How the Tatars Entered Muslim Lands
كيف دخل التتر بلاد المسلمين
Daabacaha
دار طيبة
Lambarka Daabacaadda
الثالثة ١٤٢٢هـ
Sanadka Daabacaadda
٢٠٠١م
Noocyada
مقدمة
...
بين يدي البحث
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
وبعد:
فإن دراسة التاريخ لا ينبغي أن تكون ميدانا للسلوة وتزجية الفراغ، ومهما فصل عامل الزمن بين الحدث والحديث فالفرصة قائمة لأخذ الدرس والعبرة.
وعلى دارسي التاريخ بشكل عام، والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص أن يتجاوزوا سرد الحدث والإكتفاء بإحصاء القتلى أو الجرحى لهذا الحدث أو ذاك، ويغوصوا في العمق باحثين عن الأسباب ومنتهين إلى نتائج تجعل دارسة الماضي سلّمًا للنجاة بإذن الله في الحاضر والمستقبل.
إن فقه المرويات، وعبر الحوادث، وتحليل الوقائع هدف كبيرٌ من أهداف دراسة التاريخ وبدونه تصبح الدارسة التاريخية تجميعا لا يسمن ولا يغني من جوع.
1 / 5
وإذ أخذ المتقدمون على عاتقهم رصد الحدث بمروياته المختلفة ورسموا الصورة بشكلها الإجمالي، ولم يسعفهم الوقت أو لم يكن في منهجيتهم تحليل هذه الرواية أو الحكم على تلك؛ فإن على المتأخرين استكمال هذا الجهد وسد هذا النقص، والخروج بنتائج تجعل من الحدث في الماضي عبرة للحاضر، ومؤشرا لاستصلاح المستقبل بإذن الله.
ودخول التتر في بلاد المسلمين نموذج لهذه الأحداث التاريخية التي تحتاج إلى جلاء على الرغم مما كتب فيها، وأرجو أن يكون منهجي في هذه الدراسة التحليلية نموذجا لما أصبو إليه وما يتطلع إليه الدارسون في دراسة أحداث التاريخ الإسلامي.
ولست بمستغن عن أي ملاحظة تسدد نقصا هو من طبيعة عمل البشر، والشكر أقدمه سلفا لكل من ساهم بملاحظة مفيدة أو لم يبخل علي بدعوة بظهر الغيب صادقة، أصلح الله أحوال المسلمين ووقاهم الشرور والفتن وصلى الله على سيدنا محمد.
الباحث
1 / 6
توطئة
كانت فاجعة "التتار"، وهمجية "المغول" من أعظم ما بلي به المسلمون. ولعل الذين عاشوا محنتها كانوا يظنون فيها نهاية للإسلام والمسلمين.
وعلى الرغم من هذه المحنة وما سبقها من محن أو تلاها فقد بقي الإسلام كالطود الشامخ؛ تحطمت على صخراته الصماء مكائد الماكرين، وظهرت معجزة الإسلام حين عاد بعثه من جديد في الأجيال اللاحقة من أبناء المسلمين، بل لقد دخل في الإسلام طائفة من هؤلاء بعد أن كانوا من الرعاع المتوحشين.
لقد أحجم – في البداية – العلماء المعاصرون عن الكتابة عن محنة التتار لهول الفاجعة، فبقي "ابن الأثير" ت ٦٣٠هـ عدة سنين معرضا عن ذكرها استعظاما لها، وهو القائل: "فيا ليت أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا"١.
ويقول أيضا: "فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله ﷾ أدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها"٢.
_________
١ ابن الأثير: الكامل ١٢/٣٥٨.
٢ الكامل ١٢/٣٥٨.
1 / 7
وهي عنده أعظم من فتنة الدجال١، بل لقد اقسم أن من سيجئ بعدها سينكرها وحق له ذلك: "وتالله لا شك أن من يجئ بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده ... ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي ﷺ إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن"٢.
هذا الوصف كله من ابن الأثير وهو لم يشهد فاجعتهم الكبرى بسقوط بغداد سنة ٦٥٦هـ وقتل الخليفة العباسي وسفك دماء المسلمين، وهي فاجعة تضاهي ما سبقها بل تزيد، ويمكن القول إنها فتن يرقق بعضها بعضها – وسيتضح – حين الحديث عنها – حجم مآسيها وضخامة أحداثها.
