وقد يخيل إلينا للوهلة الأولى، أن هذا الخلاف في اتجاه الفكر بين إقليم وسائر الأقاليم، والتي منها يتكون ما أطلقنا عليه اسم «الغرب»، لا يجعل لعصرنا الحاضر - متمثلا في دول الغرب لأنها صناعته - ومن وحدة الفكر ما يجعل منه عصرا له خصائصه المتميزة، لكننا إذا أمعنا النظر في تلك الاتجاهات الإقليمية رأيناها جوانب متكاملة في كيان واحد، وكان كل إقليم قد اختص بالنظر في جانب تاركا بقية الجوانب لسواه، فإذا أردنا معرفة عصرنا متكاملا وجب أن نبحث خلف تلك المتفرقات عما يوحدها، فليس اهتمام الشمال الغربي من أوروبا بالوحدات الذرية التي منها يتألف العلم متنافيا مع اهتمام الغرب الأوروبي بالإنسان وما يكفل له إنسانيته، على أن باب الحقيقة الإنسانية يبقى مفتوحا للنظر فيما إذا كانت الأولوية المنطقية في الحياة الإنسانية للفرد على مجتمعه أم للمجتمع على أفراده، ثم لا تتنافى هذه الاتجاهات الأوربية مع اللفتة الأمريكية نحو المستقبل كلما أردنا المفاضلة بين فكرة وأضدادها، وإذا كان هذا هكذا، فعند أية نقطة تتلاقى هذه الخطوط الفكرية كلها؟ إنها تتلاقى عند ضرورة توجيه الاهتمام نحو «الإنسان » في حياته التي يحياها ليصبح غاية في ذاتها وليس مجرد وسيلة لهدف سواه، وتلك هي روح هذا العصر.
وعلى هذه الخلفية نطرح سؤالنا: أفي هذه الغاية التي يتغياها عصرنا بمختلف مذاهبه ووجهات نظره، ما لا يصلح أن يتبناه العربي المعاصر، شريطة ألا يهدر شيئا من جوهر هويته الثقافية التاريخية؟ ولنتذكر ما قد أسلفنا ذكره مفصلا عن الشخصية العربية ومقوماتها: فأولا هي شخصية تؤمن بأن هذا الواقع الذي نقضي حياتنا في ربوعه، نراه بالبصر ونلمسه بالحواس، لا بد أن يكون له «وراء»، فهذه حقيقة توحي إليه بما لانهائية الصحراء التي هي بيته الكبير كما تؤكدها له رسالات السماء فيما نزل من ديانات، ثم هي شخصية يتعاون في بنائها عنصرا «العقل» و«الوجدان» بدرجة متوازنة، حتى لا يكاد يكون لأحدهما رجحان على الآخر، ولئن كان هذان العنصران هما شرط العملية الإدراكية في أي إنسان وكل إنسان، إلا أنها في معظم الأقوام الآخرين يغلب أن يرجح فيها عنصر على الآخر، فالشرق الأقصى في جملته، وكما نراه في ثقافته التقليدية، كان أميل إلى إدراك الحقيقة بوجدانه الفني أو الصوفي، واليونان القديمة ومن بعدها أوروبا بسائر أجزائها، كانت أميل إلى رؤية الحقيقة بمنطق العقل، وأما العربي فقد أوضحنا فيما أسلفناه عنه، أنه متعادل الكفتين على وجه التقريب: وكان من الأدلة التي سقناها برهانا على ذلك أن العرب الأولين - في التاريخ الإسلامي - نقلوا عن اليونان معظم نتاجهم العقلي من فلسفة وعلم، كما نقلوا تصوف فارس والهند، ولا نعرف من أمم الشرق القديم أمة أخرى جمعت في ثقافتها هذين العنصرين معا بالدرجة التي حققتها في هذا الصدد أمتنا العربية، مما حدا بنا أن نتردد في جعلها «شرقا» مع الشرق أو «غربا» مع الغرب؛ لأنها «شرق-غرب» معا.
