عدنا إلى هذه الغرفة التي تعارفنا فيها، ولو أنك تمثلت لي الآن شخصا لضممتك إلي ولمنحتك قبلة تصور فرحي بلقائك في هذا المكان الأمين الوفي، أشبه بهذه القبل التي أمنحها لأعضاء الأسرة حين ألقاهم في هذه الدار، بعد أن تطول الغيبة ويبعد الأمد ويشتد الشوق.
لست أدري، أتفهم عني؟ بل لست أدري أيفهم الناس عني إن تحدثت إليهم بأني أجد القبلة التي أتلقاها من أمي وأبي، وأضع في القبلة التي أمنحها لأمي وأبي في هذه الدار حرارة لا أجدها، ولا أضعها فيما أتلقى منهما وما أمنحهما من القبل في مكان آخر؟ إن نفوسنا لغريبة الأطوار، وإنها لشديدة التأثر بما يكتنفها من الظروف، وما يحيط بها من الزمان والمكان.
لقد حاولت منذ أيام أن أتحدث إليك بدخيلة نفسي، وأن أفضي إليك بهذه الآلام التي أخذت أحسها منذ حين، وبهذا الشقاء الذي أخذ يسعى إلي شيئا فشيئا، فلم أجد من نفسي نشاطا لذلك، ولا قدرة عليه، وإنما جعلت أدور حوله ولا أتعمقه، كأن شيئا كان يصدني عنه صدا ويصرفني عنه صرفا.
وكأن هذا الشيء لم يكن إلا تلك البيئة التي كنا فيها، فإنها لم تكن بيئة شكاة وتبسط في الإفضاء بالسر والتخفف من الحياء. كنت أنظر إلى غرفتي تلك فأشعر أني طارئة عليها لا ناشئة فيها، فأستحي منها وأستحي مما فيها من الأدوات والأثاث أن تظهر على مكنون سري أو دخيلة أمري؛ لأني كنت أراها غريبة لم تظفر مني بعد بهذه الثقة التي تبيح إذاعة السر والإفضاء بدخائل النفوس. ومع ذلك فقد ظهرت تلك الغرفة على كثير من أسرار نفسي ودخائل أمري، حين كنت أسعد بالحب، وأنعم بتلك الحياة الرائعة في غير تحفظ ولا تحرج ولا احتياط. لقد ائتمنتها على حبي وسعادتي وأظهرتها على فرحي ومرحي واغتباطي بالحياة.
ولكني لا أخفي عليك. كنت أحس شيئا من الحياء دائما، مهما خرجت بي السعادة عن طور الوقار والأناة، ولا أخفي عليك أني لم أنس بعد ما أحسست من الألم اللاذع حين تمنيت شيئا فلم أظفر به ولم أقدر عليه، فقد كنت أحب أن أعرف زوجي وأواجه حبي في هذه الغرفة التي عرفت صباي وشبابي، والتي ألفتني وألفتها، لا في تلك الغرفة الغريبة من ذلك الفندق الغريب في مدينة البندقية، ولا في تلك الغرفة الغريبة من تلك الدار الغريبة التي أقمت فيها مع زوجي في المدينة، ولكن ذلك لم يتح لي؛ لأن تقاليد الناس وأوضاعهم تريد أن يتعارف الزوجان في الغربة، وأن تبتدئ سعادة الحياة الزوجية في أماكن ليست بينها وبينهما صلات أو عهود.
ولست أخفي عليك أيضا أني لم أستطع أن أبثك حزني وألمي في تلك الغرفة من دار زوجي؛ لأنها قد عرفتني سعيدة مغتبطة فلم تعرف من نفسي إلا هذه الناحية، ووجدت المشقة كل المشقة والجهد كل الجهد في أن أظهرها من نفسي على الناحية الحزينة المبتئسة. بخلت بها على ذلك، وبخلت بذلك عليها، آثرتها بمظاهر السعادة والغبطة، وآثرت نفسي بحقائق الحزن والشقاء.
ما أشد ما أخدع نفسي وأعبث بها! وهل حياتنا إلا خداع وعبث؟ لقد رأتني تلك الغرفة سعيدة ناعمة البال، ولكنها رأتني مؤرقة مفرقة النفس، رأتني كئيبا ورأت دموعي تنهل وسمعتني أمانع صوتي أن يجهش بالبكاء، ورأتني أكظم الغيظ وأحبس الغضب في نفسي أن ينفجر، وأرد نفسي بالعنف عن الثورة العنيفة، وأكرهها على الصبر والاحتمال، وأكلف ثغري الابتسام ووجهي الإشراق، وإن قلبي ليدمى وإن في نفسي لكلوما لا تؤسى.
وأرفع رأسي عزيزا أبيا، وإن في نفسي لذلة وانكسارا. وأنا مع ذلك أزعم أني قد أخفيت على تلك الغرفة أسرار حزني وشقائي، لا لشيء إلا لأني لم أتحدث بهذه الأسرار جهرة، ولم أصورها في الألفاظ والجمل، كأن تلك الغرفة في حاجة إلى الألفاظ والجمل لتعرف هذا الشقاء الذي نشأ فيها منذ حين يسيرا ضئيلا، ثم أخذ ينمو ويشع حتى كاد يستأثر بها استئثارا.
إن نفسي لغريبة الأطوار، وإني لأجد بينها وبين نفوس الأطفال شبها قويا، فأنا كالأطفال أفيض الحياة على الأشياء الجامدة من حولي، وأشيع فيها العقل والحس والشعور ويخيل إلي أنها تراني، وتلحظني وتسمع مني وتفهم عني. ثم أتحدث إليها وأنتظر منها رجع الحديث كما يتحدث الأطفال إلى لعبهم، وكما ينتظرون منها رجع الحديث.
وماذا أصنع الآن؟ إنما أفيض عليك، أيها الدفتر العزيز، حياة وأشيع فيك حسا وعقلا وشعورا، وأشكو إليك وأنتظر منك العزاء. لا أتكلف ذلك تكلف الأديب، ولكني أجد في ذلك جد الطفل؛ ذلك لأني ضعيفة عاجزة وحيدة، لا أستطيع أن أتحدث إلى الناس بما أتحدث به إليك؛ لأن الذين أنتظر منهم المعونة والعزاء لا يحتملون هذا الحديث، ولا يقدرون لي على شيء، بل لا يقدرون لأنفسهم على شيء، ولأني فقدت الثقة بغيرهم من الناس، وكيف أستطيع أن أثق بالغريب وقد وجدت الخيانة من الغريب؟ وكيف أستطيع أن أشكو إلى هذا الصديق أو ذاك وأنتظر منه تعزية أو تسلية أو نصحا أو إخلاصا، وقد التمست النصح والإخلاص عند أحب الناس إلي وأكرمهم علي، وعند أشد الناس لي حبا وأعظمهم لي إيثارا فلم أجد منه إلا خيانة وغدرا؟
Bog aan la aqoon