كما أن ابن الأثير لم يشهد كذلك أحداث التتر في نهاية القرن السابع الهجري ٦٩٩هـ حين عبروا الفرات إلى بلاد الشام وما حولها، وما حصل للمسلمين في هذه الفترة من البلاء والمحن، حتى أذن الله بزوال هذه المحنة وكشف الله عن المسلمين هذه الغمة. وهي فتنة بليت فيها السرائر وانقسم الناس فيها فرقا شتى، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية –وهو شاهد عيان– في وصف الحدث وهوله، وموقف الناس بإزائه فقال: "فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه
_________
١ الكامل ١٢/٣٥٩.
٢ المصدر نفسه ١٢/٣٧٦،٣٧٥.
1 / 8
في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يُجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين بإستيلاء الفجرة التتار. وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يُغيث اللهفان. ومّيز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى.
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه، وإذ كان لك امرئ منهم شأن يغنيه. وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه؛
1 / 9
لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرضه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال. وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع. وهم درجات عند الله في المنفعة الدفاع. ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر. وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر. وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال بخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المآل. وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا.
كما حمد ربه من صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون. وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة؛ حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.
وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور. وكان هذا الإمتحان تمييزا من الله وتقسيما؛ ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب:٢٤] ١.
_________
١ انظر الفتاوى ٢٨/٣٢٨، ٣٢٧.
1 / 10
كما كان دقيقا في وصف أحوال المسلمين ومواقفهم حين غزى التتر بلاد الشام فقال: "وهكذا هذا العام١ جاء العدو من ناحيتي علو الشام وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغا عظيما وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بإنصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق. وظن الناس بالله الطنونا،؛ هذا يظن أنه لا يقف أمامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام. وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر. وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام. وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف أمامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها. وهذا – إذا أحسن ظنه – قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين. ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام؛ وهذا ظن خيارهم. وهذا يظن أن من أخبره به أهل الآثار النبوية؛ وأهل التحديث والبشارات أماني كاذبة، وخرافات لاغية. وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب؛ ليس له عقل يتفهم، ولا لسان يتكلم. وهذا قد تعارضت
_________
١ يعني سنة تسع وتسعين وستمائة للهجرة. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ٢٨/٤١٠.
1 / 11
عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية.
فلذلك استولت الخيرة على من كان متسما بالإهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ [الأحزاب:١١] .١
أما المنافقون فلهم شأن آخر، ولهم موقف لا يختلف كثيرا عن مواقف أسلافهم في غزوة الأحزاب حين ابتلي المؤمنون وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا٢. وكانوا شيعا؛ فمنهم من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم فينبغي الدخول في دولة التتر، وقالت بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الإستسلام لهؤلاء كما قد استسلم لهم أهل العراق والدخول
_________
١ الفتاوى ٢٨/٤٤٧،٤٤٦.
٢ في صفحات عدة قارن ابن تيمية بين حادثة التتر وموقف الناس منها وغزوة الأحزاب وموقف المؤمنين والمنافقين منها. انظر الفتاوى ٢٨/٤٦٤ -٤٤٠.
1 / 12
تحت حكمهم١.
هذه الحادثة لهولها وشدتها وكثرة أحداثها وترابطها لا يمكن أن نأتي عليها بجملتها أو نفصل القول في كل حدث من أحداثها – فذلك ميدانه الكتب المختصصة- ولكن البحث سيتجه إلى بيان العوامل الظاهرة أو الخفية في دخول التتر بلاد المسلمين، شاملا في ذلك أصل التتر ومعتقدهم والبواعث الأولى لدخولهم ونماذج للمآسي التي خلفوها في البلاد المسلمة، ومركزا الحديث أكثر في عوامل دخلوهم "بغداد" حاضرة العالم الإسلامي والتي انتهت بقتل الخليفة وإسقاط الخلافة العباسية.
ولعل الدارسة تكشف عن أدوار خفية لا تكفي كتب التاريخ المتخصصة وحدها في كشف رموزها وتفصيل مواقف أصحابها، وهذا يعني الإستفادة من كتب السير والتراجم والكتب المعينة بالعقائد والأديان أو الفرق والملل والنحل، فتلك حرية بكشف أدوار أصحاب العقائد ولا سيما الرافضة – موضع التركيز في هذه الدارسة -.
