History of Arabic Heritage - Chemistry and Plants
تاريخ التراث العربي لسزكين - الكيمياء والنبات
Daabacaha
جامعة الملك سعود
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م
Noocyada
مقدمة المترجم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أما بعد:
فهذا كتاب وضعه مؤلفه فؤاد سزكين باللغة الألمانية، ونقلناه إلى العربية خدمة للقارئ العربي سواء أكان باحثا أم طالب علم. وهو يعرض بين دفتيه تاريخ الكيمياء عامة وتاريخ الكيمياء العربية خاصة. كما يبحث في جزء منه تاريخ النبات. ويرى القارئ الكريم أن الحديث عن (جابر بن حيان) يحظى بأكثر صفحات الكتاب، وأن المؤلف لم يدخر وسعا في دحض الافتراءات التي ألصقت باسم (جابر) هادفة من وراء ذلك إلى الطعن في منزلة الكيمياء الإسلامية، والنيل من علوم المسلمين، وذلك من خلال إنكار صحة نسبة عدد ضخم من الكتب الكيميائية إلى جابر. فجابر- في رأي المنكرين له- شخصية وهمية لم يكن لها وجود، وما الكتب المنسوبة إليه إلا مؤلفات طائفة من المشتغلين بالصنعة، دونوها ونسبوها إليه على مدار مائة عام امتدت من عام ٢٥٠ هـ- ٣٥٠ هـ. على أن المؤلف سزكين وبعض الباحثين المنصفين يرون- من وجهة نظر الحق والصدق- أن جابرا كان شخصية فذة عاشت في القرن الثاني للهجرة وأنه كان المؤسس الأول لهذا العلم ورائد كل من عمل بعده في هذا الحقل، بل هو بمنزلة بويل وبريستلي ولافوازية في ميدان الكيمياء الحديثة.
ويلاحظ أن برتلو Berthelot كان أول من أثار الشكوك حول بعض كتب جابر في العصر الحديث، فقد حاول أن ينفي علاقة كتب- جبر المزعوم-، والمدونة باللغة
مقدمة / 1
اللاتينية، بمؤلفات جابر بن حيان، كما حاول أن يبين أن مؤلفات جابر العربية بعيدة أشد البعد عن كتب- جبر هذا .. فلا تنقص المؤلف العربي كل معرفة بالحقائق الجديدة الأصيلة المتوافرة في الكتب اللاتينية فحسب، بل يستحيل على المرء أن يجد في الكتب اللاتينية صفحة واحدة أو مقطعا يمكن عده ترجمة عن المؤلفات العربية. (برتلو في La Chimieau Moyen Age: المجلد الثالث ص ٢٣).
وبالرغم من أن هولميارد تناول هذه المسألة بالدراسة والمناقشة، وبالرغم من أنه توصل عام ١٩٢٢ م إلى أن الكتب اللاتينية باسم جبر المزعوم-، ما هي إلا ترجمة لكتب جابر بن حيان المتوافرة باللغة العربية، وأن جابرا عاش في القرن الثامن الميلادي، وهو- كما يراه هولميارد- مؤسس الكيمياء الحديثة، بالرغم من هذا كله فقد أصر روسكا على أن تلك الكتب اللاتينية والجزء الأعظم من الكتب التي ذكرها ابن النديم باسم جابر ما هي إلا كتب مزيفة ومدسوسة على جابر بن حيان.
أما باول كراوس، وهو أكثر من اشتغل بمسألة جابر، وكانت لدراساته الجامعة الشاملة الأهمية العظمى حتى وقت قريب، فقد نشر عام ١٩٤٢/ ١٩٤٣ م كتابا فى مجلدين، سلّم في وقتها بآرائه التي جاءت فيه والتي تتعلق بحياة جابر وبمؤلفاته، أنكر في المجلد الأول صحة نسبة كتب جابر إليه، وزعم أنها مؤلفات مزيفة صنعتها طائفة من الكيميائيين الشيعة ما بين النصف الثاني من القرن التاسع والنصف الأول من القرن العاشر الميلاديين، وذكر في المجلد الثاني أن النظريات الكيميائية المنسوبة إلى جابر المزعوم- لا تمت إلى السيمياء القديمة بصلة، وذلك لأن كلمة (النشادر) وردت في الكتب المنسوبة إليه مع أن النشادر مادة لم تعرف إلا في زمن متأخر كانت الصنعة قد تطورت فيه، كما أن في هذه الكتب رفضا لاستعمال الألغاز التي اشتهرت بها السيمياء القديمة.
وقد تصدى المؤلف في كتابه الذي بين أيدينا لهذه الآراء والنظريات وراح يفندها رأيا رأيا، منطلقا من أن المقالات والكتب التي نشرت فيما مضى لم تعط صورة واضحة
مقدمة / 2
بينة عن المشكلة. فلقد كانت الوثائق والمعلومات قليلة آنئذ، وهي لقلتها قاصرة عن تقديم صورة تامة عن الحضارة الاسلامية.
وحينما كان سزكين يعد ملحقا لكتاب بروكلمان «تاريخ الآداب العربية» اكتشف مخطوطات ومصادر ذات أهمية بالغة، وبخاصة فيما يتعلق بتاريخ الكيمياء الإسلامية، تفضل في قيمتها العلمية كل ما عرف من شواهد ومخطوطات سابقة على الاطلاق.
هذا وقد بين المؤلف حين عرض الوثائق والشواهد والأدلة، التي اهتدى إليها أثناء تحرياته، أن جابرا كان- بلا أدنى شك- حيّا في القرن الثاني للهجرة. ولم يكن جابر رجلا عاديّا وإنما كان عالما يتمثل فيه مركز الثقل في موضوع الكيمياء الإسلامية برمتها.
ومن هنا كان لا بد- في رأيه- من تحديد حياة جابر وبوضوح تام قبل مواصلة البحث بالنسبة لتاريخ الكيمياء الإسلامية والكيميائيين الاسلاميين الأوائل. وبالفعل سيلمس القارئ العربي الجهد العظيم الذى بذله المؤلف سزكين في هذا المجال. ولا غرو فهو من العلماء المسلمين القلائل الذين وقفوا حياتهم على دراسة تاريخ التراث الإسلامي العربي ونالوا شهرة عالمية فيه. وما هذا الكتاب الذي بين أيدينا إلا المجلد الرابع من بين المجلدات التسعة للسفر الضخم، (في تاريخ التراث العربي). وكما يعرف الكثير من المهتمين بهذا الموضوع فقد نال المؤلف- الذي يعمل أستاذا لتاريخ التراث الإسلامي ومنذ عشرين عاما في جامعة فرانكفورت- جائزة الملك فيصل العالمية تقديرا لجهوده القيمة التي بذلها في تصنيف المجلدات الستة الأولى من كتابه الضخم هذا.
