21
في اليوم السابع من شهر يونيو على قدميه، ثم لم يلبث أن ظهر بعد ذلك بقليل في مدينة شتوتجارت، ولفت الأنظار بملامحه المرتبكة وغضبه العارم وحالته التي تنم عن الجنون واليأس الفظيع. وفهم منه الناس أن اللصوص سطوا عليه في الطريق، أو أنه أصيب بضربة شمس وهو يخترق الجنوب الفرنسي الحار. ولكن الكارثة كانت قد بدأت بالفعل. «من الكفر والجنون أن يبحث المرء عن طريق مأمون من كل العثرات.» هكذا كتب قبل بداية رحلته الكبرى إلى صديقه بولندورف. ولقد قرأنا سطورا من هذه الرسالة ورأينا كيف تقمصته روح الشاعر العراف الذي انكشفت له حجب الغيب في لمحة خاطفة. فقد تحدث فيها عن الجنون والموت. ولكنه حديث المؤمن الذي يعتقد أن من الكفر وجحود النعمة أن يرفض السير على طريق حددته له السماء من قبل. إن عليه أن يقطع هذا الطريق مهما انتهى به إلى الجنون أو الموت. بل إنه يعلم أن الجنون والموت ينتظرانه في نهايته. ولكن لا مفر من السير عليه، لأن هذا هو واجب الطاعة والخضوع الذي لا يوجد واجب أسمى منه. ولقد كتب يقول أيضا في هذا الخطاب إنه قد تعود على الحياة الخشنة وأصبح مستعدا لما يأتي به المستقبل. فهل معنى هذا أنه استعد للحادث العظيم والكارثة المخيفة؟ لا بد أنه أحس بهذا؛ فحديثه عن الموت في هذه الرسالة، وقوله إن قلبه مفعم بالفراق ، يدلان على أنه كان ينتظر شيئا أكبر من طاقته وقدرته .. ولكنه انتظار الرضا والاستسلام .. لقد ظهرت عليه بوادر الجنون الذي تمكن منه بعد ذلك بأربع سنوات. وتفتتت شخصيته مزقا متناثرة، وفقدت الوسط والمركز والرباط الذي يوحد بينها. تكسرت سفينة العبقرية على صخرة اليأس والجنون، وتحولت إلى حطام لا يستطيع أن يحمل فكرة أو عاطفة. أما الموت فقد أخطأه في هذه المرة وأصاب حبيبته .. ولكن هل أخطأه حقا وهو الذي فني فيها واتحد كيانه بكيانها؟
ماتت «سوزيته جونتار» في نفس الوقت الذي فقد فيه هلدرلين عقله أو كاد. انتهى صراعها القصير مع السل في الثاني والعشرين من شهر يونيو سنة 1802م. وظهر هلدرلين قبل ذلك بحوالي أسبوعين «بملامح مرتبكة» في مدينة شتوتجارت .. هل كانت هناك صلة بين الحادثين؟ وهل يمكننا أن نربط بينهما كما نربط بين السبب والنتيجة؟ إن مأساة الموت أو مأساة الجنون أكبر من أن ننظر إليها هذه النظرة العلمية أو شبه العلمية. إنها سر من أسرار الحياة تعجز الأسباب والنتائج عن إدراك حقيقته. وكل ما نملك حياله هو أن نشعر بما فيه من عذاب الإنسان وجرحه وانكساره. وماذا عسى أن تفعل الحجج والأسباب أمام القلب الذبيح والعقل الجريح؟ ماذا يملك العلم أمام السر؟ «كنا زهرة واحدة لا غير .. عاشت روحانا في كيان واحد ...» هكذا يقول هلدرلين في روايته هيبريون. فهل يدهشنا بعد هذا أن يكون الموت قد أصابه حين أصاب حبيبته؟ وهل كان الجنون الذي بدأت نيرانه تلتهم عقله إلا نوعا من الموت؟ وهل هذا الذي جرى له ولحبيبته إلا تحقيق الرؤيا التي رآها قبل ذلك بشهور معدودة؟ .. كان هلدرلين قد اتحد بالفكر والروح والشعور بحبيبته إلى حد الفناء الذي يعرفه شهداء العشق في كل العصور. وكل كلام عن هذا الاتحاد يفسده ويفقده معناه. وكل شرح يصبح ثرثرة سخيفة من النوع الذي تفوق فيه عصرنا إلى حد مخيف. لا بد إذن أن نحس به. وليس أمامنا إلا أن نفعل ذلك إن استطعنا، فهذا هو السبيل الوحيد للشعور بعذاب الإنسان خلف قناع الموت أو الجنون. ويكفي أن إحساس هلدرلين بفنائه في شخصية حبيبته قد وصل إلى تلك الدرجة التي يصفها علماء النفس كما يصفها المتصوفون في آخر الطريق. ويكفي أن الشاعر سئل عن «ديوتيما» وهو في الواحد والسبعين من عمره (أي وهو في قمة جنونه وقبل موته بسنتين) فقال: لقد أصابها الجنون.»
