قلت ذلك لأني أعلم كم نحرص أشد الحرص على الإشادة بالفضائل من حيث هي «أسماء» وكم تغرينا ضرورات الحياة العملية بسلوك يتناقض مع ما نشيد به كلاما، مما يوقعنا في تناقض يضطرنا اضطرارا إلى ازدواجية المعايير، فنتحدث مع الناس على صورة تتفق مع المثل العليا، ونختبئ وراء الجدران لنسلك في الخفاء على صورة أخرى، وسر ذلك - خلال الرؤية السقراطية - هو أننا لم نكن قد عرفنا معنى ما نقوله عن الحياة الخلقية، بكل الدقة التي نعرف بها ما نعرفه عن الهندسة والحساب.
والسعي وراء مزيد من المعرفة بطبائع الأشياء وحقائق المعاني، هو بمثابة الجوهر في حركات «التنوير»، فكلما زدنا أبناء الأمة إدراكا للمعارف الصحيحة عن دنياهم، زدناهم بالتالي «نورا»، وعكس ذلك هو الظلمة والظلام والظلم، نعم، نعم، إن «الظلم» صنو «الظلام» لغة ومعنى، فإذا رأيت الظلم قد باض وأفرخ في هذا الركن أو ذاك من أركان الوطن العربي، فاعلم أن علة ذلك هي أن عتامة قد حجبت «النور» عن الأفئدة لقلة ما يعرفونه، ومع القلة جاءت كذلك أغشية من ضباب الخلط والغموض، ومن أجل هذا قامت في الناس حركات «التنوير» كلما دعت دواعيها، ولب «التنوير» هو مزيد على مزيد من معرفة صحيحة واضحة.
ولست أدري على وجه اليقين، هل كان مثل هذا الوعي بضرورة «التنوير» هو الذي دفع صاحبنا دفعا منذ شبابه إلى الانخراط بقسط كبير من جهده في حركة التنوير، التي نهضت بها حياتنا بعض النهوض إبان عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته، أم كانت هي المصادفة التي صنعت له ميوله نحو نشاط كالذي نشط به منذ ذلك الحين، وهي نفسها الميول التي مالت به نحو أن يترجم المحاورات السقراطية الأربع، وهو لم يزل في أوائل خطواته على الطريق؟
أضاف صاحبنا ما أضافه إلى الأسس السقراطية، وكان له ذلك مع ازدياد علمه بماء جاءت به مراحل التطور الفكري خلال القرن العشرين، إلا أن الصورة السقراطية ما زالت حتى اليوم تجذبه جذبا قويا، حتى ولو طرأت عليها تعديلات يقتضيها عصرنا الجديد؛ كأن تحل رسائل الإعلام في الوصول إلى الناس محل التجول في طرق المدينة وميادينها وأسواقها لمحاورة الشباب محاورات تقشع عن أدمغتهم شوائب الغموض، ومع ذلك فربما أراد صاحبنا أن يتحوط في انجذابه نحو سقراط وطريقته في أداء دوره، بتحفظات لا تورطه فيما لا يجب أن يتورط فيه؛ فقد لوحظ على سقراط أنه غض نظره عن ظلم الطغاة لأثينا في أواخر حياته، وصاحبنا لا يريد أن يغض النظر عن طاغية، وكذلك لوحظ على سقراط أنه كان يفضل الروح العسكرية في مدينة إسبرطة، على روح الحياة الديمقراطية التي تعلقت بها أثينا، كأنما لمس فيها ضربا من التراخي لم يكن يريده لمواطنيه، ومن هنا قال عن نفسه إنه يؤدي في مجتمعه مثل الدور الذي تؤديه الذبابة القارصة التي تلسع لعل لذعاته توقظ الشباب الأثيني من ترهله، وصاحبنا لا يحب للروح العسكرية أن تسود مجتمعا استنار وتحضر، لكنه يرى ضرورة أن يصحو الشباب من غفوته إذا غفا.
فرار إلى مدينة الأحلام
ما زال صاحبنا في الأعوام الأولى، من ثلاثينيات هذا القرن، عندما أخذته الرغبة الشديدة في أن يسافر إلى القدس الشريف في فلسطين، لم يكن يعلم أن الرحلة تبدأ بإجراءات إدارية قد تثبط أصحاب العزائم الضعيفة؛ فينصرفون عما اعتزموا على أدائه، لكن أخانا لم يكن من هؤلاء، فاخترق كل ما وجده من عقبات، وهو ما زال حتى يومه هذا، يذكر أن القطار قد غادر به القاهرة ساعة الغروب وأن عبور القناة وركوب قطار آخر قد استغرق بضع ساعات، وأن هذا القطار الثاني قد وصل به إلى محطة «اللد» عند مطلع الفجر، فنزل ليستقل قطارا من «اللد» إلى القدس، وكان عليه أن ينتظر في محطة «اللد» حتى يجيء هذا القطار، ولم يكن هناك إلا رجل واحد، ارتدى زيه «الكاكي» الذي كان شبيها بأزياء الجنود، وكان الرجل بلا حقائب، شبك يديه خلف ظهره وهو يمشي على رصيف المحطة جيئة وذهابا، واعترضه صاحبنا بسؤال على ظن منه أن الصلة الكلامية في مثل هذا الظرف أمر واجب، حتى ولو لم يكن الكلام يحمل معنى مفيدا، فحياه أولا: صباح الخير (قالها بالإنجليزية) فأجابه بتمتمة لا تتبين فيها حروف، فعاد وسأله: ما جنسيتك؟ وهنا أجاب الرجل في شيء من الخشونة التي تنبئ بشر: أنا يهودي، ومرة أخرى عاد صاحبنا ليسأل: إني لا أسألك عن ديانتك، بل أسألك عن جنسيتك، فصرخ الرجل من غيظ، وأجاب: نعم، جنسيتي هي أني يهودي. ومضى يستأنف مشيته على الرصيف رائحا وغاديا.