إنه لمن حسن حظ القاريء العربى، الذي لا يعرف اللغة الألمانية أن تقوم جامعة الملك سعود (الرياض سابقا) وجامعة الإمام محمد بن سعود بترجمة هذه المجلدات؛ تعهدت جامعة الملك سعود بترجمة المجلدات التي تتناول العلوم الطبيعية والرياضية منها وهي: المجلد الثالث (الطب والبيطرة) والمجلد الرابع (الكيمياء والنبات) والمجلد الخامس (الرياضيات) والمجلد السادس (علم الفلك) والمجلد السابع (الأنواء والأجواء).
مقدمة / 3
وقبل ثلاث سنوات ونيف (١) كلفتني جامعة الملك سعود (الرياض سابقا)، وكان على رأسها الاستاذ الدكتور عبد العزيز الفدا، بترجمة المجلد الرابع والقيام بتنسيق أعمال لجنة الترجمة التي شكلت آنئذ، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أترجم، وقد أعدت العمل مرات وقابلت بعضه على بعض حتى انتهيت إلى الصيغة التي بين أيدينا، وأنا مع هذا لا أدعي كمال العمل، فالخطأ والتقصير هما من طبيعة البشر. وليس هناك كتاب، غير كتاب الله ﷿، خال من النقص أو العيوب وإنني لأرجو أن يعذرني القارئ الكريم، إذا وجد شيئا منهما في ترجمتي هذه مع أني عملت بكل جد ونشاط وبأمانة وإخلاص. وحين عرضت ترجمتي على المؤلف، أثناء زيارتي لألمانيا في شباط من عام ١٩٨١ م رأى أن أثبت عناوين الكتب والمجلات والمقالات وأصحابها باللغة التي جاءت فيها وأن أبقى الشواهد والنصوص التى وردت بغير اللغة الألمانية على اللغة التي جاءت فيها كذلك، وقد فعلت هذا رغم أن الأمر استهلك مني أكثر من ثلاثة أشهر.
وأخيرا فلقد علمنا رسول الله ﷺ، وهو المعلم الكامل الذي لا ينطق عن الهوى أن من لا يشكر الناس لا يشكر الله. وما علي إلا أن أشكر كل من ساعدني خلال عملي هذا، وأخص بالذكر والشكر الاستاذ الفاضل الشيخ ناجي الطنطاوي الذي قرأ مدخل الكتاب والجزء المتعلق بالكيميائيين العرب وصحح، لغة، ما اقتضى تصحيحه، كما أثني على الأستاذ الكريم الشيخ عبد الرحمن الباني، الذي كان لي نعم الناصح والمشجع. وأسجل هنا كذلك شكري مع الدعاء إلى الله ﷾، أن يجزي زوجتي أميرة بنت محمد دياب عني خير الجزاء، فلقد كانت لي ولا تزال خير عون في الصبر على إنجاز هذه الترجمة وغيرها من أعمال. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الرياض: جامعة الملك سعود: مطلع شعبان سنة ١٤٠١ هـ الموافق لمطلع آذار ١٩٨١ م الدكتور عبد الله حجازى
_________
(١) مطلع عام ١٣٩٩ هـ
مقدمة / 4
ملاحظات تمهيدية
تقتضى أبواب هذا الكتاب التى تتناول السيمياء- والكيمياء والنبات- والفلاحة أن يتقدمها بعض التنويهات الموجهة إلى القارئ والباحث.
هذا وإني أكرر هنا الشكر، الذي أعربت عنه في مقدمة المجلد الثالث (١) (بأبوابه في: الطب- والصيدلة، وعالم الحيوان- والبيطرة) لكل من قدم لي الدعم والتشجيع، كما أكرر القول بأنه ينبغي أن تراعى تلك الملاحظات التي وردت هناك وتتعلق بالمنهج وبتأريخ المؤلفات المختلف فيها.
لقد كان من المخطط له أصلا أن يظهر المجلدان (الثالث والرابع) مجلدا واحدا، وما فصلا إلا إبّان الطبع.
أما فهرس الكشوف المستخدمة وفهرس الموجود من المخطوطات الذي يقع في المجلد الأول (ص ٧٠٦ - ٧٧٢) من الأصل الألماني، فقد استكمل في المجلد الثالث (ص ٣٩١ - ٤١٠) ولذا كان لزاما على القارئ أن يرجع إلى فهرس المجلد الأول (ص ٦٧٧ - ٧٠٥) والمجلد الثالث (ص ٣٨١ - ٣٩٠) فضلا عن رجوعه إلى فهرس المؤلفات من هذا المجلد ص ٣٤٧ - ٣٧٣.
_________
(١) ص ١٧ - ١٨
مقدمة / 5
الباب الأول السيمياء والكيمياء
1 / 1
١ - المدخل
إن الإنسان في عصرنا الحالي الذي «تعني الكيمياء الحديثة في نظره معرفة العناصر المكونة للمواد المتوافرة في الطبيعة عن طريق التحليل النوعي وتقدير نسبها فيها بالتحليل الكمي» لا يكاد يستطيع أن يتخلص من التصور بأن الكيمياء القديمة كانت تهدف قبل كل شئ إلى صنع الأحجار الكريمة والمعادن أو تقليد وتزييف للذهب والفضة.
بيد أن مؤرخ الكيمياء يلاقي العنت إذا ما حاول، تبعا لهذا التصور، وضع فاصل زمني تاريخي بين الكيمياء القديمة والحديثة وهناك توجد صعوبة أخرى بعد لم يتغلب عليها، تتجلى في تفسير كلمة «كيمياء «Chemie أو «الكيمياء. «Alchimie إلا أنه من المؤكد أن كلمة كيمياء وكلمة «Alchimie» تعنيان الكلمة العربية «الكيمياء»، وإن كان اللغويون المحدثون ومؤرخو الكيمياء لم يتفقوا على أصل الكلمة الأخيرة.
ومن المؤكد أيضا أن كلمة «الكيمياء» ليست سوى تلك الكلمة المستعملة لدى اليونانيين منذ زمن بعيد بصورتها المألوفة xuueia .. وقد طرأت عليها تصحيفات مختلفة مثل xnueia و.. xnuia الخ.