كان لقاء هلدرلين بالموت من وحي إلهامه كشاعر وهب حياته للشعر وحده. وقد يبدو هذا شيئا بعيدا عن العلم قريبا من الخرافة، ولكن لا بد من التسليم به ونحن إزاء شاعر كبير مثله .. وفي كل شاعر كبير شيء من العراف القديم الذي يحس بالغيب ويتنبأ بالقدر.
ومع ذلك فهناك من يقول إن للصدفة دورا في هذا اللقاء. وهناك من مؤرخي حياته من يرجح أن يكون قد تلقى رسالة من سوزيته أثناء وجوده في «بوردو» تخبره فيها بمرضها الأخير، وتودعه وداع من يشعر أن الموت قريب منه. ولقد قال بهذا الرأي شقيقه من أمه «كارل جوك» الذي أرخ لحياته. ثم تشكك الدارسون في هذا الرأي بحجة أن سوزيته لم تمرض بداء السل إلا عشرة أيام قبل موتها. ثم تبين بعد ذلك للباحثين أنها قاست من هذا الداء شهورا طويلة. ومهما يكن الأمر في هذه المسألة فقد أبلغ هلدرلين بوفاة حبيبته في الأيام الأولى من شهر يوليو سنة 1802م على لسان صديقه «إسحاق فون سنكلير» الذي قال له في خطابه إليه: «إنني أبكي وأنا أكتب إليك بهذا النبأ ...»
عاش هلدرلين السنتين التاليتين في تمزق وانهيار. وبدأ الموت البطيء يفترس عقله وقلبه، وينخر هيكله المحطم قبل حلول الكارثة الفظيعة. ومع ذلك فقد أتيح له في أيام أو ساعات قليلة أن يجمع نفسه ويلم شتات عبقريته. واستطاع في هذه الأيام والساعات النادرة أن يكتب أغنياته الأخيرة أو على الأصح ما بقي منها من شذرات لم تتم.
والمتأمل لهذه الأغنيات والترانيم يكتشف أن علاقة الشاعر بالشعر قد تغيرت عما كانت عليه. كنت تحس في أشعاره السابقة بأنه متحكم في مادته وصوره وأفكاره وأنغامه، وأن هناك «ذاتا» تنظم وترتب وتبني. أما الآن فأنت تحس أن هذه الذات قد فقدت السيطرة على مادتها وأن الصور والأشكال والخواطر والأنغام تتحكم فيها وتستغلها أداة للتعبير عن نفسها، بدلا من أن تتحكم هي فيها وتعبر بها. لقد أصبح الشاعر موضوعا لها - إن جاز أن نستعير هذه الكلمة من لغة الفلسفة - كما أصبح موضوعا لقوى أخرى أكبر منه تعمل عملها على نول القدر والوجود:
لأن قوى هائلة
تتجول فوق الأرض،
ويهيمن قدرها
Bog aan la aqoon