إن قوة هائلة مخيفة مروعة قد قامت بينها وبين القبر، هي لا تراها ولا تحسها إلا حين تحاول الخطو إلى أمام، فهي حينئذ ترى ما يخيفها ويروعها، ويملأ قلبها هولا ورعبا، ويعقد لسانها فلا تقول، ويطبق فمها فلا تصيح.
وإن قوة أخرى ليست هائلة ولا مروعة ولا مخيفة، ولكنها حزينة ملحة في الحزن، شاحبة ملحة في الشحوب، نحيلة ضئيلة، ولكنها مع ذلك قوية لا تراها هذه المرأة إذا التفتت أو تحولت، ولكنها إذا همت أن تخطو إلى وراء أحست صوتا يمزق القلوب ويفرق النفوس؛ يقول لها في حزن: «إلى أين تذهبين؟! وحبك ماذا تصنعين به؟! وهل بقي لك أمل في الحياة؟» والوقت يمضي، والليل يتقدم، والسكون من حول هذه المرأة يتصل ملحا ثقيلا، وهي في مكانها قائمة واجمة يثوب إليها عقلها بين حين وحين، فتحاول الحركة فلا تستطيع، وتحاول الصياح فلا تستطيع، وتحاول النجوى فلا تستطيع، وإنما هي تمثال قد حيل بينه وبين الحركة والقول ، ولم يحل بينه وبين الحس والشعور والتفكير.
ثم تضطرب في هذا التمثال الشاعر المحس المفكر رعدة قوية، تظهر في أصل نفسه، ثم تنتشر مسرعة في جسمه كله. وإذا المرأة قد انطلق لسانها المعقود، وفتح فمها المطبق، ووجدت القدرة على الحركة، واستطاعت إن أرادت أن تخطو إلى أمام، وأن تخطو إلى وراء، كأنما رفعت عنها قيود وأغلال كانت قد فرضت عليها فرضا. ولكنها مع ذلك لا تسعى إلى القبر، كأنها تحس أنها إثم كلها، وأن هذا القبر قد أصبح بمنجاة من الإثم الجديد.
كم كانت تحب لو سقت هذا القبر بهذا الدمع الغزير الذي ينهل على وجهها، ولكنها مع ذلك لا تفعل، كأنها تحس أن هذا الدمع إثم كله، وأنه سيستحيل نارا محرقة إن بلغ هذا القبر، وما ينبغي لهذا القبر أن تمسه منها النار.
كلا، لقد حيل بينها وبين صاحبها حيا حين قطع الموت ما كان بينهما من الأسباب، ولقد حيل بينها وبين صاحبها ميتا، حين قام تمثال الإثم بينها وبين هذا القبر. إن الطريق حرة مطلقة من ورائها تستطيع أن تسلكها متى شاءت، لن تجد من يردها، ولن تجد ما يعوقها. إن هذه القوة الحزينة التي كانت قائمة من ورائها تمنعها من الرجوع، قد تحولت عن موقفها شيئا وخلت بينها وبين الطريق، واتخذت صورة الرفيق الحزين المستخزي الذي يريد أن يرافقها وألا يفارقها ما وجد إلى مرافقتها سبيلا.
وهذا شخص آخر يظهر في وجهه الحزم والصرامة، ولا يخلو وجهه مع ذلك من رفق ولين، قد أقبل حتى قام عن يمين هذه المرأة هادئا رفيقا تجري في وجهه ابتسامة حلوة لا تخلو من كآبة وحزن، وهو يظهر الاستعداد لمرافقة هذه المرأة وأخذها بالتعزية الحلوة الحازمة ما وجد إلى ذلك سبيلا.
والمرأة تتحول عن موقفها وتسعى بين هذين الرفيقين في طريقها عائد إلى بيتها. وهما يسعيان معها عن يمين وشمال صامتين لا يقولان شيئا. ولكنها تفهم عنهما كل شيء؛ فأما أحدهما فيحدثها عن زوجها الوفي وأبنائها الأغرار الأطهار، وأما الآخر فيحدثها عن هذا القبر الذي حال بينها وبين من كانت تحب، والذي احتوى حبها وأملها ولذتها وسعادتها جميعا.
وتمضي أيام وأيام، وتمضي أشهر وأشهر، وتمضي أعوام وأعوام، وتتقدم السن بهذه المرأة. ولكنها دائما لا تنظر إلى يمين إلا رأت شخص الواجب هائلا يظهر في وجهه الحزم الحلو، وتجري في وجهه الابتسامة الحزينة. ولا تنظر عن شمال إلا رأت شخص الحب هائلا يظهر في وجهه حزن وخزي، ويظهر في وجهه كذلك تصميم على ألا يفارق هذه المرأة حتى تفارق الحياة.
نفس معلقة
مضوا مصعدين في طريق وعرة مدرجة ضيقة قد التوت حول الجبل، كأنما كانت تريد أن تأخذه أخذ السوار للمعصم. وكانت عن يمينهم - وهم يمضون في هذه الطريق الضيقة بطاء ثقالا متعثرين - هوة عميقة سحيقة ملتوية التواء الطريق نفسها، يتدفق في قرارها سيل عنيف غزير له هدير يملأ الجو صخبا وضوضاء، حتى لا يكاد الإنسان يسمع صوت صاحبه إلا في شيء من الجهد والعناء. وكان على السفحين عن يمين القوم وشمالهم شجر كثيف ملتف، متصل صفيق الظل، قد علق في السفحين تعليقا، وقام بعضه من فوق بعض حتى لا يكاد البصر يبلغ أعلاه، كما لا يكاد البصر يبلغ آخره طولا، وقد امتدت أغصانه من هنا ومن هناك، وتكاثف بعضها فوق بعض حتى التقت وتناصت كما كان يقول القدماء، أو اعتنقت كما يحب أن يقول المحدثون، وانعقدت من هذه الأغصان الملتقية الملتوية، سقوف ضخام لا تنفذ من أثنائها أشعة الشمس إلا في مشقة وعناء.
Bog aan la aqoon