ولقد وضع O.Lagercrantz نظرية عجيبة في أصل هذه الكلمة، مفادها أنها تصحيف لكلمة) uoljeia خيانة زوجية) (١)، وأن الذي حمله على ذلك هو الرأي
_________
(١) Das Wort Chemiein: Kungl. Vetenskaps- Societetens Arsbok ١٩٣٧، Uppsala ١٩٣٨، p. ٣٦;
وارجع كذلك إلى:
H. H. Dubs، The Originof Alchemyin: Ambix ٩/ ١٩٦١/ ٢٣ - ٣٦
وقد ذهب إلى أن عهد T'ang - في الصين، البلد الأصلي لسيمياء العرب. بخصوص أصل السيمياء انظر:
H. J. Sheppard، Alchemy: Originor Origins؟ in: Ambix ١٧/ ١٩٧٠/ ٦٩ - ٨٤; J. Needham، Contri- butionsof China، India، andthe Hellenistic- Syrian Worldto Arabic Alchemy، in: prismata ٢٤٧ - ٢٦٧
1 / 3
القائل أن طرق الكيميائيين القدامى كانت منصبة على التزييف والخداع (١). على أن محاولة الوصول إلى تحديد مفهوم الكلمة لدى العلماء العرب والمسلمين وفروع العلم التي تهمنا هنا أجدى في نظرنا وأهم من الخوض فى مسألة أصل واشتقاق الكلمة.
وليست هناك إلى الآن دراسة مستفيضة، تعتمد على ما وصل إلينا من مواد، حول المفهوم الدقيق لكيمياء
Chemie
والكيمياء. Alchimie ترجع الدراسات التى خصصت لهذا الموضوع فيما سبق إلى عهد، كانت الفكرة السائدة فيه حول الكيمياء العربية ومنزلتها الرفيعة، غامضة مبهمة، من هذه الدراسات نعدّ حتى مقالات (فيدمان Wiedemann (الذي ندين له في اكتشافاته القيمة وفي الحلول الكثيرة التى قدمها في مجال تاريخ العلوم الطبيعية العربية.
وفى المناقشات التي دارت حتى الآن حول ما يمكن به تعريف الكيمياء العربية القديمة وحول موقف علماء البلدان العربية الإسلامية إزاء هذا الفرع من العلوم، اعتبر المرء- وذلك خطأ في نظري- أن الكلمة العربية المرادفة لكلمة Alchimie هي فقط كلمة الكيمياء أو علم الكيمياء. ولم يلق بالا إطلاقا إلى أن الكيميائيين الأوائل من العرب لم يسموا هذا الفرع أبدا بأحد هذين المصطلحين، وإنما أطلقوا عليه «علم الصنعة» أو «الصنعة»، كما أنهم لم يسموا أحدا سبقهم في هذا العلم «الكيميائي» وإنما «صاحب الصنعة» وأحيانا «صاحب الحكمة» أو «الحكماء».
ومن الجدير بالذكر أن أقدم كتب الكيمياء التي وصلت إلينا سميت (رسالة) أو (كتاب في الصنعة) إذا لم تكن تحمل عنوانا خاصا أما «جابر» في كتابه «كتاب الحدود» والمؤلّف قبل عام ١٥٠ هـ/ ٧٦٧ م في تعريف العلوم وتصنيفها (انظر بعده ص ٣٤٩) فقد صنف الكيمياء «علم الصنعة» مع علوم الدنيا ووصفها بأنها «علم شريف» مميّزا
_________
(١) Ruska، Neue Beitragezur Geschichteder Chemiein: Quell. u. Stud. z. Gesch. d. Nat. wiss. u. d. Med.
(روسكا: مقالات جديدة في تاريخ الكيمياء، مجلة مصادر ودراسات في تاريخ العلوم الطبيعية والطب) ٨/ ١٩٤٢/ ٣٠٩.
1 / 4
لها بذلك عن بقية علوم الدنيا «الوضعية» التي نفهم منها العلوم الثانوية التقنية «علم الصنائع» (١). وأن «جابرا» في كتاب الحدود لم يذكر «الكيمياء»، ولعله عدّ هذا الفرع من العلم «وضعيّا» أي من «علم الصنائع» إذ يعرف «علم الصنعة» بأنه العلم الذي لا علاقة له بسد الفاقة والحاجة (٢). وقد ذكر جابر «الكيمياء» في كتاب آخر هو كتاب الأصول (الصناعة الموسومة بالكيمياء)، حيث كان همه في ذلك أن ينبه إلى الخطر الكامن فيها (٣).
يبدو أن كلمة «كيمياء» بمعنى صناعة الذهب والفضة عرفها العرب منذ القرن الأول/ السابع وأن هذا المفهوم قد أدى بهم إلى الاشتغال بالكتب الكيميائية في وقت مبكر، لهذا فليس من الصعب أن يفهم لماذا كان لا بد لأول ترجمة لكتاب دنيوي من لغة أجنبية أن تكون بالذات ترجمة كتاب كيميائي (انظر بعده ص ١٠٥)، أضف إلى ذلك أن الأخبار الصريحة التي وصلت إلينا تفيد أن الكيميائي العربي الأول، الأمير الأموي خالد بن يزيد أدت به الكيمياء المؤملة بالثروة العظيمة إلى الصنعة والصنعويين (٤)، بل إن أقدم ما وصل إلينا من معلومات حول ذلك يرجع إلى عهد خالدنفسه، ذكرها المؤرخ المدائني (ت ٢٣٥ هـ/ ٨٥٠ م)، انظر المجلد الأول من، GAS ص ٣١٤) معتمدا بذلك على رواة قدامى، جاء في روايته أن محمد بن عمرو بن العاص قدم على عمّته زوجة خالد بن يزيد، وهي في دمشق، قال خالد له: «ما يقدم علينا أحد من أهل المدينة إلا اختار المقام عندنا على المدينة، فظن محمد بن عمرو أنه يعرض به فقال غاضبا: وما يمنعهم من ذلك وقد قدم قوم من المدينة على النواضح فنكحوا أمك وسلبوك ملكك وفرغوك لطلب الحديث وقراءة الكتب وعمل الكيمياء الذي لا تقدر
_________
(١) جابر: كتاب الحدود في مختار رسائل ص Kraus: Studienzu Jaberibn Hayyan؛ ١٠٠ في مجلة.١٢/ ١٩٣١ /١٥ Isis
(٢) مختار رسائل ص ١٠٦.
