Hurnimo si loo Qaato Neefsasho
هدنة لالتقاط الأنفاس
Noocyada
8
لم أصب وأنا في الجيش إلا في أواخر عام 1916.
كنا قد خرجنا لتونا من الخنادق ونسير راجعين في طريق يصل طوله إلى نحو الميل، وكان يفترض أنه آمن؛ ولكن الألمان لا بد أنهم قد اكتشفوه في وقت ما قبلنا. وفجأة، بدءوا في إطلاق بعض القذائف - التي كانت من النوع الثقيل شديد الانفجار - علينا، وكانوا يلقون قذيفة كل دقيقة. كان هناك صوت الدوي المعتاد، ثم الانفجار في مكان ما في الميدان على ناحية اليمين. أعتقد أن القذيفة الثالثة هي التي أصابتني؛ وقد عرفت بمجرد أن سمعت صوتها وهي آتية أن اسمي مكتوب عليها. يقولون إن المرء يشعر باقتراب حلول مصائبه دائما. لكن القذيفة لم تكن تقول ما تقوله القذائف العادية؛ بل قالت: «لقد جئت من أجلك أيها الوغد، أنت، أنت أيها الوغد، أنت!» حدث كل ذلك فيما يقرب من ثلاث ثوان، وآخر ما حدث كان الانفجار.
شعرت كما لو أن يدا هائلة من الهواء قد جرفتني معها؛ فسقطت في الحال وأنا أشعر بشيء من الانكسار والغضب بين العديد من العلب المعدنية القديمة، والشظايا الخشبية، والأسلاك الشائكة الصدئة، والروث، وعبوات الرصاص والمتفجرات الفارغة، وغيرها من القاذورات في الخندق على جانب الطريق. عندما انتشلوني وأزالوا عني بعض الأوساخ، وجدوا أنني لم أصب بإصابات بالغة؛ فلم تكن سوى عدة شظايا قذائف صغيرة غرزت في أحد ردفي وفي الجزء الخلفي من الساقين، ولكن لحسن حظي كانت إحدى ضلوعي قد انكسرت أثناء سقوطي، ما جعل الأمر خطيرا بما يكفي كي أرجع إلى إنجلترا. قضيت ذلك الشتاء في مستشفى ميداني في تلال قرب إيستبورن.
هل تتذكر تلك المستشفيات الميدانية التي كانت في زمن الحرب؟ تلك الصفوف الطويلة من الأكواخ الخشبية التي تشبه عشش الدواجن المتراصة أعلى تلك التلال الثلجية الموحشة - «الساحل الجنوبي»، كما اعتاد أن يطلق عليه الناس، ما جعلني أتساءل عن شكل الساحل الشمالي - حيث يبدو أن الرياح تهب عليك من كل اتجاه في نفس الوقت، ومجموعات الرجال الذين كانوا يرتدون البدلات من قماش الفلانيلة الأزرق الباهت وربطات العنق الحمراء، ويتجولون ذهابا وإيابا باحثين عن مكان بعيد عن الرياح، ولا يجدون قط. في بعض الأحيان، كان الأطفال من مدارس الأولاد عالية الطراز في إيستبورن يرسلون في طوابير لتوزيع السجائر وحلوى النعناع على «الجرحى من التومي»، كما كانوا يطلقون علينا. كان يقترب طفل ذو وجه وردي في سن الثامنة تقريبا من مجموعة من الرجال الجرحى الجالسين على العشب، ويشق علبة من سجائر ماركة وودباين ليفتحها، وبجدية شديدة يعطي كل رجل سيجارة واحدة، تماما كما لو كان يطعم قرودا في حديقة الحيوان. وكان أي أحد يملك ما يكفي من القوة ليتجول مسافة أميال في التلال على أمل أن يقابل أي فتيات؛ ولكن لم يكن ثمة عدد كاف من الفتيات لملاحقتهن. في الوادي أسفل المستشفى، كان ما يشبه الأيكة؛ وقبل الغسق بكثير، كنت ترى رجلا وامرأة ملتصقين أمام كل شجرة؛ وأحيانا، إذا وجدت شجرة سميكة الجذع، تجد رجلا وامرأة على كل جانب منها. أكثر ما أتذكره عن ذلك الوقت هو الجلوس قبالة شجيرة جولق أثناء هبوب الرياح المجمدة، حيث تكون أصابعي شديدة البرودة لدرجة أنني لم أكن أستطيع ثنيها، وطعم حلوى النعناع في فمي. هذه هي ذكريات الجنود المعتادة؛ ولكنني كنت أبتعد عن حياة «التومي» على الرغم من ذلك. أرسل قائد السرية اسمي للحصول على رتبة ضابط قبل إصابتي بفترة وجيزة؛ وفي ذلك الوقت، كانوا في أشد الحاجة إلى الضباط، وأي شخص كان بإمكانه أن يحصل على رتبة ضابط إن أراد، ما لم يكن في الواقع أميا. ذهبت على الفور من المستشفى إلى معسكر لتدريب الضباط بالقرب من كولتشيستر.