لم يستطع صاحبنا على طول ما فكر، وهو في القطار الذاهب به إلى القدس، ماذا عناه ذلك الرجل عندما جعل جنسيته ويهوديته مترادفتين؟ لكنه تجاهل حيرته لعل الأيام تكشف له ما يفسر له الغامض، ووصل إلى القدس، وألقى بحقيبته في أقرب فندق استطاع النزول فيه، وخرج مسرعا ليجلس في مقهى ازدحم بالناس جلوسا ووقوفا، وقد ينسى صاحبنا كثيرا من أحداث ماضيه، لكنه لن ينسى تلك اللحظة التي أخذ فيها مجلسه وسط الزحام، والنشوة تملؤه، والفرحة ترسم على وجهه ملامح ضاحكة، ولم تمض إلا دقائق معدودات حتى جاءه شاب وسيم مشرق المحيا، حسن الهندام، وبعد أن حياه تحية النهار، سأله: أجئت إلينا زائرا؟ فأجابه: نعم، وقد وصلت لتوي آتيا من مصر. فسأله الشاب وكان من عمره في مثل صاحبنا من عمره، قال: هل تأذن لي بالجلوس معك؟ فأجابه القادم المصري: إن ذلك يجعل فرحتي فرحتين. وبدأ الفلسطيني الشاب يقدم نفسه إلى الزائر، فقال إنه تخرج من كلية الحقوق منذ عامين والتحق بمكتب محام في القدس ليقضي به فترة التدريب، ورد عليه الشاب المصري تعريفا بتعريف، وكان أول سؤال ألقاه الفلسطيني على أخيه المصري، هو: ما أخبار «القضية» في مصر؟ فرد المصري على السؤال بسؤال: أية قضية تعني؟ فعاد الفلسطيني إلى السؤال، وعلى وجهه علائم دهشة وتعجب قائلا: «القضية» يا أخي! إنها القضية العربية!
لم يفهم المصري عن زميله شيئا إلا بعد أن أفهمه ذلك الزميل ما لم يكن قد فهمه وأعلمه ما لم يكن قد علمه عن قضية العرب أهل فلسطين، فيما قد نشأ لهم من مشكلات مع الأقلية اليهودية في فلسطين، يشد أزرها المندوب البريطاني.
عاد صاحبنا إلى مصر، وقد عرف ماذا قصد إليه الرجل الذي التقى به في محطة «اللد» حين قال إن جنسيته هي نفسها يهوديته، وكذلك عاد صاحبنا إلى مصر وقد أدرك أنه برغم أنه قارئ يتابع أعلام القلم فيما يكتبونه لم يقع قط على شيء يشد انتباهه إلى «القضية» التي رأى الفلسطيني الشاب أنها هي القضية محددة بأداة التعريف، حتى ليغنيه أن يقول «القضية» ليفهم سامعه إنها هي القضية العربية التي أخذت تتعقد بما نشط بها اليهود في فلسطين يؤازرهم حاكم بريطاني، وأحدثت هذه المفرقة عند صاحبنا أثرا، إذ أخذت تضطرب في صدره أسئلة غامضة عما يعتور حياته الثقافية من أوجه النقص التي يستحيل أن يعود وزرها إليه وحده، ولا بد أن يشاركه في هذا الوزر حملة الأقلام الذين كانت لهم الريادة عندما كان صاحبنا شابا يتلقى.
وتمر الأيام بصاحبنا أعواما بعد أعوام وذكرى ذلك النقاش مع الفلسطيني الشاب في مدينة القدس، عما أسماه ب «القضية» عالقة في ذهنه، تناديه بأن يبحث عما يقرؤه عن تلك «القضية» التي لم تكن عند أصحابها تحتاج إلى بيان، وفجأة خطر له أن يقرأ شعر إبراهيم طوقان؛ فهو الشاعر الفلسطيني المبدع المجيد - أولا - وهو الذي لا شك منبئ في شعره عن روح «القضية» لما جاء وقعها على قلب مرهف حساس، فقد نظم ذلك الشاعر الثائر شعره خلال الأعوام التي كانت تتجمع فيها غيوم النكبة ظلمات بعضها فوق بعض، فصاح في قومه محذرا من فادحة توشك أن تقع، فكان كأنه يقرأ لهم عن مقبل الأحداث في كتاب مفتوح.
Bog aan la aqoon