(٣) طهران: خانقاه نعمة الله ١٤٥ (١١٥ ب- ١٢٠ ب).
(٤) ابن النديم ص ٣٥٤.
1 / 5
عليه» (١). ويستفاد مما ذكره جابر أن كلمة «الكيمياء» ربما كان يعرفها العرب بمعنى تحويل المعادن منذ زمن بعيد، عرفها مثلا الخليفة علي «كرم الله وجهه» - (انظر بعده ص ٢٤).
صحيح أن ابن النديم استعمل على ما يبدو «صناعة الكيمياء» و«علم صناعة الكيمياء» (٢) مرادفين ل «علم الصنعة»، إلا أنه ليس هناك كتاب واحد من مئات كتب الكيميائيين الذين ذكرهم يحمل عنوان «الكيمياء» (٣). لذا، فإنه لمن الخطأ الفادح أن تترجم كلمات ابن النديم (٤): («أخبار الكيميائيين والصنعويين» ب «أخبار الكيميائيين والفنيين أو المهنيين»).
«(٥)
die Nachrichtenuberd ie Chemikerunddie Technikeroderpra ktiker
» إذ أن محتويات هذه الكتب بكاملها وكذلك تعريفات الكيميائيين أنفسهم، لا تدع مجالا للشك (انظر قبله ص) في أن علم الصنعة شغل منزلة أعلى بكثير من الكيمياء، وأن الكيميائيين الذين ذكرهم ابن النديم لا بدّ وأن يكونوا الفنيين والمهنيين.
ويبدو لنا أن روسكا أهمل هذا المعنى المتميز للصنعة وأنه ترجمها عموما (٦) بالكلمات «فن، صنع، عمل»، وبذلك اعتبر النقد الموجه «للكيمياء» موجها للصنعة العربية فدافع عن الأخيرة (٧). ورأى (روسكا) نفسه مضطرّا للدفاع عن الصنعة
_________
(١) الأغاني المجلد السادس عشر، الطبعة الثانية ص ٨٦، أو المجلد السابع عشر تحقيق عبد الستار فراج ص ٢٦٢.
(٢) ابن النديم ص ٣٥١.
(٣) المصدر السابق ص ٣٥١ - ٣٦٠.
(٤) المصدر السابق ص ٣٥١ س ١٧.
(٥) روسكا: المصدر المذكور له أعلاء فيه ص ٣١٧.
(٦) روسكا: المصدر السابق نفسه ص ٣١٨.
(٧) «إنه لجهل تام بالكيمياء والكيميائيين أن يزعم: Lagercrantz لم يكن همهم إلا تقليد أو تزييف الذهب والفضة ...» (المصدر السابق ص ٣٠٩).
1 / 6
«الكيمياء» العربية، إزاء هجوم المسعودي (ت عام ٣٤٥ هـ/ ٩٥٦ م، المجلد الأول من Gas ص ٣٣٢) الذي تكلم (١) عن خدع أصحاب «صنعة الكيمياء»، وقد فهم روسكا من ذلك أنه يعني الكيميائيين «السيميائيين» أيضا (٢).
وبهذه المناسبة فإنه كثيرا ما يشار في الدراسات الحديثة إلى تلك المناظرة التي جرت بين الفيلسوف الكندي وبين الطبيب والكيميائي الرّازي، فإن الأول في كتابه «الأطعمة» تحت عنوان: «كيمياء الطبيخ» أو «كيمياء الأطعمة» ذكر موضوع محاكاة أو غش الأطعمة (٣). وخص غش العقاقير النفيسة في كتابه المتوافر بين أيدينا مطبوعا بعنوان: «كتاب كيمياء العطر والتصعيدات» خصها بمكان مكننا من تكوين فكرة مهمة حول عملالغشاشين في ذلك الزمان (٤). وأما عن مدى علاقة استعمال الكندي لكلمة الكيمياء، بموقفه المعادي- كما يزعم- للكيمياء، وفيما إذا كان رد الرازي عليه لهذا السبب أم لأسباب موضوعية صرفة في كتابه «الرد على الكندي في رده على الصناعة» (ابن النديم ص ٣٥٨)، فلربما تكشف عنها دراسة مقبلة لهذا الكتاب فيما بعد. هذا وقد يفيد مثل هذه الدراسة بالدرجة الأولى «كتاب شرف الصناعة» للرازي نفسه (انظر بعده ص ٧) وكذلك كتب الكندي المتعلقة بذلك والمتوافرة جيدا إلى حد ما (المجلد الثالث من GAS ص ٢٤٦) (٥). كذلك ينبغي الانتباه بشكل خاص إلى استعمال المصطلحات «صنعة» و«صناعة» و«الكيمياء» في كتب الكيميائيين الأوائل من أمثال جابر والرازي، إذ لم يعط هذا الموضوع في الدراسات الماضية والمتعلقة بموقف العلماء العرب من الكيمياء، ما يستحقه من العناية حتى الآن.
_________
(١) المسعودي: مروج الذهب ج ٨ ص ١٧٥.
(٢) روسكا: المصدر المذكور له أعلاه ص ٣١٢.
(٣) المسعودي: المصدر المذكور أعلاه ج ٨ ص ١٧٦ - ١٧٧.
(٤): K.Garbers مقدمة الكتاب المحقق في: لا يبتسغ ١٩٤٨ م.
(٥) Wiedemann في ٢٠٦ - ١٧٢/ ١٩١٤ /٤٦ SBp MSErl.: في مقالات رقم XL بعنوان:
Uberverfalsc hungenvon Drogenusw. nach Ibn Bassamundal- Nabarawi
وله كذلك في EI: م ٢/ ١، ١٠٨٨ ب) Lippmann؛ النشأة Entstehung: (ص ٢٩٩؛ روسكا؛ المصدر المذكور له آنفا ص ٣٠٩ - ٣١٨.