_________
١ انظر الفتاوى ٢٨/٤٥١، ٤٥٠.
1 / 13
أولا: أصل التتر وعقيدتهم:
هذه الأمة "التترية" خرجوا من أراضيهم بادية الصين وراء بلاد تركستان١، وأصولهم تركية، بل هم من أكثر الترك عددا٢.
وأول ملوكهم "جنكز خان"، وهو سلطانهم الأول، وليس للتتر، ذكر قبله، إنما كانت طوائف المغول بادية بأراضي الصين فقدموه عليهم.. وأول مظهره كان في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، هكذا ذكر الذهبي٣.
أما ابن الأثير فهو وإن لم يذكر التتر إلا في سنة ٦٠٤هـ، فقد تحدث عن التتر الأولى وملكهم "كشكي خان"، وأن هؤلاء خرجوا من بلادهم حدود الصين قديما ونزلوا بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب٤.
وتحدث عن التتر الآخرة وملكهم "جنكز خان" النهرجي، وأنهم خرجوا على التتر الأولى فانشغلوا بهم عن غيرهم٥.
_________
١ سير أعلام النبلاء ٢٢/٢٢٥.
٢ الكامل لابن الأثير ١٢/٣٥٩.
٣ سير أعلام النبلاء ٢٢/٢٤٣ – وذكر في موضع آخر أن أول ظهور التتر كان سنة ٦٠٦هـ، السير ٢٢/٢٢٥
٤ انظر: الكامل ١٢/٢٦٩، ٢٧٠، ٢٧١، وسيأتي تفصيل شيء من ذلك.
٥ المصدر السابق ١٢/٢٧١.
1 / 14
ولم يغفل ذلك الذهبي بل نقل في أحداث سنة ٦٠٦هـ محاربة ملوكهم للخطا، وأن رأسهم يدعى "كشلوخان" حتى خرج عليه "جنكز خان" فتحاربوا مدة وظفر جنكز خان وانفرد ودانت له قبائل المغول١.
فهل ذلك نوع من التضارب في منقولات الذهبي، أم أنه أراد بخروجهم على يد جنكيز خان أنه بداية سماع المسلمين بهم، أو قصد أنه أول ملوك التتر الأقوياء الذين كان لهم أثر في تاريخهم وتنظيم حياتهم، لا سيما وقد ذكر الذهبي أن "جنكيز خان" هو أول من وضع لهم "ياسة" – أي شريعة- يتمسكون بها٢.
قصد التتر العالم من حولهم ووقعت لهم مصافات وحروب، تفوقوا على غيرهم في الغالب منها، وكانوا يُرهبون عدوهم لشدتهم وشجاعتهم وكثرتهم، وقد جود الموفق البغدادي وصفهم – كما قال الذهبي- حين قال: "حديثهم حديث يأكل الأحاديث، وخبر ينسي التواريخ، ونازلة تطبق الأرض"؛ هذه الأمة لغتها مشوبة بلغة الهند لمجاورتهم، عراض الوجوه، واسعو الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، إلى أن يقول: وهذه القبيلة الخبيثة تعرف بالتمرجي سكان
_________
١ السير ٢٢/٢٢٥، ٢٢٦، ٢٢٧.
٢ السير: ٢٢/٢٢٨.
1 / 15
براري قاطع الصين ومشتاهم بأرغون١.
أما عن عقيدة التتر وعوائدهم فيقول عنها ابن الأثير: "وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه"٢.
ويرى ابن تيمية أن التتر خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه٣.
وهو لا ينفي وجود من ينتسب إلى الإسلام من عسكرهم، ويثبت كذلك أن عندهم من الإسلام بعضه، ويفصل القول في معتقدهم وعوائدهم وقربهم أو بعدهم من الإسلام فيقول: "هؤلاء القوم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام – وهو جمهور العسكر- ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يصلي إلا قليل جدا، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من
_________
١ سير أعلام النبلاء ٢٢/٢٢٧.
٢ الكامل ١٢/٣٦٠.
٣ الفتاوى ٢٨/٥٠٣، ٥٠٤.
