وأما هدف الثورة في تحقيق العدالة الاجتماعية فقد ظل هو هدفه؛ لأنه - كما تبين من الأمثلة التي سقناها مما كان يكتبه قبل إعلان الثورة - لم تكن تهدأ له نفس أو يسكن في يده قلم، إزاء المفارقات البشعة التي يراها بين إنسان وإنسان من أبناء الوطن الواحد، ولعل أبشع ما أثاره من تلك المفارقات، أن حملة الأقلام الذين طفقوا يحاربون بسنان أقلامهم في سبيل حقوق الإنسان لمجرد كونه إنسانا، كانوا هم أنفسهم إذا ما وصل أحدهم إلى مقاعد السلطة، تعلق قلبه بهيلمان السلطان، ولم يكن يرضيه أن تنمحي المسافة بينه وبين سائر عباد الله، لكن الذي لم يفهمه، صاحبنا، وهو إلى يوم الناس هذا لا يفهمه، أن يتساوى النظر فيما له صلة بالعدالة الاجتماعية، بين أمور «الثقافة» وأمور غيرها من ميادين الاقتصاد والسياسة وغيرهما من جوانب الحياة الجديدة، فقد كان من العدل الاجتماعي حقا أن تؤخذ أرض زراعية من كبار ملاكها، لتوزع ملكيات صغيرة على الزارعين، وقد كان من العدل الاجتماعي حقا، أن تفتح أبواب التعليم أمام القادرين من الناحية العقلية على مواصلة الدراسة في مراحلها جميعا، بلا تفرقة بين غني وفقير، ومن ثم وجبت مجانية التعليم، وهكذا قل في كثير من أوجه الحياة الاجتماعية، أما أن ينظر بالنظرة نفسها إلى مجال «الثقافة» فذلك ما تعذر فهمه على صاحبنا، حين خيل إليه أن أولي الأمر يستهدفون الحد من فرص الثقافة الرفيعة، التي هي دائما ثقافة الصفوة العقلية والذوقية، وهي صفوة لا تصطفى على أسس المال والجاه والنسب، بل تقوم على أساس المواهب الفطرية، أقول: إن صاحبنا قد خيل إليه أن الميل متجه نحو الحد من فرص الثقافة لحساب ما أسموه بثقافة الجماهير، كأنما الأمر في هذا هو أمر إما أولئك وإما هؤلاء، كما هي الحال في ملكية الأرض الزراعية، وواقع الحقيقة في موضوع «الثقافة» هو أنها كالجبل لا يصير جبلا إلا إذا كانت له ذروة وسفوح، ولا سبيل إلى تثقيف السفوح إلا عن طريق الذروة، فهذه الذروة العليا تعطي من يليها وهؤلاء أو من يليهم هم الذين يتولون تثقيف السفوح بما يكتبون وما يذيعون، وليس في هذا القول ذرة من استعلاء أو غرور، بل هو وصف أمين لما يقع فعلا في واقع الحياة السوية، فقد نزل القرآن الكريم للمسلمين جميعا، ومع ذلك فلا بد لجماهير المسلمين أن يستمعوا إلى علماء الذروة وفقهائها: على أي نحو تفهم آيات الكتاب الكريم، وماذا يمكن استنباطه من أحكام الشريعة، استدلالا من تلك الآيات الكريمة؟ ولا يسوغ العاقل أن تحد فرصة العلم والفقه، لحساب التوسع في خدمة الجماهير، وعلى غرار ما يكون إسلام الجماهير هو من جنس إسلام العلماء والفقهاء، وإن اختلفت الدرجة بينهما ارتفاعا وانخفاضا في إدراك المعاني والأحكام، كذلك يكون الشأن بين صفوة الثقافة الرفيعة وثقافة الجماهير، بحيث يكون الهدف الأسمى، هو أن يتذوق عامة الناس ما يتذوقه أصحاب المواهب العظيمة، مع اختلاف في الدرجة لا في النوع.