فلنحمل في أذهاننا هذا التصور عن طبيعة العربي، فهو - إذا شئنا عبارة موجزة يسهل حفظها - عالم شاعر متدين، «وقد اخترنا الشعر وليس التصوف، إشارة إلى الحياة الوجدانية العربية لغلبة الشعر في حياته»، فهو عالم يعمل عقله في التحليل والتعليل واستدلال النتائج كما رأيناه في علوم اللغة والفقه، والحديث والكلام والنقد الأدبي، فضلا عن علوم الرياضة وبعض علوم الطبيعة، وهو وجداني يلقي ببعض زمامه إلى قلبه وما ينبض به، كما رأيناه متدينا وشاعرا ومتصوفا، وقد تسهل مقارنة العربي كما صورناه بهذه العبارة الموجزة بابن الغرب في عصرنا، كما صوره «ليفس» وكان أستاذا للأدب في كيمبرج وناقدا ذا وزن في الحياة الأدبية في بلاده، إذ قال عن الغرب في هذا العصر إنه «منطقي تقني منفعي»، أما «المنطق» فواضح في نزعته العلمية، وأما «التقنيات» فهي في صناعاته، وأما النفعية ففي موقفه الأخلاقي نحو المقبول والمرفوض، وإننا لنعيد سؤالنا مرة أخرى: هل يتعذر على العربي أن يجد مكانه في عصره هذا دون أن يهدر ذرة واحدة من كيانه؟
ضع بين يديك الصورتين في إيجازهما الذي افترضناه: فالعربي متدين عالم شاعر والغربي العصري عالم تفني منفعي، فماذا يضير العربي أن يأخذ من العصر منطق العلم الذي هو بالفعل من مقوماته؟ وماذا يضيره أن يدخل بصناعاته مرحلة التقنيات كما هو مدخلها بالفعل في حياته العملية ولا يبقى إلا أن يسهم في ابتكارها؟ وأما الجانب المنفعي في أخلاقيات الغرب فليستبدل بها أخلاقياته الدينية والتي ذكرنا لك فيما أسلفناه أننا نأخذ أخلاقياتنا من الوحي الديني، حتى ولو لم تكن المنفعة المرجوة متحققة في هذه الدنيا فهي متحققة في الحياة الآخرة.
بهذه النتيجة انتهى صاحبنا عن إيمان بوجوب الدعوة إلى هوية عربية أصيلة تتبنى إضافة الحداثة، كما هي متمثلة في صورة العلم الجديد، تقنياته مشاركة في ابتكاره وليس اكتفاء بشرائه من أصحابه.
نهاية الطريق «3»
لم تكن أعوام الستينيات قد انتهت، حين اكتملت الرؤية عند صاحبنا، وهي رؤية كانت له بمثابة زهرة اعتملت لإخراجها شجرة حياته منذ جاوز المراهقة ليدخل مرحلة الشباب، فليس في ذلك الامتداد الزمني الطويل مرحلة واحدة خلت من جهد مبذول في تحصيل المعرفة وإرهاف الحس النقدي وتهذيب الذوق المدرك، وأعني القدرة على تقويم الأشياء والأفكار بنوع من الوجد المباشر، وبالتالي فلم يكن في ذلك الامتداد الزمني الطويل مرحلة خلت من الموقف يتخذه صاحبنا في مواجهة الحياة والجانب الثقافي منها بوجه خاص، على أن تلك المواقف التي تعاقبت مع تعاقب المراحل العمرية، لم تتناقض سابقها مع لاحقها، بقدر ما كانت تنمو وتنضج، فهي في كل مرحلة لاحقة تضيف وتحذف وتعدل من مضمون الموقف في المرحلة التي سبقت، لكن تبقى وجدانية واضحة في الروح والشخصية والاتجاه، وإننا لنقرأ أول موضوع خطه قلمه سنة 1927 (أو 1928)، وكان صاحب القلم لم يزل طالبا، وكان الموضوع محاولة لتحليل شخصية الخليفة أبي بكر الصديق، بقصد الوصول إلى ذلك الجوهر في شخصيته، الذي جمع صفتين تبدوان كالنقيضين، وهما أنه كان ما كان من حزم صارم، ثم كان في الوقت نفسه من رقة الطبع ما بلغ به في عذوبة الخلق حدها الأقصى، نقرأ لصاحبنا هذا الذي جرى به قلمه أول ما جرى ليكتبه شيئا تنشره مطبعة، ثم نقرأ أي شيء مما يكتبه في آخر مراحله هذه، فنكاد لا نجد فرقا في طريقة التفكير وأسلوب العرض.