1 / 16
غيره.. وعندهم من الإسلام بعضه، وهم متفاوتون فيه لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها؛ فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه، بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه، وإن كان كافرا عدوا لله ورسوله، وكل من خرج على دولتهم استحلوا قتله وإن كان من خيرا المسلمين.. ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك ... وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك، ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى ... "١.
_________
١ انظر: الفتاوى ٢٨/٥٠٤، ٥٠٥، ولمزيد التفصيل في الموضوع يمكن الرجوع لما كتبه د. سعد الغامدي في كتابه: المغول بيئتهم الطبيعية وحياتهم الإجتماعية والدينية من ص ١٢١ – ١٥٨.
ثانيا: البواعث الأولى مدخل ... ثانيا: البواعث الأولى: تستلزم الدراسة مقدمات مهمة تكشف البواعث الاولى لدخول التتر بلاد المسلمين، وتوضح بداية احتكاكهم وطبيعة علاقتهم مع بعض الدول المستقلة عن الخلاقة العباسية – كالدولة الخوارزمية- ومع ملوك الدول الأخرى- كملوك الخطا- وكيف قادت هذه البداية إلى وصول بغداد وإسقاط الخلافة العباسية.
ثانيا: البواعث الأولى مدخل ... ثانيا: البواعث الأولى: تستلزم الدراسة مقدمات مهمة تكشف البواعث الاولى لدخول التتر بلاد المسلمين، وتوضح بداية احتكاكهم وطبيعة علاقتهم مع بعض الدول المستقلة عن الخلاقة العباسية – كالدولة الخوارزمية- ومع ملوك الدول الأخرى- كملوك الخطا- وكيف قادت هذه البداية إلى وصول بغداد وإسقاط الخلافة العباسية.
1 / 17
١- بين الخوارزميين وملوك الخطا:
وتبدأ أحداث الخوارزم شاه مع الخطا منذ أن حاربهم أرسلان ابن أتسز بن محمد بن نوشتكن، وتوفي سنة ٥٦٨هـ١.
ثم تلاه ابنه علاء الدين تكش بن أتسز الذي تملك بخارى وأخذها من صاحب الخطا بعد حروب عظيمة، ثم توفي سنة ٥٩٦هـ٢.
كما نقل عنه الذهبي أنه تملك الدنيا من السند والهند وما وراء النهر إلى خراسان، وهو الذي أزال دولة السلاجقة ٣.
ثم جاء بعده ابنه محمد الذي قصد الخطا سنة أربع وستمائة في جيش عظيم فالتقوا وتمت بينهم مصافات، ثم وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل خلق وأسر السلطان محمد وأمير من أمرائه، ولم يخرج من الأسر إلا بحيلة وعاد إلى خوارزم٤.
وفي سنة ٦٠٦هـ عبر خوارزم شاه محمد جيحون بجيوشه فالتقاه طاغية الخطا طاينكو فانهزمت الخطا وأسر ملكهم وهزموا
_________
١ سير أعلام النبلاء: ٢٠/٣٢٣.
٢ المصدر السابق: ٢٢/٢١٨، ٢١٩.
٣ المصدر السابق: ٢١/٣٣١.
٤ المصدر السابق: ٢٢/ ٢٢٤.
1 / 18
هزيمة منكرة، وقتل منهم وأسر خلق لا يحصى، وعلى أثرها تملك خوارزم شاه بلاد ما وراء النهر مدينة مدينة ناحية ناحية١.
أما ملوك الخطا هؤلاء فهم قوم كفار، وقد طالت أيامهم في بلاد تركستان وما وراء النهر وثقلت وطأتهم على أهلها حتى ضاق المسلمون ذرعا بهم وكتب سلطان سمرقند وبخارى- وكان كما ذكر ابن الأثير: عريق النسب في الإسلام والملك- يقول الخوارزم شاه: إن الله ﷿ قد أوجب عليك بما أعطاك من سعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، وتخلصهم مما يجري عليهم من التحكم في الأموال والأبشار، ونحن نتفق معك على محاربة الخطا، ونحمل إليك ما نحمله إليهم، ونذكر اسمك في الخطبة والسكة. فأجابه محمد بن خوارزم شاه وعبر إليه نهر جيحون ووقعت المعركة كما سبق٢.
_________
١ الكامل لابن الأثير ١٢/ ٢٦٧.