وقد بلغ اختلاف وجهات النظر في هذا الصدد أقصى حدوده، حتى لقد ساغ للسائلين من ذوي المكانة أن يسألوا مستنكرين: هل هناك ما يسمى بالثقافة الرفيعة؟! إن الثقافة ثقافة لا رفعة فيها ولا انخفاض! وهكذا بلغ الاختلاف بين وجهات النظر، وكأن أسلافنا من كبار الفقهاء والعلماء، لم يفرقوا بين ما هو «للخاصة» وما هو «للعامة» في مجال الفقه والعلم، بل إن خاصة الناس عندهم كانوا ينقسمون منزلتين: فهنالك فوق الخاصة من أسموهم «خاصة الخاصة»، أو كأن القرآن الكريم لم يفرق لنا في طرق الدعوة إلى سبيل ربنا بين جماعات ثلاث من مراتب المعرفة، فيكون لكل منها ما يصلح لها من سبيل الدعوة: فهنالك خاصة الخاصة ممن يحتكمون إلى العقل المدرك لفواصل المعاني تمييزا لها ودقة في فهمها، وسبيل الدعوة إلى هؤلاء هي طريق «الحكمة»، ومعنى الحكمة هو الارتكاز على منطق الاستدلال العقلي في الوصول إلى النتائج والأحكام، وهنالك دون هؤلاء جماعة الخاصة في عمومهم، وسبيل الدعوة إلى هؤلاء هو طريق الجدل، ومعنى «الجدل» هو أن تبدأ المحاجة من حقيقة مسلم بصحتها، لا يطلب عليها هي نفسها برهان، كأن تعرض إحدى حقائق العقيدة الدينية موضع التوضيح، فيسلم الطرفان معا - عارض الموضوع ومتلقيه - بصحتها، فلا يبقى للعارض إلا أن يوضح للمتلقي معناها وما يترتب عليها من معان فرعية وأحكام، وأما عامة الناس من سواد الجمهور فلا هم يستطيعون ملاحقة التحدث على المستوى الأول، ولا هم يستطيعون المشاركة على المستوى الثاني، إذن فلهؤلاء العامة سبيل ثالثة إلى الدعوة الدينية، وهي طريق «الموعظة الحسنة»، ومعنى الموعظة هو تبين الحقيقة المعروضة بضرب الأمثلة، والفرق واضح بين أن تعرض فكرة على الناس لا تستند في إيضاحها إلا إلى أمثلة عملية تجسدت فيها تلك الفكرة المعروضة، كأن يسأل سائل: ما معنى «العدل» بالنسبة إلى الحاكم؟ فنضرب له مثلا بعهد عمر بن عبد العزيز، فليس في هذه الإجابة أي ذكر بعنصر من العناصر التي تتكون منها صفة «العدل» التي هي موضع السؤال، أقول: إن الفرق واضح بين إجابة كهذه، وبين ما أجاب بها علماء الكلام في الفكر الإسلامي، عن «العدل» وقد كان للمعتزلة في ذلك التعريف بالعدل موقف تميزوا به دون سائر العلماء من الفرق الأخرى، وهؤلاء جميعا يندرجون تحت عنوان «الجدل»؛ لأنهم يسلمون بادئ ذي بدء بوجوب قيام «العدل» صفة لله سبحانه وتعالى، وبالتالي فهي كذلك صفة مطلوبة في حكومة الناس في هذه الدنيا، وفوق أهل «الجدل» وجمهور «الموعظة» تأتي خاصة الخاصة من أرباب «الحكمة» فهؤلاء يبدءون حجاجهم من الصفر - إذا صحت هذه الكلمة في هذا السياق - بمعنى ألا يفترض من البداية أن ثمة شيئا اسمه «العدل» ليبدأ المتحدثون بتحديد ماذا عساه أن يكون، وهل لا بد له أن يكون؟ حتى إذا ما استقر الرأي في ذلك انتقل المتحاجون إلى استدلال ما يترتب على وجوده أو على ضرورة وجوده.
