فلئن كانت العلوم بمجموعاتها الثلاث، تختلف فيما بينها منهجا على النحو الذي ذكرناه، إلا أن مناهجها جميعا تتفق في كونها مقامة على منطق «العقل»، ولقد سبق لهذا الكاتب في مناسبات كثيرة؛ رغبة منه في أن تكون هذه الكلمة الهامة والخطيرة محددة المعنى تحديدا لا لبس فيه ولا غموض، ومع ذلك فلا بأس في أن نعيد تحديدها مرة أخرى، فنقول: إن العملية الذهنية تكون «عقلا» إذا كانت حركة استدلالية، ينتقل فيها الذهن من مقدمات موضوعة بين أيدينا، إلى نتائج تترتب عليها، وفي العلوم الرياضية تكون تلك المقدمات «فروضا» يقدمها العالم الرياضي، وكان من حقه كما هو من حق غيره، أن يقدم فروضا أخرى، وعندئذ تصبح النتائج مختلفة، ويصبح البناء الرياضي كله غير الذي كان، وأما في العلوم الطبيعية، فنقطة البدء دائما تكون معطيات قدمتها لنا حواسنا عن الحقيقة الواقعة، ولا حق للباحث أن يغير مما هو واقع، بل محتوم عليه أن يلتزم به وبنتائجه.
وعند هذه النقطة نتحول إلى مجال «الدين» في مطبوعتنا الزرقاء، لنجد الفارق الواضح بين «علم» و«دين»، حتى إذا ما رأيناه في وضوحه الناصع، حق لنا أن نعجب من علماء أفاضل يخلطون بين المجالين، فيرون «علما» فيما هو «دين»، فلقد أوضحنا لك فيما أسلفناه عن «العلوم» بكل صنوفها، أنها قائمة أساسا على منطق «العقل»، وحددنا لك ما نعنيه في هذا السياق بكلمة «عقل»، وهو أنه حركة استدلالية انتقالية يتحرك بها الفكر من مقدمات أو شواهد، إلى نتائج تكون هي نظريات العلم وقوانينه، أي إن «العقل» ينتهي إلى ما ينتهي إليه بطريق غير مباشر، إذ هو يلجأ إلى حركة انتقالية تتوسط بين المعطيات الأولية من جهة، والنتائج التي تولدت عنها من جهة أخرى، وأما العقيدة الدينية فعمادها «إيمان»، والإيمان طريقه مباشر، فينزل الوحي الإلهي على نبي أو رسول، فيعلنه أمام الناس، فمن قبله كان مؤمنا، والقبول هنا مباشر، لا واسطة فيه بين المسموع من جهة وقبوله من جهة أخرى، شأنه في ذلك شأن العملية الذوقية، تضع الطعام على اللسان فتذوقه بلمسة مباشرة، كما تلمس بأصابعك الحديد الساخن فتحس لسعته مباشرة، بغير وسيط بين الملموس واللامس، وهكذا أيضا تكون النشوة الفنية، إذا استمعنا إلى بيان لغوي أخاذ، كقصيدة جيدة من الشعر أو إذا ما وقعت أبصارنا على موضع في الطبيعة أو في مبدعات الفن، وهكذا ينزل الوحي على القلوب فتنبض بالقبول، فيكون إيمانا، وبالطبع قد يحدث بعد ذلك لمن آمن أولا، أن يتناول ب «العقل» ما كان قد آمن به، ليستدل منه ما يمكن استدلاله، وبهذا يتكون «علم الدين» أو «علوم الدين» حين تتعدد تلك العلوم بتعدد الزوايا التي ينظر بها الباحثون إلى النصوص التي كانوا، وما زالوا، يؤمنون بها إيمان «قلب»، سواء تناولها بعد ذلك «عقل» علمي أم لم يتناولها، فذلك لا يغير من إيمان المؤمنين شيئا.
