِوَاسِطَة، وَلَا بِوَاسِطَة لم يكمل كَمَاله الْمَكْتُوب لَهُ، فَكَمَا أَن المستبصر إِذا رأى نوعا من أَنْوَاع الْحَيَوَان لَا يتعيش إِلَّا بالحشيش استيقن أَن الله دبر لَهُ مرعى فِيهِ حشيش كثير، فَكَذَلِك المستبصر فِي صنع الله يستيقن أَن هُنَاكَ طَائِفَة من الْعُلُوم يسد بهَا الْعقل خلته فيكمل كَمَا لَهُ الْمَكْتُوب لَهُ، وَتلك الطَّائِفَة مِنْهَا علم التَّوْحِيد وَالصِّفَات، وَيجب أَن يكون مشروحا بشرح يَنَالهُ الْعقل الإنساني بطبيعته لَا مغلقا لَا يَنَالهُ إِلَّا من ينْدر وجود مثله، فشرح هَذَا الْعلم بالمعرفة الْمشَار إِلَيْهَا بقوله سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، فَأثْبت لنَفسِهِ صِفَات يعرفونها، ويستعملونها، بَينهم من الْحَيَاة والسمع وَالْبَصَر وَالْقُدْرَة والإرادة وَالْكَلَام وَالْغَضَب والسخط وَالرَّحْمَة وَالْملك والغنى، وَأثبت مَعَ ذَلِك أَنه لَيْسَ كمثله شَيْء فِي هَذِه الصِّفَات؛ فَهُوَ حَيّ لَا كحياتنا، وبصير لَا كبصرنا، قدير لَا كقدرتنا، مُرِيد لَا كإرادتنا، مُتَكَلم لَا ككلامنا، وَنَحْو ذَلِك، ثمَّ فسر عدم الْمُمَاثلَة بِأُمُور مستبعدة فِي جنسنا مثل أَن يُقَال يعلم عدد قطر الأمطار، وَعدد رمل الفيافي، وَعدد أوراق الْأَشْجَار، وَعدد أنفاس الْحَيَوَانَات، ويبصر دَبِيب النَّمْل فِي اللَّيْلَة الظلماء، وَيسمع مَا يتوسوس بِهِ تَحت اللحف فِي الْبيُوت المغلقة عَلَيْهَا أَبْوَابهَا، وَنَحْو ذَلِك، وَمِنْهَا علم الْعِبَادَات، وَمِنْهَا علم الارتفاقات، وَمِنْهَا علم الْمُخَاصمَة. أَعنِي أَن النُّفُوس السفلية إِذا تولدت بَينهَا شُبُهَات تدافع بهَا الْحق كَيفَ يحل تِلْكَ العقد، وَمِنْهَا علم التَّذْكِير بآلاء الله، وبأيام الله
وبوقائع البرزخ والمحشر فَنظر الْحق ﵎ فِي الْأَزَل إِلَى نوع الْإِنْسَان، وَإِلَى استعداده الَّذِي يتوارثه أَبنَاء النَّوْع، وَنظر إِلَى قوته الملكية وَالتَّدْبِير الَّذِي يصلحه من الْعُلُوم المشروحة حسب استعداده، فتمثلت تِلْكَ الْعُلُوم كلهَا فِي غيب الْغَيْب
1 / 59