ذلك هو تراثنا في النظر إلى قدرات الناس المتفاوتة، بحيث يتحتم أن يكون لكل درجة منها ما يلائمها من الغذاء الإيماني إذا كنا في مجال الدين، والغذاء الثقافي بصفة عامة إذا كانت «الثقافة» هي مجال الحديث، على أننا نكرر هنا، إنه سواء أكان الحديث مقصورا على المجال الديني، أما كان شاملا للحياة الثقافية كلها، فليس الاختلاف بين الذروة وعامة الجمهور، خلافا في لب الموضوع وجوهره، بل هو في درجة الوعي بتفصيلاته وتعليلاته، إذن يكون الفرق بين ثقافة الذروة وثقافة الجماهير هو أن الذروة تبدع والجماهير تعمل على تذوق ما أبدعته، وبغير الأولى لا يتحقق للثانية وجود؛ فكلنا مؤمن بدينه، لكن الصفوة منا تؤمن وتعرف على أي الأسس جاء ذلك الإيمان، وأما الجمهور فيؤمن إيمانا قد يقف به عند حد الإيمان، إلى أن تسعفه الصفوة بما يستطيعه من تعليل وتأصيل، وكلنا مفطورون على ذوق فني مبهم، لكن الصفوة وحدها هي التي تعرف شيئا عن السر في ذلك التذوق، ومطلوب منها أن تنقل إلى عامة الجمهور ما أمكن نقله من تلك المعرفة؛ حتى لا يظل التذوق الفني عنده أصم وأبكم.
على أن هذه التفرقة بين خاصة وعامة في الحياة الثقافية، لا ينبغي لها أن تصرف أنظارنا عن حقيقة بدهية لم تكن لتحتاج إلى تنويه وتذكير، لولا أن ظروف الحياة التي نحياها كثيرا ما تضطر الناس اضطرارا إلى التسرع في قراءة ما يقرءونه، والتعجل في فهم ذلك الذي قرءوه، وأعني بتلك الحقيقة البدهية أن الصفوة الموهوبة المبدعة في عالم الثقافة إنما تستقي إلهامها من نبض الحياة التي تحياها جماهير المواطنين، ولا يتحقق ذلك الاستلهام للمبدع لأن المبدع من أهل القمر أو المريخ ينظر من عل إلى الكوكب الأرضي وأهله، وإنما يتحقق ذلك لأن المبدع المستلهم هو في الوقت نفسه مواطن من زحام المواطنين يحيا حياتهم ويضيق صدره كما تضيق صدورهم، لكنه - دون سائر الجمهور - أقدر على رؤية السر، وأكثر سيطرة على الوسائل التي تخرج مكنونات الصدور إخراجا تسمعه الآذان ألحانا وشعرا، وتطالعه مسرحا ورواية، وتتذوقه لوحات من فن التصوير، إلى آخر وسائل المبدعين، فليس في الأمر سيد ومسود، بل فيه مواطن يهمس لمواطن بما يشتركان فيه من خلجات الشعور.
وربما وجب علينا في هذا السياق أن نضيف إلى العلاقة بين الخاصة والعامة في دنيا العقيدة، والفن والأدب جانبا آخر كثيرا ما ينسى أو يغض عنه النظر، برغم أهميته في حياة الناس، عندما يكون هؤلاء الناس جميعا على اتفاق في إرادتهم لتغيير حياتهم تغييرا ينهض بها نحو ما هو أعلى وأكمل، فيصوغون أو يصاغ لهم «مفاتيح» «لفظية» كل مفتاح منها يلخص بعدا من أبعاد التغيير المطلوب فتشيع فيهم كلمات مثل «حرية» و«اشتراكية» و «ديمقراطية» و«إرادة الشعب» إلخ إلخ، إلى هنا والأمر ضروري وطبيعي؛ إذ لا بد من بلورة التغيير المنشود في أمهات مسائله ولا يتم ذلك إلا بأن يطلق على كل مسألة فيها اسم يميزها، لكن الذي يحدث بالفعل في هذا الصدد هو أن تتحول تلك المفاتيح اللفظية إلى أجراس تدوي برنينها دويا يملأ المسامع، لكنه لا يبلغ عند معظم المواطنين بمن فيهم نسبة كبيرة من «المثقفين» أن يكون له في عقولهم «معنى» معلوم حق العلم، وما «حق العلم» هذا؟ هو أن يتحول المعنى في ذهن حامله إلى خريطة أفعال محددة المعالم واضحة الخطوات، فنحن - إذن - أمام ثلاث درجات متصاعدة إزاء تلك المفاتيح اللفظية التي عادة ما تكون هي المحاور التي تقدم لأفراد الشعب على أن ينسجوا حولها نشاطهم الفكري: أما الدرجة الدنيا من تلك الدرجات الثلاث والتي هي أوسعها شيوعا في أفراد الشعب الذي أراد أن يغير من حياته، فهي درجة الاكتفاء بمجرد اللفظة ينقطونها ويكررونها ويتحمسون لها، دون أن يكون لديهم من دلالاتها إلا أقل من القليل، وتعلو على هذه الدرجة اللفظية الدنيا درجة يلم فيها حامل اللفظة