1 / 7
على أنه لا يمكن تجاهل اللبس الذي حصل بين محاولة الكيميائيين الجادة أو بين المفهوم- بعبارة جابر- الذي يرى أن «أصول الصنعة تتجلى في تفاعل طبائع المادة وأنه يمكن الوصول إلى معرفتها بمعرفة الميزان» (انظر بعده ص ٣١) وبين الغش وصناعة الذهب، كما لا يمكن تجاهل الموقف الرافض أو المعادي للكيمياء الذي كان منتشرا في أوساط إسلامية. وإذا ما درس المرء نقد واعتراضات مناوئي الكيمياء يتولد الانطباع بأنه قد اختلط أمر أولئك الذين كان التحويل هدفهم الرئيسي بأمر أولئك الذين كان موضوع تحويل المعادن جزءا من منهجهم الكيميائي ولم يكن التحويل لديهم لطلب منفعة دنيوية بل كان لغرض النظرية «العلم» ليس إلا. «لقد كان جابر مقتنعا أن مثل هذا التحويل لا يمكن أن يحصل بالطريق التجريبي، إذ أنه يرى نظاما ما، في عالم المادة، يمكن بناء عليه إيضاح التحويل الكيفي للمادة على أسس كمية (١)». كما يرى جابر حسب نظامه: أنه يمكن (من الناحية النظرية) توليد الكائنات الموجودة في العالم الأرضي، من ذلك على سبيل المثال، توليد المعادن بالتدابير بما فيها الذهب.
ومما له دلالته الكبيرة بهذه المناسبة موقف ابن سينا، فلقد صنف «الكيمياء» فى رسالته «إشارات إلى علم فساد أحكام النجوم» في قائمة العلوم المزيفة: «أما غرضها فالجشع والميل إلى المعيشة المريحة، وأما فحواها فتوليد إكسير يزعم أنه يحول كل معدن خسيس إلى ذهب أو فضة دون عناء. ولقد كثرت الكتب في ذلك، وأما ما يحتمل أن يكون قد صنفه جابر والرازي وغيرهما فمجرد هراء، فلا يمكن توليد ما خلقه الله بالطبيعة، كما لا تشترك أعمال الإنسان في أعمال الطبيعة (٢) ولابن سينا نظرة أخرى إلى أصحاب الكيمياء ذكرها في الباب الخامس من كتابه «الشفاء» (٣)، و«ابن سينا يؤمن في هذا الكتاب بنظرية الزئبق- الكبريت في المعدن ويرفض رفضا قاطعا أفكار
_________
) E.J.Holmyard. (١) هولميارد):
Alchemistendes Islamsim Mittelaterin: Endeavour ١٤/ ١٩٥٥/ ١٢١:
(٢)
A. F. Mehren، vuesd'Avicennesu rl'astrologiein: Museon ١٨٨٥، p. ٧، diealchemiedesav icenna: j. ruska
(كيمياء ابن سينا) في. isis ١٢ /٤٣٩١ /٧١:
(٣)
Avicennae Decongelationeet conglutinationel apidum ..
تحرير وتحقيق هولمياردو؛ ٨٥ D.C.Mandeville روسكا في المصدر المذكور أعلاه ص ١٨ - ١٩.
1 / 8
أصحاب الكيمياء، فهو يرى أنه من الممكن عمل معادن صلبة، حتى لكأنها ترى كما يرى الذهب والفضة، ولكن الأمر لا يعدو أنه زيف .. ويذكر ابن سينا قوله: «أنا لا أمنع أن يبلغ الزيف في التدقيق مبلغا يخفى الأمر فيه على الفرهة (١)، وأما أن يكون الفصل (٢) فلم يتبين لي إمكانه، بل بعيد عندي جوازه، إذ لا سبيل إلى حل المزاج (٣) إلى المزاج الآخر، فإن هذه الأحوال المحسوسة يشبه أن لا تكون هي الفصول (٤) التي بها تصير هذه الأجساد (٥) أنواعا، بل هي عوارض ولوازم (٦) وفصولها مجهولة، وبعبارة أخرى، فإن ابن سينا يعترف بأن الأجساد لها طبيعة مركبة، لكنها ثابتة التركيب ولا يمكن أن تتأثر بالصهر أو بتدابير كيميائية أخرى فهو يقول: «ويشبه أن تكون النسبة التي بين العناصر في تركيب كل جوهر من هذه المعدودة، غيرها في التركيب الآخر، وإذا كان كذلك، فلم يعد إليه، إلا أن يفك التركيب إعادة إياه إلى تركيب ما يراد إحالته إليه، وليس ذلك مما يمكن (بالصهر) بأدائه حفظ الاتصال، وإنما يختلط به شئ غريب أو قوة غريبة (٧)».
ولقد شغل موضوع موقف ابن سينا من الكيمياء، مؤرخي الكيمياء منذ القرن التاسع عشر (٨). إذ كان الباعث على دراسة هذا الموضوع في وقت مبكر أن ابن سينا كان في بعض الرسائل الكيميائية التي عرفت باسمه، قد اتخذ موقفا واضحا مناصرا للتحويل (تحويل المعادن)، وقد أجمع تقريبا على أن ثلاثا من هذه الرسائل تزييف لاتيني. وأما بخصوص الرسالة الرابعة فقد اختلفت الآراء في مدى صحتها حيث عثر على أصلها العربي.
_________
(١) أي الحاذق «المترجم»
(٢) أي القلب أو التحويل «المترجم»
(٣) المادة أو المركب المرغوب تبديله «المترجم».
(٤) الفوارق أو الاختلافات «المترجم».
(٥) المعادن «المترجم».
(٦) نتائج بالمصادفة «المترجم»
(٧) هولميارد مجلة.١٢٤/ ١٩٥٥ /١٤ Endeavour
(٨) انظر ما يتعلق بالآراء المتباينة، روسكا) Die Alchemiedes Avicenna كيمياء ابن سينا) المصدر المذكور له آنفا، ص ١٤.
1 / 9
وأما روسكا فقد أراد أن يبين أن هذه الرسالة زيف أيضا، وأنها تمثل ترجمة رسالة صنفها أحد الأسبان باللغة العربية (١). أما عنوان الرسالة بالعربية فهو: «رسالة في مستور علم الصنعة»، ولقد ذكر ابن سينا في المدخل أنه أراد أن يختبر فيها آراء المناوئين وآراء أصحاب الكيمياء فما وجد فى كتب أصحاب الكيمياء تطبيقا للقياس الذي هو في الواقع أساس العلوم، وكتبهم فضلا عن ذلك، مليئة بالهراء، لكنّ كتب المناوئين كذلك هزيلة وحججهم ضعيفة، ولم يطبقوا القياس تطبيقا سليما. وهكذا لم يقدر H.E.R.F.Azo وStapleton وم. ح. حسين و، G.L.Lewis الذين ترجموا تلك الرسالة إلى الإنجليزية، لم يقدروا، نظرا لرأي روسكا ذاك، أن يبتّوا فى صحتها، ولو أنهم لم يشاطروا روسكا الرأي أيضا (٢). ثم ما لبثت أن تداعت حجج روسكا بعد أن اكتشفت مخطوطات أخرى جديدة وقوّم محتواها (٣). كذلك فقد أوضح G.Anawati في مقال له هو الآن تحت الطبع (•)، أوضح بجلاء أن ابن سينا لم يغير رأيه بالنسبة للتحويل الجوهري للمعادن، في هذه الرسالة أيضا (٤)، وقد يكون اتخذ مع الزمن موقفا أقل رفضا تجاه الكيميائيين العظام، دون أن يكون قد غيّر رأيه في تحويل المعادن. هذا ويبدو أن الموقف المعادي للكيميائيين ازداد خلال الأجيال المتأخرة، فلقد اعتبرت- ظلما- صناعة الذهب على أنها المهمة الرئيسية للكيميائيين ونجد مثالا مهمّا على ذلك في رأي عبد اللطيف البغدادي (ت ٦٢٩/ ١٢٣١) الذي وصلت إلينا عنه رسالتان بهذا الخصوص (٥) ذكر في إحداهما وهي بعنوان: «رسالة في مجادلة الحكيمين، الكيميائي والنظري» مجادلة حصلت بين الكيميائي والنظري، ختمها بفوز النظري، أما في
_________
(١) المصدر السابق ص ٢٣ - ٢٤.
