وكنت أنجح أحيانا فأخفف من هذا الإلحاح، وأقلل من هذا التتبع، وأظهر كأني معرضة عنه بعض الإعراض. ولكنه كان يلحظ ذلك في سرعة وينبهني إليه في خفة، ويظهر الألم لإعراضي عنه والتبرم بتقصيري في ذاته، فأعود إلى أكثر مما كنت فيه من عناية ورعاية، ومن ترقب وتتبع، وينعم هو بهذا الحب الملح وبهذا السيل الجارف الذي يندفع، فلا يكاد يبقي على شيء. وكان يقول لي إنه يجد اللذة كل اللذة والنعيم كل النعيم في أن يغمره هذا الحب حتى يغرقه، وأحب شيء إليه أن يؤذيه الحب، وأن يشق عليه، وأن يعذبه في جسمه ونفسه، وكنت أسأل نفسي عن مصدر هذا الهيام الطارئ والشغف الجديد، فلا أجد لسؤالي جوابا.
وربما عللت ذلك بما كان من افتراقنا أسابيع، وربما أعدت على نفسي ما قرأت في غير كتاب: إن من الخير للعاشقين أن يفترقا بين حين وحين، ذلك أجدى على حبهما وأحرى أن يجدد منه ما بلي ويقوي منه ما ضعف. ولكنا لم نفترق لأول مرة وقد افترقنا في العام الماضي والعام الذي قبله، فلم نجد من الحب والكلف والهيام مثل ما نجد الآن.
أف للشيطان! إنه لقريب من الإنسان دائما، وإنه لنافذ البصيرة قوي الحجة بالغ الأثر في النفوس. ها هو ذا يدنو مني خفيفا متلطفا، قبيح المنظر مع ذلك سمج المحضر. ويقول لي في غير صوت مسموع، ولا لفظ مبين، لا تعجلي بالرضا ولا تسرعي إلى الأمن، ولا تنسي أنك مدينة بهذه النعمة لصديق غائبة تطوف في الشرق القريب أو الشرق البعيد. اذكري لورنس فهي التي سافرت، فأخلت لك قلب زوجك الضعيف، ولو أنها بقيت، ولو أنها عادت؛ لكان لك شأن غير هذا الشأن، ولاضطربت في قلبك عواطف غير العواطف التي تضطرب فيه.
ثم ينصرف الشيطان خفيفا متلطفا وقد ترك أمامي في الهواء صورة لورنس يشيع في وجهها ابتسام غريب.
واحسرتاه! أحق هذا؟ أحق أني مدينة بهذه السعادة الطارئة لهذه الصديق الشقية، التي تطوف في الشرق القريب أو البعيد.
ليتني أعرف أين هي، ليتني أستطيع أن أكتب إليها، إذن لتحديت هذا الشيطان، ولدعوتها وألححت في دعائها لأعلم أعاد مكسيم إلى حبي لأنه ما زال يحبني، أم عاد مكسيم إلى حبي ليتسلى به عن غيبة لورنس؟
17
كذب الشيطان، وصدق وحي الضمير. لست مدينة بهذا الحب المجدد لغيبة لورنس، وإنما هي عواطف فترت وقتا ثم استأنفت النشاط، وإنما هو حبنا القديم قد عاد سيرته الأولى بعد أن اعترضته مصاعب لم تلبث أن أزيلت، وعقاب لم تلبث أن ذللت. وقد كانت لورنس إحدى هذه المصاعب والعقاب، فقد ذهبت لورنس وخلا لي بذهابها وجه مكسيم. وكانت طفولة الصبي إحدى هذه المصاعب والعقاب، فقد نما الصبي وربا وأصبح يستيطع أن يشغل نفسه من جهة، وأصبحت أستطيع أن آمن عليه المربية والخادم من جهة أخرى، واسترددت كثيرا من الوقت والجهد اللذين كنت أنفقهما في تنشيئه والقيام عليه، ورددت هذا الوقت والجهد إلى مكسيم صاحب الحق الطبيعي فيهما.
فرغت له وفرغ لي فاستأنفنا حياتنا كما كنا نحياها في أول عهدنا بالزواج. ومالي أسأل نفسي عما عسى أن يكون لو عادت لورنس ولا أسألها عما عسى أن يكون لو أتيح لي طفل آخر؟! لقد كنت غافلة ثم تنبهت، وكنت جاهلة ثم علمت، فتستطيع لورنس أن تعود أو لا تعود، فقد عرفت كيف أحوط زوجي وأحمي قلبه، وأرد عنه عاديات الحب من لورنس أو من غيرها. وما أشك في أن نفسي راغبة أشد الرغبة في ألا نقف عند هذا الصبي الوحيد، وفي أن نمنحه أخا أو أختا.
ولكني لست متعجلة وقد أستطيع أن أنعم بالفراغ لزوجي عاما أو عامين، وقد أتيح لنا من حسن الحال وسعة العيش ما يمكننا من أن نربي طفلنا الجديد، إن أقبل، على غير ما ربينا عليه أخاه، فلا أمنحه وقتي كله وجهدي كله، ولا أنصرف إليه عن زوجي ولا أنصرف إليه عن حقي في الحياة، فلأرد عن نفسي كل هذه الخواطر المظلمة، ولأستقبل الحياة راضية باسمة ولأنعم بما تحمل إلي من أسباب الأمن والنعيم، ولأغلق دون الشيطان باب قلبي وسمعي؛ فإنه لا يوسوس إلا بالشر ولا يلقي في النفوس إلا اليأس والقنوط.
Bog aan la aqoon