الجاحظ، فالناقدان يشتركان في المذهب التوفيقي الذي يريد أن يجعل الجودة مقياسًا للشعر دون اعتبار للقدم والحداثة، وفي هذا الصدد يقول أبن قتيبة (١):
" ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلًا حظه، ووفرت عليه حقه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله، ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره وكل شرف خارجية في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن، حتى لقد هممت بروايته، ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد عنهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم. فكل من أتى بحسم من قول أو فعل ذكرناه له وأثنينا به عليه. ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله أو حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه ". أ. هـ.
أقول: يتفق الناقدان - أبن قتيبة والجاحظ - في هذا الموقف، وأبن قتيبة أبين في التعبير عنه وأكثر إسهابًا، ثم يفترقان في مواقف أخرى، لأن الاعتدال عند أبن قتيبة قد بسط ظله على نظرته عامة، ومن أبين الفروق بينهما اختلافهما في النظر إلى مشكلة اللفظ والمعنى، فبينا انحاز الجاحظ إلى جانب اللفظ، ذهب أبن قتيبة مذهب التسوية.
(١) الشعر والشعراء: ١٠ - ١١.