إن من أخص خصائص الدين، أنه مع الإيمان بالله ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، يمد المؤمنين بمجموعة ضخمة من «قوانين» السلوك الصحيح، فهو آنا «يأمر» بما يجب فعله، وآنا آخر «ينهي» عما لا يجوز فعله، وواضح أن تلك القوانين الأخلاقية، الضابطة لسلوك المؤمنين بالدين المعين، تجيء «قبل» السلوك ذاته، حتى إذا ما أراد السالك أن يسلك طريقا ما وجد بين يديه «القانون» الأخلاقي الموجه له، وهنا نلفت النظر إلى فارق واضح آخر، غير الفارق الذي أسلفناه بين ما هو «علم» وما هو «دين»، فبينما قوانين العلم تأتي «بعد» وجود الظاهرة الكونية، التي استخلص منها العلماء قوانينها نرى قوانين الأخلاق - عند المؤمنين بالدين - تأتي «قبل» أن ينشأ السلوك الذي يهتدي بهديها.
فهل يجوز لنا بعد هذا كله، أن يلتبس الأمر علينا، فنخلط بين «علم» و«دين» خلطا ذهب بنا إلى حد أن نبحث عن «العلوم»، في كتاب الله الكريم ؟ فنسمع عن مؤتمر يقام تلو المؤتمر، ويحضر تلك المؤتمرات علماء نجلهم أعظم إجلال، ونوقرهم أرفع توقير، يحضرونها ليبحثوا مرة عن علم الطب في القرآن الكريم، ومرة ثانية عن علم الاقتصاد، ولقد طالعتنا الصحف ذات يوم بالمهندسين يرجون أن يقام مؤتمر للبحث عن العلوم الهندسية في القرآن الكريم، إنه إذا وردت «حقائق» معينة في الكتاب الكريم، عن هذا المجال أو ذاك، فهي «حقائق» ولكنها ليست «علوما»؛ لأن جوهر «العلم» ليس هو مجموعة معينة من «حقائق»، بل جوهره «منهج» خاص يؤدي إلى الكشف عن تلك الحقائق، فإذا حدث أن تبين شيء من القصور أو الخطأ في تلك النتائج التي كان قد وصل إليها العلم بمنهجه ذاك، جاء من العلماء بعد ذلك من عرف كيف يسد وجه القصور أو يصحح موضع الخطأ، ولعله مما ينفع الناس في هذا السياق، أن نذكرهم بأنه عندما كان «للفلسفة» اليونانية التي نقلها العرب المسلمون في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، نوع من ارتفاع المنزلة عند رجال الفكر يومئذ، فقد أحسوا بشيء من الغيرة على ما قد نزل به الدين الموحى به، فاتجهوا بجهدهم نحو أن يبينوا أن ما قد أنتجته حكمة الفلاسفة وارد في القرآن الكريم، ثم لم يلبث نفر من أئمة الفكر الإسلامي، كابن تيمية والغزالي، أن أخذهم القلق من ذلك الموقف الذي ربما دل على شعور بالنقص إزاء وافد عليهم من خارج دينهم، وتمضي القرون، وإذا بوافد آخر يأتينا من خارجنا، وهو هذه المرة «علوم» لا فلسفة، فواعجبا أن نرى الغيرة القديمة قد أخذت علماءنا المحدثين والمعاصرين، فاتجهوا بجهدهم أيضا ليقولوا إن ما قد جاءت به «العلوم» الحديثة، وارد في القرآن الكريم، وفي الرأي المتواضع لكاتب هذه السطور، أن «الدافع النفسي» في كلتا الحالتين لم يكن له ما يبرره، فإذا ظهرت فلسفات هناك، أو علوم هنا، فتلك وهذه ملك للإنسانية كلها، وواجبنا الصحيح هو المشاركة الإيجابية الفعالة في هذه وتلك معا، على قدم المساواة بيننا وبين سوانا، إذ ليس في الأمر ما يدعو أحدا إلى هجوم ودفاع، إن القرآن الكريم هو كتاب الإسلام، والدين والعلم يتكاملان في الإنسان كما يتكامل فيه السمع والبصر، أو كما يتكامل القلب والرئتان دون أن يكون السمع بصرا أو البصر سمعا، ودون أن نقول عن الرئتين إنهما موجودتان داخل القلب، أو إن القلب موجود داخل الرئتين، وعلى هذا القياس لا يكون الصواب هو أن يقول المؤمن إن لي دينا فيه العلم، وإنما الصواب هو أن يقول: إن لي دينا، وعلما محكوما بقيم الدين.