غريب للغاية ما فعلته الحرب بالناس؛ فقبل أقل من ثلاثة أعوام منذ كنت بائعا بمتجر نشيطا ورشيقا أقف إلى طاولة البيع في مئزري الأبيض وأقول: «أجل يا سيدتي! بالطبع يا سيدتي! هل أحضر لك شيئا آخر يا سيدتي؟» حيث كانت حياة البقالة أمامي، وكانت فكرة أن أصبح ضابطا في الجيش تعادل حصولي على لقب فارس. وها أنا مختال بقبعتي الرائعة وياقتي الصفراء، وأؤدي واجبي بشكل أو بآخر بين حشد من أفراد الخدمة المؤقتة الآخرين وبعض ممن لم يكونوا مؤقتين كذلك. وهذا هو بيت القصيد: وهو عدم شعوري بالغرابة بأي شكل؛ إذ لم يبد شيئا غريبا في تلك الأيام.
كان الأمر كما لو أن آلة ضخمة تتحكم فيك بالكامل، فلم يكن لديك شعور بالإرادة الحرة، وفي الوقت نفسه لم يكن لديك رغبة في محاولة المقاومة. لو لم يكن لدى الناس بعض من مثل هذا الشعور، فلم يكن لحرب أن تستمر لثلاثة أشهر؛ إذ سيحمل الجنود عتادهم ويرحلون إلى بلادهم. لماذا انضممت للجيش؟ ولماذا انضم إليه ملايين الحمقى الآخرين قبل فرض التجنيد الإجباري؟ انضممنا للمتعة من جهة، ومن جهة أخرى من أجل إنجلترا، إنجلترا وطني والإنجليز وكل تلك الأمور. ولكن إلى متى استمر ذلك؟ معظم الشباب الذين عرفتهم كانوا قد نسوا كل هذا قبل وقت طويل من وصولهم إلى فرنسا. الرجال في الخنادق لم يكونوا وطنيين، ولم يكرهوا القيصر، ولم يهتموا قيد أنملة ببلجيكا الصغيرة النبيلة والألمان الذين كانوا يغتصبون الراهبات على الطاولات (كانوا يغتصبونهن دائما «على الطاولات»، كما لو أن ذلك سيزيد الأمر سوءا) في شوارع بروكسل؛ ولكنهم لم يحاولوا الهرب. لقد كانت الآلة المسيطرة تتحكم فيك، ويمكنها أن تفعل بك ما يحلو لها؛ ترفعك لأعلى وتهبط بك لأسفل بين أماكن وأشياء لم تحلم يوما بها؛ وإن أوقعت بك على سطح القمر، فلن يبدو الأمر غريبا. انتهت حياتي القديمة في اليوم الذي انضممت فيه للجيش؛ فقد كان الأمر كما لو أنها لم تعد تعنيني. هل تصدق أنني منذ ذلك اليوم لم أذهب إلى لوير بينفيلد سوى مرة واحدة، وكان ذلك لأحضر جنازة أمي؟ يبدو الأمر لا يصدق الآن، ولكنه بدا طبيعيا جدا في ذلك الوقت. أعترف أن جزءا من ذلك كان بسبب إلسي، التي توقفت بالطبع عن الكتابة لها بعد شهرين أو ثلاثة. لا شك أنها قد تعرفت على شخص آخر، ولكنني لم أكن أرغب في مقابلتها. وبعيدا عن ذلك، ربما، لو تمكنت من الحصول على إجازة، لكنت قد ذهبت لرؤية أمي، التي أصابتها نوبات المرض عندما انضممت إلى الجيش، وكانت ستكون فخورة بابنها في زيه العسكري.