(٢)
Two Alchemical Treatises Attributedto Avicennain: Ambix ١٠/ ١٩٦٢/ ٤١ - ٨٢.
(٣)
A. ates، A. ates، ibnsinaveelkimya، in: ankara، ii. fak، derg
الرابع ١٩٥٢/ ٢٧ - ٦٢، وله أيضا: ابن سينا، رسالة الإكسير في.٥٤ - ٢٧/ ١٩٥٣ /١٠ turkiyatmeem
(٤)
Avicenneetl'alch imiein: Convegno: Orientee Occidentenel Medioevo: Filosofiaet Scienze، Roma ١٩٦٩، Accademiadei Lincei
ولقد تمكنت من الإفادة من بروفات الطباعة بفضل جود المؤلف.
(•) كان ذلك عام ١٩٧١ م إبان طبع هذا الكتاب (المترجم).
(٥) بورسه، (Bursa) حسين شلبي ٨٢٣،
a. dietrich: diearabische، versioneinerunbe kannten، schriftdesalexan dervonaphrodisia suberdiedifferen tiaspecifica. gottingen ١٩٦٤، p. ١٠٦.
1 / 10
الرسالة الأخرى وهي بعنوان: «رسالة فى المعادن وإبطال الكيمياء» فيفنّد البغدادي نفسه آراء الكيميائي.
وعلى أية حال فلقد بينت نتائج الدراسات السابقة بوضوح كاف أن الكيمياء العربية تمثل «علما» معترفا به: بأسسه الفلسفية والتجريبية (١). وقد بدأ الاعتراف بالروح العلمية في الكيمياء العربية منذ أن اكتشف هولميارد أن كيمياء جابر: «تمثل علما تجريبيّا منهجيّا» وأنه بالإمكان وضع جابر في مصاف: «بويل وبريستلي ولافوازية (٢)».
ولقد استطاع كراوس من خلال دراسته الواسعة الشاملة لمجموع جابر، وبعد هولميارد بنحو عشرين عاما، أن يدعم هولميارد فيما توصل إليه، وذلك بالرغم من أن كراوس لم يسلّم بأن جملة ذاك التأليف ترجع إلى عمل رجل واحد عاش في القرن الثاني/ الثامن، بل افترض أن المجموع كان من تأليف أصحاب «مدرسة»، زعم أنها كانت نشيطة من منتصف القرن الثالث/ التاسع وحتى منتصف القرن الرابع/ العاشر (انظر بعده ص ٢٥٢ وما يليها). ويهمنا من نتائج كراوس هذه المتعلقة بموضوعنا أن التفاصيل العلمية- الطبيعية قد انتظمت في كيمياء جابر ضمن إطار كبير استمدت معناها وصحتها منه فقط. «وما هي إلا استدلالات فلسفية تشكل في كل ناحية منطلق المؤلف الحقيقي وتمثل قوته، فهو لا يفتأ يؤكد أن ممارسة التقنية والناحية التطبيقية للعلم (عمل) لا يؤديان إلى شئ ما لم تأخذ النظرية (علم، قياس، برهان) مكانها كما ينبغي (٣)» وقد انتقد جابر سقراط (٤)، لأن سقراط لم يراع في نظامه الكيميائي إلا الناحية العملية ولأنه أهمل النظرية (انظر بعده ص ٢٢٨). ولقد تحقق لدارسي الكيمياء العربية كذلك أن الرازي الطبيب المشهور (ت: ٣١٣/ ٩٢٥) كان على
_________
) ruska،ne uebeitragezurges chichtederchemie (١) مقالة جديدة في تاريخ الكيمياء) المصدر المذكور أعلاه ص ٣١٢.
(٢) انظر بعده ص ٢٤٤
(٣) (التقرير السنوى الثالث) برلين ١٩٣٠ ص dri tterjaresbericht، ٢٥
(٤) وفقا للدور الذي يعزى له في الكتب المزيفة في الكيمياء.
1 / 11
مستوى رفيع في الكيمياء أو كيمياء، ومنذ أن قبلت نظرية كراوس التي ترى أن كتب جابر متأخرة النشأة وأصبح جابر بالتالي قريب العهد من حياة الرازي فقد ازدادت أهمية دور الرازي في تاريخ الكيمياء. ولقد كان روسكا أكثر المدافعين عن منزلة الرازي حماسا، من ذلك أنه أوضح في جملة ما أوضح: «طالما كان المرء متمسكا بأن كتب جابر الكيميائية هي من وضع القرن الثامن، كان لا بدّ من افتراض أن كيمياء الرازي التيتميّزت بالسمات البارزة وباستخدام النشادر في كل موضع والدور المهم للمواد الحيوانية أن هذه الكيمياء مشتقة عن عالم أفكار جابر، إلا أنه لما كان قد استنتج أن جملة كتب جابر بكاملها ما هي إلا ثمرة الإسماعيلية، أو قل قريبا من حياة الرازي، لذلك لم يعد حل قضية التبعية أمرا بسيطا ..... أما الفرق بين العرض المتعدد الوجوه الذي لا نهاية له في كتب جابر وبين الشكل الموضوعي الواقعي في مؤلفات الرازي، فهو فرق كبير، يصعب العثور على علاقات أخرى بينهما غير علاقة الأساس المشترك. ولكنه يبقى للرازي، على أية حال، فضل تقديم الكيمياء ولأول مرة في قالب علمي متين، فلم تكن نظريات الإسماعيلية العسيرة على بلاد الغرب والمستبعدة لأي تطور أوسع، لم تكن لتجذب كيميائييّ الغرب، وإنما الذي جذبهم هي كتب الرازي المحددة القريبة الهدف (١)».