خيوطا من معناها وكأنها موحدة المعنى، ومن هنا يضيق الأفق عنده إلى الحد الذي لا يتصور معه أن يكون عند غيره من الناس معنى آخر أو معان أخرى، فينتج عن ذلك تعصب سياسي أو اجتماعي يضر ولا ينفع، والأغلب عند أصحاب هذا المعنى الواحد لكل مفتاح لفظي من مفاتيح الحياة الجديدة، ألا يكونوا على إدراك واضح بأن كل لفظ من تلك الألفاظ الجليلة إنما هو اسم اختاره صاحب مذهب معين، ومن حق غيره أن يذهب مذهبا آخر تحت هذا اللفظ، فمن أطلق لفظ الحرية لأول مرة لم يكن قد استوعب مقدما كل ما سوف تعنيه هذه الكلمة عند مجموعة الدعاة على تعاقب العصور، ولا أول من أطلق كلمة «اشتراكية» أو «ديمقراطية» قد فعل مثل ذلك، ولا كان في مستطاع بشر أن يفعله؛ فلكل حركة اجتماعية، داخل كل شعب من الشعوب، في عصر من عصور تاريخها ما تعنيه أمثال تلك المفاتيح اللفظية؛ وعلى ذلك كان الواجب الأول على رجل «الفكر» في كل حالة من تلك الحالات، أن يحدد على وجه الدقة عناصر المعنى المطلوب لكل مفتاح منها، وبمثل هذا التحديد وحده يستطيع حامل المفتاح من أفراد الجمهور أن يحوله إلى خريطة أفعال تتسق معه ومع غيره من المواطنين في نمط سلوكي واحد متفق عليه، وأما ثالث الدرجات ارتفاعا في سلم الفهم الصحيح لتلك المفاهيم اللفظية في حركة التغيير، فهي عند هؤلاء القادرين على مقارنة أطياف المعاني المختلفة للمفتاح الواحد مقارنة تزيده وضوحا من جهة، وتزيد الناس قدرة على اختيار ما يختارونه من تلك البدائل.
كان صاحبنا واحدا بين ملايين المواطنين الذين صفقوا للتغيير الاجتماعي نحو عدالة تعم الجميع في معاملات كل منهم مع الآخرين، وهو تغيير كان الشعب قد «أراده» إرادة لم تجد وسيلتها إلى العبور من بواطن الصدور إلى دنيا الفعل والتفاعل، لكن صاحبنا مع آخرين كان يدرك إدراكا ملزما بأن مفاتيح التحول الاجتماعي الجديد قد شاعت في الناس على غموض، وبات واجبا على من استطاع أن ينشر ما قد يزيد الحركة سدادا في خطاها نحو عدالة اجتماعية معلومة الحدود، واضحة القسمات.
إرادة التغيير «2»
عندما نودي بإقامة عدالة اجتماعية، لتكون محورا لما قامت ثورة الضباط الأحرار في شهر يوليو من سنة 1952 من أجل تحقيقه، أخذت تتفرع أمامنا تلك الصياغة المحورية فروعا فروعا، وكأن كل الأهداف النبيلة التي تعلق بها طموح الإنسان على امتداد تاريخه محتواة في هاتين الكلمتين: «عدالة اجتماعية»، والحق أن مثل هذه المرونة في مصطلح معين، ليتسع بها وعاؤه إلى أقصى ما يريد له الإنسان أن يتسع، بحيث يمكن أن تجتمع في جوفه كل ما يريد صاحب المصلحة أن يضعه فيه، إنما هي صفة تلحق دائما بكبريات «القيم» التي هي الموجهات للإنسان في ميادين نشاطه، ولولا هذه المرونة الشديدة في القوة الدلالية لأسماء تلك القيم ، لما استطاع كل اسم منها أن يستوعب ما لا حصر له من المواقف المختلفة في حياة الناس برغم كثرتهم، وتنوع مناشطهم، ولو راجعت الحركات الإصلاحية الكبرى، التي تغيرت بها صور الحياة الإنسانية على أيدي عمالقة الفكر، لرأيت كل حركة منها قد قامت لتحقق «مبدأ» جديدا، يغلب فيه أن يكون أوسع أفقا، وأعلى رتبة من «المبدأ» الذي كانت تقام عليه الحياة من قبل، ولم يعد يصلح بسبب ما قد طرأ على أوضاع الحياة العملية من تغير تطورت به حاجات الإنسان وضروراته إلى أمام وإلى أعلى في آن معا، فكان لا بد للحياة أن تفرز من أبنائها من يقوى على حمل رسالة جديدة، أو مبدأ جديد، لتتبدل الصورة، فينشأ جديد ويفنى قديم، ومثل هذا «المبدأ» الجديد الذي يوضع للحضارة الجديدة التي يبشر بها المصلح العملاق، موضع العنوان من الكتاب قد ينحصر في كلمة واحدة، أو بضع كلمات قليلة، لكنها اختيرت من ذوات المرونة الدلالية التي أشرنا إليها، ليتسع مداها إلى جميع ما سوف تتكون به أوجه الحياة النظرية والعملية معا.
