ردت بولين: «لا أدري.» «لعله كان يعرف أمرنا دون وعي؛ فالناس يحسون بهذه الأمور.»
هزت رأسها وكأنها تطلب إليه ألا يطيل الحديث عن هذا الموضوع، فاعتذر ثم سارا معا في الشارع دون تلامس أو حديث. •••
كان عليهما الخروج للبحث عن كابينة هاتف؛ لأنه لم يكن هناك أي هواتف في غرفة النزل حيث ينامان. وحينذاك، في الصباح الباكر، حين نظرت بولين حولها لتستشعر الراحة بلا أعباء - لأول مرة تحظى بهذه الراحة أو الحرية منذ أتت إلى هذه الغرفة - رأت أن هذه الغرفة لا تحوي الكثير؛ لا تحوي سوى خزانة مستهلكة، وسرير بدون ظهر ، ومقعد منجد دون ذراعين، وستارة فينيسية ذات ضلع مكسور تغطي النافذة، وستارة أخرى من البلاستيك برتقالي اللون - من المفترض أن تبدو كالستائر الشفافة ولا تحتاج لأن تثنى أطرافها - ممزقة من أسفل. وكان هناك جهاز تكييف ذو هدير صاخب، أطفأه جيفري ليلا وترك الباب مفتوحا مع غلق سلسلة الأمان؛ لأن النافذة ما كانت تفتح. لكن الباب مغلق الآن - بعد أن استيقظت - ولا بد أنه استيقظ ليلا فأغلقه.
كان هذا هو كل ما تملك؛ فلقد انقطعت صلتها بالكوخ حيث يرقد براين نائما أو أرقا، وانقطعت صلتها أيضا بالمنزل الذي كان تجسيدا لحياتها مع براين، ولطريقة الحياة التي أرادا أن يعيشاها. لم يعد لديها أثاث؛ فلقد قطعت الصلة بينها وبين كل مكتسباتها الملموسة الضخمة، كالغسالة وآلة تجفيف الملابس والطاولة المصنوعة من خشب البلوط وخزانة الثياب التي تم تجديدها والثريا التي كانت تقليدا لأخرى مرسومة في إحدى لوحات فيرمير. وكذلك بالقدر نفسه قطعت صلتها بمتعلقاتها الخاصة بها؛ كالكئوس المصنوعة من الزجاج المضغوط التي كانت تجمعها، وبساط الصلاة الذي لم يكن بالطبع أصليا لكنه جميل. قطعت صلتها بهذه الأشياء خاصة، وبكتبها أيضا، فالأرجح أنها فقدتها بالكامل، وحتى ثيابها؛ لم يعد لديها الآن سوى التنورة والبلوزة والصندل، وهي الأشياء التي كانت ترتديها خلال رحلتها إلى كامبل ريفر. ما كانت لتعود أبدا كي تطالب بأي من متعلقاتها. إذا ما هاتفها براين ليسألها ما يفعل بما يخصها، فستقول له أن يفعل بها ما يحلو له؛ أن يتخلص من كل شيء في القمامة؛ إذا كان هذا هو ما يريد (لكنها كانت تعلم أنه على الأرجح سيملأ صندوق السيارة - بأمانة شديدة - بمعطفها الشتوي وحذائها ذي الرقبة وأشياء أخرى كمشد خاصرتها الذي ارتدته في حفل زفافهما ولم ترتده مرة أخرى، وأنه سيضع بساط الصلاة فوق كل متعلقاتها كعلامة أخيرة على كرمه، سواء التلقائي أو المرتب له؛ وهو ما قد حدث بالفعل).
أيقنت بولين أنها لن تبالي بعد الآن بالمكان الذي ستسكنه أو الثياب التي سترتديها. لن تسعى أبدا لأن توضح لأي امرئ موقفها وكيف كانت تعيش، بل لن توضح هذا لنفسها. يكفي ما فعلت، ما فعلته يغني عن أي شيء.