توفي أبي عام 1915، وكنت في ذلك الوقت في فرنسا. لا أبالغ عندما أقول إن موت أبي يؤلمني الآن أكثر مما آلمني في وقت موته؛ ففي ذلك الوقت، كان الأمر مجرد خبر سيئ تقبلته تقريبا دونما اهتمام، بنوع من تبلد الحس، كما يتقبل المرء كل شيء في الجيش. أتذكر الزحف نحو بوابة المخبأ للحصول على ضوء كاف لقراءة الخطاب، وأتذكر آثار دموع أمي في الخطاب، والإحساس بالألم الذي كنت أشعر به في ركبتي ورائحة الوحل. كانت وثيقة التأمين على الحياة الخاصة بأبي مرهونة بأغلب قيمتها، ولكنه كان لديه قدر ضئيل من المال في البنك، وكان آل سارازينز سيشترون المخزون ويدفعون مبلغا صغيرا؛ تقديرا منهم لسمعة أبي التجارية. على أي حال، كانت أمي تمتلك ما يزيد على مائتي جنيه إلى جانب أثاث المنزل. وذهبت للعيش مؤقتا مع إحدى قريباتها، وهي زوجة أحد صغار الملاك الذي كان حاله جيدا في وقت الحرب، وذلك قرب دوكسلي على بعد بضعة أميال على الجانب الآخر من وولتن. كان ذلك «وضعا مؤقتا» فقط؛ فقد كان ثمة شعور مؤقت تجاه كل شيء. إن كان ذلك قد حدث في الأيام الماضية، التي تكاد لا تتعدى في الواقع عاما واحدا، لكان الأمر سيبدو كارثة مرعبة؛ فمع وفاة الأب وبيع المتجر وعدم امتلاك الأم إلا لمائتي جنيه، كنت سترى أمامك على نحو ما مسرحية تراجيدية ممتدة على مدى خمسة عشر مشهدا، آخرها جنازة الفقير. ولكن الآن الحرب والشعور بأن المرء لا يملك نفسه قد ألقيا بظلالهما على كل شيء؛ فلم يعد الناس يفكرون في أشياء كالإفلاس وملجأ الفقراء. كان هذا هو الوضع حتى مع أمي، التي يعلم الله أنها كانت لديها أفكار شديدة الغموض حول الحرب؛ إضافة إلى أنها كانت في أواخر أيامها بالفعل، على الرغم من أن أحدا منا لم يكن يعلم ذلك.