لكن تلك السعة الدلالية التي تتميز بها أسماء «القيم»، كالحرية والعدالة، والحب، والخير، وما إليها، تستتبع بالضرورة غموضا في المعنى، وهذا «الغموض» النسبي في تلك الأسماء، هو هو نفسه الذي أتاح لكل اسم منها أن يكتسب مرونة المعنى، فبينما اسم «الحرية» يمكن أن يحمل في معناه إضافات يظل الإنسان يضيفها إليه عصرا بعد عصر، نجد اسم «المثلث» لا يتحمل إلا معنى محددا واحدا مهما تعاقبت عليه عصور العلم نماء وارتقاء، وبسبب مرونة المعنى في اسم «الحرية» كان غموض نسبي في ذلك المعنى، وكذلك بسبب تحديد المعنى في اسم «المثلث» كان وضوحه المطلق، الذي لا يحتمل لبسا، ومن هنا رأينا الغموض النسبي في الحالة الأولى، كثيرا ما يفرق بين الناس في معتقداتهم ووجهات أنظارهم، إلى حد القتال في ميادين الحرب أحيانا، بينما استحال عليهم في الحالة الثانية أن يختلف بينهم الرأي، بل إن كلمة «الرأي» نفسها غير واردة في مجال الوضوح العلمي، ولكنها ترد ورودا طبيعيا في حالة الغموض النسبي الذي يكتنف عالم «القيم»، فليس من المقبول أن يقول لنا قائل: إن «رأيي» في المثلث هو أنه سطح تحيط به ثلاثة أضلاع، بينما نقبل أن يقول: إن رأيي في الحرية هو أنها حق فطري لكل إنسان.
فلما نودي في ثورة 1952 بمبدأ «العدالة الاجتماعية» فإنما جاء ذلك النداء ليفصح عما أضمرته الصدور، ولو استثنينا أفرادا قلائل ممن كانوا ينعمون بامتيازات هائلة: ثراء وجاها ونفوذا وسلطانا، وبالتالي لم يكن في مصلحتهم أن تسود عدالة تتناول الجميع على حد سواء، أقول: لو استثنيت هؤلاء الأفراد القلائل، لأمكن القول بأن الدعوة إلى عدالة اجتماعية، إنما كانت صدى لما يكنه أبناء الشعب جميعا، لكن أحدا لم يسأل: ما هي تلك «العدالة» المنشودة، وماذا في خصائصها قد جعلها «اجتماعية»؟ أهي من جنس «العدالة» التي تسعى إلى تحقيقها المحاكم، بأن ترد إلى أصحاب الحقوق الضائعة حقوقهم ممن اغتصبوها ظلما؟ وإن كان ذلك كذلك فأين الجديد الذي تنشده الثورة، وينشده معها أبناء الشعب جميعا؟ أم تكون عدالة المحاكم تعنى بحقوق «الأفراد» أو من يتخذ لنفسه صفة الفرد من هيئات وجماعات، وأما «العدالة الاجتماعية» التي جاءت الثورة لتحقق وجودها بعد أن لم يكن، فمقصود بها النسب القائمة بين «طبقات» المجتمع؟ وإذا كان هذا هو شأنها، فقد افترضت مقدما - إذن - وجود طبقات اجتماعية منها ما يعلو ومنها ما يسفل على نحو لا يبرر للأعلى أن يكون أعلى، وللأسفل أن يكون أسفل.
Bog aan la aqoon