ولا يعوّل في إيراد هذا الكلام على مدى موافقتنا لتفاصيله، بقدر ما يعوّل على إثبات الطابع الذي ساد الكيمياء العربية، ذلك الطابع الذي يتجلى فى مبدأ العمل المشترك بين النظرية والتجربة. وهكذا، وبعد أن اتضحت هذه السمة المتميزة للكيمياء العربية- استعمال المواد العضوية وغير العضوية بما فيها النشادر ذي الأصل العضوي وغير العضوي- وبعد أن عرفت أسسها الكمية، برز السؤال التالي: من أين جاءت مثل هذه الكيمياء؟ سؤال لطالما طرحه روسكا خلال دراساته وبصيغ مختلفة حتى انتهى به الرأي إلى أنه لا بد أن قد سبق مؤلفات العرب تطور ما مستقل للكيمياء في المشرق، يختلف عن تطور الكيمياء اليونانية (٢). فهو يرى أنه من غير المحتمل أن
_________
(١)
al- razisbuchgeheimn isdergeheimnisse in: quell. u. stud. z. gesch. d. nat. wiss. u. d. med. ٦/ ١٩٣٧٨/ ١٢ - ١٣.
(٢) ruskain: archivf.gesch.d.math.١٠ /١٩٢٨ /١٣٠.
1 / 12
تكون هذه الكيمياء قد وصلت جابرا عن طريق السريان من مصر أو عن طريق الإمام جعفر، وإنما كانت ثمرة بحوث ترادفت عبر تطور طويل وكانت في نواح جوهرية نتاجا للعقل الإيراني الملقح بالفلسفة الهلّينية «١».
إن التعلق بالنظرية التي تفترض تأثير كيمياء شرقية في نشأة الكيمياء العربية، دفع روسكا إلى تبني نظرية أخرى غربية بعض الشئ تقول بوجود مدرسة غربية وأخرى شرقية من الكيميائيين العرب، وتبعا لهذه النظرية كانت مصر مركز المدرسة الغربية، حيث لم تكن الكيمياء فيها تقف على أرض التجربة حتى في العهد الإسلامي وإلى القرن الثالث عشر الميلادي «٢».
والحق، إن هذه الفكرة كانت نتيجة طبيعية لفكرة أخرى مفادها أن الكتب التي وصلت إلينا باللغة العربية، والمنسوبة إلى فلاسفة وكيميائيين قدامى، قد ألفت من قبل العرب أنفسهم. والظاهر أن روسكا لم يستطع أن يفسر حقيقة أن هذه الكتب المزيفة ذات مستوى أكثر بدائية بكثير من الكتب العربية إلّا بافتراضه وجود مدرستين مختلفتين، بل ومفصولتين جغرافيّا. ويبدو أنه لم يسأل نفسه عما إذا كان ممكنا وجود
_________
) in: stud،z.gesch.d.chemie،berlin ١٩٢٧،p.٤٧ (١) كتب السبعين لجابر بن حيان)
ruska، diesie- bzigbucherdesgab iribnhajjan
. (٢) «أما فيما يخص الصيغة الداخلية لهذه الكتب فإني أعتقد أنه بإمكاني هنا كذلك إيجاد بعض المعالم المشتركة التي تؤكد أنها نتاج المدرسة الغربية وأنها تختلف بوضوح عن كتب جابر أو الرازي. فبينما نستطيع أن نتبين محاولات جابر الأولى الجادة إزاء مسائل الفلسفة الطبيعية وموقف الرازي صاحب الاتجاه العملي إزاء الكيمياء، يغلب على المدرسة الغربية، الاستشهاد بالأساتذة الأوائل وتعتيم التعاليم الكيميائية بالعرض المرموز أو بالزخرف البليغ أو اختلاق أسماء مستعارة ومقارنات جديدة. وهكذا تؤدي دراسة هذه الكتب دائما إلى النتيجة نفسها وهي أنّ الكيمياء في مصر المسلمة لم تكن قائمة فيما بين القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر، على قاعدة تجريبية وإنما كانت قائمة على الاختلاق الأدبي المطلق وعلى عبث الخيال. ولسوف تقدم دراسة فاحصة لبعض النصوص العربية الأصل، المعروفة فقط في ترجمة لاتينية، قرائن أخرى بالنسبة لهذا الافتراض». روسكا فى مصحف الجماعة ١٩٣١ م، ص ٣٢٠.
1 / 13
مدرستين معزولتين هكذا في العالم الإسلامي خلال القرن الثالث/ التاسع وحتى القرن السابع/ الثالث عشر، أو بعبارة أخرى كيف يمكن أن ينسجم هذا الافتراض مع واقع التاريخ؟
هذا ولا يمكن هنا سرد آراء روسكا جميعها المتعلقة بنشأة ومصادر الكيمياء العربية، التي لا تؤدي إلى أي وضوح. وإنّ آراءه وآراء مؤرخي الكيمياء العربية المشابهة- المتعلقة بموضوع المصادر والنشأة- قد فقدت أهميتها إلى حد كبير بعد ما ظهرت دراسات باول كراوس ونشرت عام ١٩٤٢ - ١٩٤٣ م. ولقد بقيت دراسات كراوس، على الرغم من بعض الانتقادات الموجهة لها محتفظة بالموقع الرئيسي الحاسم في هذا المجال حتى يومنا هذا. صحيح أن دراسات كراوس تتناول مؤلفات تحمل اسم كيميائي واحد لا غير، هو جابر بن حيان، إلا أنها تكاد تكون تاريخا أساسيّا للكيمياء العربية، ذلك أن هذا الكيميائي قد طبع هذا الفرع من العلوم بطابعه الخاص إلى حد بعيد من جهة، وأنه من الممكن، بلا شك، اعتبار دراسات كراوس أجدى وأغنى وأشمل دراسة في هذا المجال. ولقد حشد المؤلف مواد وفيرة في شرح الموضوع المتعلق بمصادر ونشأة الكيمياء العربية، بيد أنه لم يقترب- فى اعتقادي- من حل هاتين المسألتين، وذلك مذ بدأ يشكّك في دراسته الأولى، عام ١٩٣٠ م، في صحة المجموع «مجموع كتب جابر» ومذ شرع كذلك في النظر إلى الموضوع على أنه نتاج إسماعيليّ أو نتاج مدرسة زمن متأخر يمتد من عام ٢٥٠ هـ إلى عام ٣٥٠ هـ. وحصل هذا في وقت كان التفكير فيه قد بدأ لتوه يتغير- اعتمادا على الاقتناع بصحة المجموع- في مجال تقويم المصادر والاستنتاجات الخاصة ببدايات الكيمياء العربية، وعلاوة على ذلك حتى في مجال تحديد بدايات الفروع الأخرى للعلوم العربية أيضا وترجمة الكتب الأجنبية إلى العربية (انظر ص ٢٤٧ وما يليها).