٢ الكامل ١٢/٢٥٩.
٢- بين ملوك الخطا والتتر: استفاد التتر من كسر الخوارزميين لملوك الخطا وتقووا بكسر خوارزم شاه لهم، ووقعت بينهم حروب، وكان رأس التتر حينها يدعى "كشلوخان" فكتب ملك الخطا إلى خوارزم شاه يخوفه بالخطر
٢- بين ملوك الخطا والتتر: استفاد التتر من كسر الخوارزميين لملوك الخطا وتقووا بكسر خوارزم شاه لهم، ووقعت بينهم حروب، وكان رأس التتر حينها يدعى "كشلوخان" فكتب ملك الخطا إلى خوارزم شاه يخوفه بالخطر
1 / 19
الجديد ويطلب إليه أن يتعاون معه في كسر التتر ويقول: "ما جرى بيننا مغفور؛ فقد أتانا عدو صعب فإن نصر علينا فلا دافع لهم عنك والمصلحة أن تنجدنا". فكتب إليه "خورزم شاه" ما يفيد بموافقته، وأنه قادم لنصرته، وكتب لـ"كشلوخان" التتري رسالة أخرى قال فيها: إنني قادم وأنا معك على الخطا – قال الذهبي: وكان بئس الرأي١ - فالتقى الجمعان ونزل خوارزم شاه بإزائهما يوهم كلا من الفريقين أنه معه وأنه كمين له، فوقعت الكسرة على الخطا، فمال خوارزم شاه حينئذ معينا لكشلوخان، واستمر القتل بالخطا، وانضم منهم خلق إلى خوارزم شاه، وخضع له كشلوخان وقال: نتقاسم مملكة الخطا، فقال خوارزم شاه بل البلاد لي وسار لحربه، ثم تبين له قوة التتار فأخذ يراوغهم، فبعث إليه كشلوخان يقول: ما هذا فعل ملك؛ ذا فعل اللصوص، فإن كنت ملكًا فاعمل مصافًا بيننا فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي، وإما أن أفعل أنا بك ذلك، فلم يجبه خوارزم شاه إلى ما طلب٢.
_________
١ انظر: سير أعلام النبلاء ٢٢/٢٢٥، ٢٢٦، وقال ابن كثير: ولم يكن ما فعله خوارزم شاه فعلا جيدا. البداية والنهاية ١٣/٨٠.
٢ انظر: الكامل لابن الأثير: ١٢/٢٧٠، ٢٧١.
٣- بين الخوارزميين والتتار: خرج على ملك التتر الأول "كشلوخان" تتر آخرون بزعامة
٣- بين الخوارزميين والتتار: خرج على ملك التتر الأول "كشلوخان" تتر آخرون بزعامة
1 / 20
"جنكز خان" النهرجي، فانشغل بهم كشلي خان وتحاربوا مدة وظفر "جنكز خان" وطغى وتمرد وأباد البلاد والعباد، وأخذ أقاليم الخطا، ودانت له قبائل المغول بعد أن ظفر جنكز خان بابن كشلوخان ولم يكن له معه كبير أمر١.
أما أول مصاف كان بين خوارزم شاه وجنكز خان فقد كان بقيادة ابن جنكز خان دوشي خان سنة ٦٠٦هـ هكذا ساقها الذهبي ضمن أحداث هذه السنة وإن لم يصرح به، وعلى الرغم من انتصار خوارزم شاه في هذه المعركة إلا أنه عاد مهموما قلقا لما رآه من قوة هذا العدو وكثرتهم وشجاعتهم٢.
ولذلك خطر ببال خوارزم شاه أن يكتشف التتار بنفسه فدخل فيهم هو وثلاثة معهم متسترين بزي التتر، فقبض عليهم وقتل اثنان منهم وفر خوارزم وآخر معه في الليل، وذلك سنة ٦١٥هـ٣.
أ_ دور الخوارزميين في دخول التتر بلاد المسلمين:
قويت شوكة خوارزم شاه وتملك سنة ٦١١هـ كرمان ومكران والسند وخطب له بهرمز وهلوات، وكان يصيف بسمرقند، وإذا قصد بلدا سبق خبره.
_________
١ الكامل ١٢/٢٧١، سير أعلام النبلاء ٢٢/٢٢٦، ٢٢٨.