لا لم يكن ما اختلفت به مراحل عمره كذلك الذي يختلف به آخرون من يمين إلى يسار أو من يسار إلى يمين، وإننا إذ نقول ذلك فلسنا نريد حرمان أحد من أن يغير وجهة نظره مع تغير خبرته، ولكن الذي أردناه هو أن نقرر واقعا عن مراحل الحياة التي اجتازها صاحبنا منذ بدأ شبابه الباكر وإلى يومه هذا، وذلك الواقع هو أنه بدأ متطلعا إلى حياة ثقافية تزود صاحبها بالقوة في هذا العالم المتنافس المتقاتل، ثم انتهى في يومه هذا إلى الأمنية نفسها، على أن تلك القوة المتشددة، كما رآها أول حياته، وكما يراها الآن وهو في آخر تلك الحياة، لن يحققها إلا زاد من علم العصر وفنه وأدبه، وأما ما لم يستقر عليه رأي صاحبنا، وما أخذ يغير فيه ويبدل على تعاقب المراحل فهو موقفنا من الماضي، فليس لكائن حي أيا كان نوعه - ودع عنك الإنسان - مندوحة عن الصلة بماضيه، ولكن كيف؟ وكم؟ ذلك هو موضع النظر عندما يتغير الرأي حينا بعد حين.
فنحن - إذن - حين نقول في مستهل هذا الحديث: إن أعوام الستينيات لم تكن قد بلغت ختامها، حين اكتملت لصاحبنا رؤيته، فلسنا نعني أنه قد لبث - منذ بدأ حياته الواعية من الناحية الثقافية - ما يزيد على ستين عاما، يحيا في فراغ، لا رأي له ولا موقف، بل نعني أن آخر الأطوار في مراحل حياته المتطورة قد انتهى به إلى رؤية عرف بها كيف نجري ماضينا في حاضرنا، وبأي نسبة نجريه، وأما جانب العصرية الثقافية وأهميته وضروريته فهو راسخ رسوخ الصخر، لا ندخل عليه تغيرا إلا أن نزيده قوة ورسوخا.
وبهذه الرؤية المكتملة بدأت معه أعوام السبعينيات، وشاءت الأقدار التي تعرف كيف تمشي خطاها لتبلغ ما أرادت أن تبلغه، أن صاحبنا لم يكد يعود من العمل بجامعة الكويت، ليستأنف عمله بجامعة القاهرة، حتى جاءته الدعوة من جريدة الأهرام ليشارك أسرتها الأدبية في جهودها، فسنحت له فرصة نادرة، ليضع رؤيته المتكاملة فيما يكتبه، بل إنه لم يكتب منذ تلك الحين إلا ما يتعلق من قريب بتلك الرؤية التي جاءت أحداث السبعينيات لتزيدها رجحانا، فقد شهد ذلك العقد من السنين حربنا الظافرة مع إسرائيل سنة 1973، ومن موقع القوة المنتصرة عقدنا معاهدة السلام مع إسرائيل في أواخر العقد، وما هو وجه الرجحان الذي اكتسبته وجهة النظر التي اصطنعها صاحبنا لنفسه، بسبب تلك الأحداث؟ وجواب ذلك هو حقيقة، تاريخية واقعة، لم تلتفت إليها أنظارنا بالوعي الكافي، وهي أن إسرائيل حين ألقت عصاها بأرض فلسطين، واعتزمت أن تستقر بها النوى فإن ذلك يعني، فيما يعنيه، أننا تغافلنا عن مدى الهوة التي تفصلنا عن عصرنا هذا، حتى هجم علينا غازيا مستعمرا أول الأمر، ثم مستوطنا في قلب أرضنا في صورة إسرائيل؛ لأن هذه الدولة الناشئة قد جاءت وقوة العصر، التي هي قوة علمه، تسري في أوصالها، وأصبحت المواجهة المتحدية بين حياتنا في تراخيها وحياة العصر الحاضر في شيطنته أمام أعيننا، عرفناها سلبا من هزيمتنا سنة 1967، ثم عرفناها إيجابا حين انتصرنا سنة 1973، ففي الحالة الأولى جهلنا فأسأنا التقدير، وفي الحالة الثانية علمنا فأصبنا الهدف.
Bog aan la aqoon