ما فعلته هو ما سمعت به وقرأت عنه؛ كان أشبه بما فعلته آنا كارنينا وما أرادت مدام بوفاري أن تفعله، وما فعله مدرس - زميل براين - مع سكرتيرة المدرسة. هرب معها؛ هكذا أطلق على فعلتهما. هربا معا وفرا دون ثالث. تحدث الناس عن فرارهما باحتقار وتندر وغبطة. لقد تجاوزت العلاقة حدود الفحشاء؛ فلا بد أن طرفيها كانا على علاقة بالفعل منذ فترة، بل ومارسا الفحشاء لفترة، قبل أن يصلا إلى قدر كاف من اليأس أو الشجاعة يمكنهما من اتخاذ تلك الخطوة. فبين كل حين طويل وآخر، يدعي حبيبان أن عشقهما نقي لا ينضب، في حين ينظر إليهما الناس - إذا ما صدقوهما - على أنهما جادان للغاية وهدفهما نبيل، لكنهما متهوران على نحو هدام، شأنهما شأن من يغامرون ويتخلون عن كل شيء مقابل الرحيل عن البلد للعمل في إحدى الدول الفقيرة الخطرة.
أما الحبيبان - الزانيان - فإن لم يجدا من يصدقهما فسيعتبرهما الناس غير مسئولين ولا ناضجين، أنانيين، بل وعديمي الشفقة. وكذلك هما محظوظان؛ محظوظان لأن الجنس الذي مارساه من قبل في سياراتهما المتوقفة في المرأب، أو على العشب الطويل، أو في فراش الزوجية المدنس أو - وهو الأرجح - في مثل هذه الأنزال، لا بد أنه رائع، وإلا فما كان أحدهما ليتوق بهذا الشكل لصحبة الآخر مهما كان الثمن، وما كانا ليوقنا أن مستقبلهما معا سيختلف بالكلية عن حياتهما الماضية، بل وسيكون أفضل منها.
سيختلف المستقبل بالكلية. لا بد أن هذا ما كانت بولين تؤمن به بعد رحيلها؛ أن هناك اختلافات أساسية بين أنواع الحياة المختلفة أو زيجات البشر وعلاقاتهم. آمنت أن بعضهم مصيره محتوم لا مفر منه، وبعضهم ليس له هذا المصير. وبالطبع كانت ستردد الرأي نفسه قبل ما حدث بسنة. وكان من سبقها يرددونه أيضا، وكانوا يؤمنون به، ويؤمنون أيضا أن حالتهم هي الأولى من نوعها - حالات فريدة - حتى وإن رأى غيرهم أنهم ليسوا روادا، وإن لم يعرفوا هم أنفسهم عن أي شيء يتحدثون. هي نفسها ما كانت لتعرف عن أي شيء تتحدث. •••
كان جو الغرفة دافئا جدا، وكذلك جسد جيفري، وكأنه يشع ثقة ومشاكسة حتى وهو نائم. كان جذعه أكثر امتلاء من جذع براين؛ إذ كان أكثر بدانة عند الخاصرة، وكان لديه لحم أكثر يغطي العظام؛ وإن لم يكن متدليا. كانت بولين واثقة من أن الناس سيقولون إنه ليس وسيما بشكل عام، كما أنه ليس مهندما. لم تكن تفوح أي رائحة من براين في الفراش، أما جيفري، ففي كل مرة ترقد بجانبه، تفوح منه رائحة زيت - نوعا ما - أو جوز ساخن. لم يستحم الليلة الماضية، وهي كذلك، لكنه اغتسل لاحقا؛ فلم يكن هناك وقت للاستحمام. ولكن هل يمكن أن تجد معه فرشاة أسنان؟ لم تكن معها فرشاتها؛ لكنها لم تكن تعرف أنها ستبيت.
عندما قابلت جيفري في هذا المكان، كان يدور في خلدها ضرورة اختلاق كذبة كبيرة كي تغطي على الحقيقة عندما تعود إلى المنزل، ولكن الأمور جرت معها - بل معهما - على وجه السرعة. فعندما قال لها جيفري إنه قرر عدم افتراقهما، وضرورة أن تذهب معه إلى ولاية واشنطن، وحتمية التخلي عن إكمال المسرحية لأن الأمر لن يتيسر لهما في فيكتوريا، أخذت تنظر إليه نظرة خاوية كتلك التي ترتسم على عيني أي شخص لحظة بدء وقوع زلزال. كانت مستعدة لأن تخبره بكل الأسباب التي تحول دون موافقتها، وظلت معتقدة أنها ستخبره بها، لكن حياتها سارت على غير هدى في هذه اللحظة. وإذا ما حاولت التراجع، فسيكون الأمر أشبه بوضع رأسها داخل كيس يكتم أنفاسها.
Bog aan la aqoon