٢ سير أعلام النبلاء: ٢٢/٢٢٨.
٣ المصدر السابق نفسه ٢٢/٢٢٩.
1 / 21
وفي العام الذي يليه توثب خوارزم شاه على "غزنه" فتملكها، وهزم صاحب الروم كيكاوس الفرنج وأخذ منهم "أنطاكية".
ثم قصد بغداد واستعد له "الناصر" ولكن الله صرفه عن بغداد١.
أما الحادثة المهمة في هذا السياق والتي كانت بداية غزو التتار فهي حين أحس جنكز خان بقوة خوارزم شاه وسعة ملكه، وبعث إليه رسولا يطلب الهدنة معه لإعمار البلاد وإصلاح الإقتصاد ويقول: إنه ما يخفى عليّ عظم سلطانك، وأنت كأعز أولادي، وأنا بيدي ممالك الصين فاعقد بيننا المودة، وتأذن للتجار وتنعمر البلاد، فأجاب خوارزم شاه إلى الصلح – بعد أن عرف من الرسول سعة ملك جنكز خان – فأعجب ذلك جنكز خان ومشى الحال٢.
لكن هل استمرت الهدنة؟ وكيف نقضت؟ وما أثر هذا النقض في دخول التتر بلاد المسلمين؟ هذه أسئلة مهمة؛ والإجابة عليها تكشف لك البواعث الأولى لمجيء جحافل المغول ودخول التتر بلاد المسلمين.
ذكر ابن الأثير – وهو من أقرب المصادر لهذه الفترة ٣ – أن
_________
١ سير أعلام النبلاء: ٢٢/٢٢٩ – ٢٣١.
٢ المصدر السابق: ٢٢/٢٣٣.
٣ وقد امتدح ابن كثير عرضه لأحداث التتر وحسنه: البداية والنهاية ١٣/٨٣، ٨٤.
1 / 22
جنكز خان سير جماعة من التجار والأتراك ومعه شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى بلاد ما وراء النهر: سمرقند وبخارى ليشتروا له ثيابا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى "أوترار" وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب١ هناك فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه، فقتلهم، وسير ما معهم وكان شيئا كثيرا، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تجار بخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم، فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكز خان أرسل جواسيس إلى جنكز خان لينظر ما هو؟ وكم مقدار ما معه من الترك؟ وما يريد أن يعمل؟
فمضى الجواسيس، وسلكوا المفازة والجبال حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم، وأنهم يخرجون عن الإحصاء، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم٢.
_________
١ هو خال خوارزم شاه كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢٢/٢٣٣.
٢ الكامل ١٢/٣٦١، ٣٦٢، وسير أعلام النبلاء ٢٢/٢٣٣ مع اختلاف عنده في قتل الرسل إذ يذكر أن خال خوارزم ومتولي ما وراء النهر شرهت نفسه إلى أخذ أموال هؤلاء التجار والقبض عليهم وهو يظن أنهم =
1 / 23
ب- ندم خوارزم شاه ومشورته:
وعلى الرغم من تجلد خوارزم شاه وفعلته فقد ندم على ما صنع، وأصابه همٌّ وغمٌّ وتحفز استشار لأجله من حوله من العلماء والأمراء.
فقد أحضر الشهاب الخيوفي – وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده، لا يخالف ما يشير به – فحضر عنده فقال له: قد حدث أمر عظيم ولا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله؛ وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى، فقال له: في عساكرك كثرة وتكاتب الأطراف، وتجمع العساكر، ويكون النفير عاما، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس، ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب "سيحون" – وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام – فنكون هناك فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيدة لقيناه ونحن مستريحون وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب.
وجمع خوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة فاستشارهم فلم يوافقوه على رأيه، بل قالوا: الرأي أن تتركهم يعبرون "سيحون"
_________
= جواسيس للتتار، وأن رسول جنكز خان جاء إلى خوارزم شاه وقال له: إنك أمنت تجارنا والغدر قبيح، فإن قلت فعله خالى فسلمه إلينا وإلا سترى مني ما تعرفني به، فحارث نفس خوارزم شاه وتجلد وأمر بقتل الرسل، فيا بئس ما صنع – كذا قال الذهبي في السير ٢٢/٢٣٣.
1 / 24