أتت لرؤيتي في المستشفى بإيستبورن، وكان ذلك بعد ما يزيد على عامين من رؤيتي لها آخر مرة، وقد صدمني شكلها بعض الشيء حين رأيتها؛ فقد بدت شاحبة وتقلص حجمها قليلا. كان ذلك من ناحية لأنني في ذلك الوقت كنت قد كبرت وسافرت، وبدا كل شيء أصغر في عيني، ولكن لا شك أنها أصبحت أنحف، وكذلك أكثر شحوبا. حدثتني بطريقتها الهائمة القديمة عن العمة مارثا (القريبة التي أقامت عندها)، والتغييرات التي حلت بلوير بينفيلد منذ اندلاع الحرب، وجميع الصبية الذين «رحلوا» (أي انضموا للجيش)، وعسر الهضم الذي كان يصيبها والذي كان «متفاقما»، وشاهد مقبرة أبي المسكين وجثمانه الجميل. كان كلامها القديم نفسه، الكلام الذي كنت أسمعه لسنوات، ولكنه أصبح بشكل ما ككلام شبح؛ فلم يعد يهمني كما كان في السابق. لطالما عرفت أمي كائنا طيبا ومراعيا ومذهلا ورائعا، كتمثال من تلك التماثيل التي يضعونها في مقدمة السفن، وكدجاجة حاضنة لأفراخها، وفي نهاية المطاف أصبحت امرأة ضئيلة الحجم في فستان أسود. كل شيء كان يتغير ويزداد شحوبا. وكانت تلك آخر مرة أراها على قيد الحياة. وصلتني برقية تقول إنها كانت مريضة بشدة عندما كنت في مدرسة التدريب في كولتشيستر، وتقدمت على الفور للحصول على إجازة لمدة أسبوع؛ ولكن كان الأوان قد فات، إذ ماتت في الوقت الذي كنت فيه في دوكسلي. ما تخيلته هي وأي شخص آخر أنه كان عسر هضم كان نوعا من الأورام الداخلية، وقد قضت عليها ارتجافة مفاجئة في المعدة. حاول الطبيب التخفيف عني بإخباري أن الورم كان «حميدا»، ما بدا لي تسمية غريبة لمعرفتي أن هذا الورم قد قتلها.
حسنا، دفناها بجوار أبي، وكانت تلك نظرتي الأخيرة على لوير بينفيلد، التي تغيرت كثيرا في ثلاث سنوات فقط؛ حيث أغلقت بعض المتاجر، وتغيرت أسماء بعضها الآخر، وتقريبا كل الرجال الذين عرفتهم في صباي كانوا قد رحلوا، وبعض منهم كانوا قد ماتوا. مات سيد لوفجروف؛ إذ قتل في معركة السوم، ومات جينجر واتسون، صبي المزرعة الذي انضم إلى مجموعة اليد السوداء منذ سنوات، ذلك الصبي الذي كان يصطاد الأرانب حية؛ وكان في مصر حين وفاته. أحد الشباب الذين كانوا يعملون معي في متجر جريميت فقد ساقيه. وأقفل العجوز لوفجروف متجره وكان يعيش في كوخ بجوار وولتن على معاش سنوي صغير. أما العجوز جريميت، فقد كان يستفيد من الحرب، وأصبح وطنيا وعضوا في اللجنة المحلية التي حاكمت معارضي الخدمة العسكرية. وما أسهم أكثر من أي شيء آخر في فراغ البلدة وإعطائها ذلك المظهر المهجور كان في الواقع خلوها من الخيول؛ فقد استولى الجيش على كل حصان في حالة جيدة منذ مدة طويلة. كانت العربات التي تجرها الدواب لا تزال موجودة، لكن الحيوانات التي كانت تجرها لم تكن قادرة على الوقوف لولا أعمدة الجر. لمدة ما يقرب من الساعة التي قضيتها هناك قبل الجنازة، تجولت في البلدة متسائلا عن أحوال الناس ومستعرضا زيي العسكري. لحسن الحظ، لم أقابل إلسي. رأيت كل التغيرات، ولكنني كنت كما لو أنني لم أر شيئا؛ فقد كان عقلي مشغولا بأمور أخرى، على وجه التحديد السعادة التي غمرتني عندما رآني الناس بزي الملازم الثاني، وشارة أعلى الذراع الأسود (شيء يبدو أنيقا للغاية على اللون الكاكي)، وبنطالي المضلع الجديد. أتذكر جليا أنني كنت لا أزال أفكر في ذلك البنطال عندما وقفنا عند الساحة بجوار القبر، ثم رموا ببعض التراب على التابوت؛ فأدركت فجأة معنى أن أمي مستلقية أسفل الأرض على مسافة سبع أقدام، وشعرت برعشة خلف عيني وأنفي، ولكن حتى في تلك اللحظة لم يذهب البنطال عن بالي.
Bog aan la aqoon