ها نحن أولاء قد فرغنا - في استطلاعنا لأقسام المطبوعة الزرقاء - من الحديث الموجز عن الدين والعلم، وما بينهما من فواصل وصلات، وبقيت أمامنا أقسام أخرى، كالأدب بفروعه، والفن وفروعه، والفلسفة ووظيفتها إزاء هذا كله، فليس لنا يد، إذا نحن أردنا لأنفسنا وضوح الفكر، من أن نكون على بينة من طبائع هذه الأقسام التي منها تتألف حياتنا الفكرية، ففي الخلط بينها زلل وخبط في الظلام.
المطبوعة الزرقاء «2»
«سر البلاغة في الوصل والفصل» ... هذا مبدأ في نقد الأدب، صاغه في هذه العبارة الموجزة ناقد عربي قديم، ولست على رأي ثابت في مدى صحته، فبينما هو أمر مقطوع بصوابه، أن يكون جانب من براعة الأديب أن يحسن «الوصل» و«الفصل» بين أجزاء الكلام، بحيث تجيء «عبارته» منسابة في يسر وكأنها مسلسل من ينبوع دافق، لا يتعثر فيها القارئ عند الفواصل، لكنها - مع ذلك الانسياب المتصل - لا يفوتها أن تقف وقفات مفاجئة، بطريقة من طرق الفصل بين سابق ولاحق، وذلك عندما يراد للقارئ أن يتنبه لحقيقة هامة يوردها الكاتب في سياق حديثه؛ لأنه إذا امتد الأمد بالقارئ في انسياب موصول منغوم، فقد تأخذه سنة من خدر، وعندئذ يصبح في حاجة إلى «فصلة» تشق عليه الطريق المطرد، فتوقظه، وهكذا يظل القارئ، بين انزلاق يسهل فوق سطح أملس، من كلام محبوك الوصلات، بين أجزائه، ووقفات تقطع الرتابة، عند مواضع ينفصل فيها سابق عن لاحق. أقول إنه بينما هو أمر مقطوع بصحته أن يكون على براعة يحسن بها وصل الكلام وفصله، فهنالك ما يبرر لنا أن نتساءل قائلين: أحقا إن سر البلاغة كامن في هذه البراعة وحدها؟ فنحن إذا ما أدرنا البصر بلمحة واحدة، إلى آيات الإبداع الأدبي، وجدناها أكثر تنوعا من أن تكون هذه الظاهرة وحدها - وأعني إجادة الوصل والفصل بين أجزاء الكلام - هي الشرط الضروري والكافي لتعليل «البلاغة» وتأصيلها.
على أننا وإن كنا نتردد في قبول هذا المبدأ النقدي القديم - الذي أراد أن يجعل في «الوصل والفصل» أساسا تقام عليه «البلاغة» بجميع أشكالها - فنحن على استعداد لقبول هذا الأساس نفسه، لنقيم عليه «وضوح الأفكار»، والفرق بعيد بين «أدب بليغ» و«فكر واضح»، وليس أمامنا أدنى مجال للشك، بأن الحد الفاصل بين «فكرة واضحة» و«فكرة غامضة»، هو أن الأولى تدقق في جمع ما هو متشابه ليكون بمثابة الأفراد في أسرة واحدة، قد يختلفون في صفات عارضة، لكنهم يتفقون في عصب واحد، وفي الوقت نفسه، تدقق الفكرة الواضحة في إبعاد ما ليس ينتمي بطبعه إلى تلك الأسرة، ومعنى ذلك هو أن وضوح الفكر يكمن في «وصل» ما هو متشابه الجوهر، و«فصل» ما ليس منه؛ حتى لا يختلط حابل بنابل، وليست هذه العملية الفكرية الواصلة الفاصلة، بالهنة الهينة التي يستطيعها كل عابر طريق، بل هي مما تحتاج من كاسبها إلى تدريب منهجي طويل، انظر - مثلا - إلى قول الكتاب الكريم، موصيا الولد أن يخفض لوالديه جناح الذل من الرحمة، فها هنا تصوير «للرحمة» بطائر ذي جناحين، إلا أن الجناحين غير متشابهين، فجناح منهما تكون فيه «الرحمة» استعلاء من الراحم على من يتجه إليه برحمته، وأما الجناح الثاني فتكون «الرحمة» فيه عن استسلام وخضوع لمن يتلقى منه تلك الرحمة، وهذا الضرب الثاني هو الذي يوصي الكتاب الكريم بأن يراعيه الولد نحو والديه، فصاحب الفكر الغامض المتعجل، قد يكتفي بنظرة سطحية إلى معنى «الرحمة» على ظن منه أن المعنى واضح لا يحتاج إلى تحليل وتمييز، فتضيع منه هذه التفرقة بين نوعين غير متشابهين، برغم كونهما يندرجان معا تحت اسم واحد.