ولقد تحددت دراسة كراوس لجابر من خلال ثلاث وجهات نظر:
١ - لا ينبغي البحث عن بدايات العلوم في البلدان العربية الإسلامية قبل زمن حدّد بحوالي عام ١٥٠ هـ.
1 / 14
٢ - بدأت ترجمة الكتب اليونانية (إلى العربية) في عهد المأمون أي نحو عام ٢٠٠ هـ، وهذا العهد هو عهد نشأة الاصطلاح العربي (التقني).
٣ - الكتب المزيفة العربية ألّفها العرب أنفسهم ونسبت إلى العلماء الأقدمين.
وهذه الكتب هي في نظرنا ترجمات ومن أكثر المصادر أهمية في مجالات عدة وبخاصة في مجال الكيمياء. وعلى ضوء هذه الأفكار اكتسب رأي شيدر h.h.-schae -der القائل: بأن كتاب جابر «البيان» كان كتابا للإسماعيلية (انظر بعده ص ٢٥٢) - أهمية أكبر بكثير مما ينبغي، لدى دراسة مجموع جابر. أما إلى أي مدى يمكن إثبات آراء جابر الإسماعيلية القرمطية في كتابه هذا وكتبه الأخرى، فتلك مسألة أخرى.
ومهما يكن من أمر فلا يمكن لهذا الجانب أن يكون حجة في تفنيد مجموع جابر، ذلك لأنه لم يكن هناك اختلاف وحتى في حياة كراوس نفسه، في أن مذهب القرامطة والإسماعيليين الأوائل قد نشأ قبل نهاية القرن الثاني الهجرى (انظر بعده ص ٢٦١) الأمر الذي تؤيده أحدث الدراسات بقرائن أخرى عن مصادر قديمة.
وبهذا الرأي القائل بعدم أصالة مجموع جابر، كان لا بدّ من إسقاط أحد العلماء من تاريخ الكيمياء، من الممكن إبرازه- إذا طرحنا هذا الرأي جانبا- كواحد من أعظم الكيميائيين. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن كل الأخبار الأخرى حول نشاط أدبي في هذا المجال تأخذ- إذا ما سلمنا بهذا الرأي- طابعا أسطوريّا، وبخاصة ما ألفه أشخاص يفترض وجود رابطة بينهم وبين جابر. وقد يبدو هذا الأمر في نظر بعض مؤرخي التراث والحضارة الإسلامية صحيحا وطبيعيّا، لكننا نرى أننا- وبسبب ظواهر كثيرة في تاريخ العلوم الطبيعية العربية وما اكتشف حديثا من مواد في المخطوطات تتفق مع المعلومات الواردة في المصادر- مضطرون إلى تمحيص النظريات والتصورات حول الكيمياء العربية خلال القرنين الأولين بعد الهجرة والتي يتميز معظمها بموقف رافض.
وبهذا يصبح أمر قبول أو تفنيد صحة مجموع جابر معضلة من أهم معضلات تاريخ
1 / 15
العلوم الطبيعية العربية، سيكون لحلّها أثره على بقية مجالات العلوم عند العرب. فلو سلم بصحة المجموع وبتاريخه المروي وهو القرن الثاني/ الثامن، لاقتضى ذلك أن تحظى معلوماته كلها المتعلقة بالمصادر والمؤلفات والنشاط العلمي في زمنه والزمن الذي سبقه، بالأهمية التي تستحقها.
ولهذه الأسباب نمحّص في هذا الباب ما جمعه كراوس من مواد وكذلك حججه وأفكاره المتعلقة بقضية جابر (انظر بعده ص ٢٥٠ وما يليها).فنصل كما سبق وألمحنا إليه، إلى نتيجة مغايرة، فنحن مضطرون- ليس بسبب عدم صمود حجج ونظريات كراوس أمام التمحيص فحسب، بل بناء على نتائج أخرى لدراساتنا الخاصة على مجموع جابر- إلى افتراض أن هذه الأعمال قد ألفت في القرن الثاني/ الثامن وأنها لا يمكن أن تكون قد ألّفت سوى في القرن الثاني/ الثامن وليس بعده.
كذلك فإن أهمية الكتب المنسوبة إلى العلماء القدامى والمحفوظ معظمها باللغة العربية، تتوقف على زمن نشأة مجموع جابر أيضا، وسنتحدث عن دورها في تاريخ العلم العربي وزمن نشأته بشكل عام، في موضعين (المجلد الخامس من gas وص ٣٣ من كتابنا هذا حيث الكلام عن الكتب الهرمسية العربية)، ويناقش دورها في الكيمياء بوجه خاص في بحث مصادر جابر (ص ٢٢١، وما يليها) ونورد في هذا الكتاب أسماء الكتب المزيفة التي وصلت إلينا باللغة العربية. ولقد رتبت ترتيبا ذاتيّا إلى درجة ما، ولم ترتب وفقا لقدم الاسم المستعار، بل حسب زمن نشأتها المظنون.
ويبدو حسب الانطباع الذي تولد لدينا إلى الآن أن قسما من الكتب الكيميائية المزيفة المحفوظة باللغة العربية- وبعضها معروف في الرواية اليونانية- قد نشأ قبل زوسيموس) zosimos القرن الرابع الميلادي). لكن من المرجح أن تلك الكتب المزيفة التي ترجع في نشأتها إلى القرنين الأخيرين قبل ظهور الإسلام والتي يمكننا اعتبارها من أهم مصادر الكيمياء العربية قد كان لها تأثير أكبر من ذلك. وتنسب أهم تلك الكتب إلى بليناس (أبولونيوس التياني) وأرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط وفرفريوس. والظاهر أن النظريات المميزة لكيمياء جابر- كنظرية الميزان ونظرية التوليد وتدبير الإكسير من مواد
1 / 16