وربما دهشت إذا زعمت لك أن جانبا ضخما من التخلف الفكري الذي يلفنا بسواده، إنما يرجع إلى خلط فاضح تخلط به بين المعاني، حتى لقد جاءت الأمثال الشعبية لتشير إليه لعلنا ننتبه فنحذره، وذلك في مثل قولنا: «إذا قلنا: ثورا، قالوا: احلبوه»؛ خلطا منا بين الثور والبقرة، فما بالك إذا ارتفعنا بمستوى الحديث لنتناول الفوارق بين ما يكون من الكتابة «أدبا» وما لا يكون؟ لقد حدث لي ذات يوم بعيد، أن دعاني جار كريم على شاي العصر، مع ضيف دعاه لزيارته، وكان الضيف حاملا لإجازة الدكتوراه في القانون من السوربون بباريس، وهو من مناصب القضاء في درجاتها العليا، وما كادت تدور بيننا أطراف الحديث، حتى اتجه نحوي بهذا السؤال: من أي الكليات الجامعية يتخرج «الأديب»؟ أهي جامعة الأزهر التي تخرج «الأدباء»؟ وكان أعجب ما عجبت له من السائل وسؤاله، هو أن حديثنا قبيل ذلك كان عن توفيق الحكيم وأدبه، وكان السائل هو نفسه الذي بادرني بقوله: إن توفيق الحكيم برغم كونه أديبا عظيما فهو من رجال القانون، فلما رددت عليه قائلا: ولماذا تريد حرمان رجال القانون من موهبة الإبداع الأدبي؟ فاجأني بسؤاله الذي أسلفت ذكره عن الأدباء ومن أية كلية أو جامعة يتخرجون، دون أن يلحظ التناقض الصارخ بين ما تحدث به عن توفيق الحكيم، دارسا للقانون ومبدعا للأدب - وبين سؤاله بعد ذلك مباشرة عن تخريج الأدباء من أين يكون؟ وبرغم ذلك التناقض كله، وهذا التجاهل كله، أخذت أشرح له - مع ذكر الأمثلة من حياتنا الأدبية - كيف أن موهبة الإبداع الأدبي لا شأن لها بنوع الدراسة الجامعية أو غير الجامعية، فأحمد شوقي شاعر ودراسته القانون، وحافظ إبراهيم شاعر ودراسته عسكرية، وإبراهيم ناجي شاعر ودراسته الطب، وعلي محمود شاعر ودراسته الهندسة، وصالح جودت شاعر ودراسته المحاسبة، وصلاح عبد الصبور شاعر ودراسته الأدب العربي، وعباس العقاد شاعر ودراسته في مكتبة منزله.
فإذا رأينا رجلا في مثل هذه الدرجة العالية في التعليم والمنصب، وفي موضوع كموضوع «الأدب» من حيث هو موهبة خلقت خلقا في مبدعيه، قد اختلطت في ذهنه المعاني، اختلاطا أدى إلى ما قد رأيناه من غموض فكري - وهو غموض ربما اقتصر عنده على مجالات غير مجال تخصصه الذي هو «القانون» في صورته النظرية وفي تطبيقه - أقول: إذا رأينا رجلا في مثل هذه المكانة قد انبهمت أمامه الفواصل التي تقيم الحدود بين فكرة وفكرة، فماذا نحن قائلون في أنصاف المثقفين وأرباعهم - ودع عنك عامة الناس - ولا سيما إذا كان الموضوع المطروح بطبيعته صعب التحديد، هلامي المفهوم، وفيه مرونة تسمح لمن شاء أن يخلع عليه من المعاني ما شاء؟! و«القيم» كلها من هذا القبيل: كفكرة الحرية، والعدل، والوطنية، والانتماء، والتضحية، وغير ذلك من المعاني التي هي قوية التأثير في حياة الناس، وهي في الوقت نفسه على كثير جدا من التداخل بعضها في بعض.
Bog aan la aqoon