Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Noocyada
من السهل الافتراض أن المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون في «الجمهورية» كانت بالتأكيد الأساس لما حاول أفلاطون أن يحققه في سيراقوسا. وفي الواقع لا يمكن الربط بين «الجمهورية» وخطط أفلاطون العملية. وقد قيل إن المدينة الفاضلة المذكورة في «الجمهورية» يحكمها «الملوك الفلاسفة» وكان من المفترض أن يصبح ديونيسيوس حاكما أفضل بتعلم بعض الفلسفة. ولقد كتب كتاب «الجمهورية» قبل محاولة أفلاطون إصلاح ديونيسيوس، ولكن ذلك الكتاب لا يعد أساسا لأية مدينة حقيقية. فمن جانب لا يشير مصطلح «الملك الفيلسوف» في «الجمهورية» - كما يعتقد أحيانا - إلى مجرد ملك يعرف شيئا من الفلسفة، أو فيلسوف محترف وجد نفسه بشكل ما في سدة الحكم. أما الوصف الأدق لما قصده أفلاطون بذلك المصطلح فهو رجل حكيم وقدير يتميز بالتوازن والفضيلة، ورجل عسكري درس العلوم لمدة طويلة ولديه خبرة عملية كبيرة في السياسة والإدارة. ورغم أنه كان متفائلا بشكل زائد في بعض الأحيان، فإن أفلاطون لم يكن على هذا القدر من الحمق بحيث يعتقد أن أي ملك حقيقي قد يتحقق فيه هذا الوصف وخاصة ديونيسيوس الثاني المراوغ.
وقد ذكرت شخصية سقراط في كتاب «الجمهورية» الهدف الحقيقي من مدينة أفلاطون الفاضلة حيث يقول: «ليس من المهم ما إذا كانت المدينة موجودة الآن أو لن ترى الوجود أبدا.» فالمدينة المثالية هي مادة للتأمل والمناقشة. وبالنظر إلى المناقشة الواردة في كتاب «الجمهورية» عنها يمكن للإنسان أن يتعلم حقيقة العدالة وكيفية الحياة السليمة، وسيتعلم على وجه الخصوص الحقيقة التي نادى بها سقراط، وهي أنه من مصلحة الإنسان أن يتحلى بالعدل؛ وبهذا سيعيش في هذه المدينة القائمة في عقله، حيث يقول: «وربما هناك نموذج لها في السماء لمن أراد أن يذكر وأراد أن يكون مواطنا فيها.»
ويبدأ الجدل الأساسي في المحاورة بمواجهة مع رجل مشاكس فاسد أخلاقيا يدعى ثراسيماخوس. ويتحدث ثراسيماخوس عن المصلحة الشخصية المجردة مرددا بعض أفكار الكلبيين التي ناقشها السفسطائيون مثل أنتيفون، فيقول إن الفضيلة هي مجموعة من القواعد يفرضها القوي على الضعيف، فإن استطعت أن تفلت من عقاب الخروج على القانون، فلا بأس من خرق القانون. والأفضل من كل ذلك أن تضع القواعد بنفسك وتلزم الآخرين باتباعها. سم هذا «ظلما» إن شئت ولكن «عليك أن تنظر إلى الأمور - أيها المغفل سقراط - بهذه الطريقة؛ فالعادل دائما لا يحظى بأية أفضلية على الظالم.» وبصيغة أخرى فإن العدالة والفضيلة لا تجديان، وسقراط أحمق لاعتقاده العكس.
ويحاول سقراط أن يزعزع فكرة ثراسيماخوس عن الأخلاق ولكنه يفشل في التخلص منها. ويظهر ثراسيماخوس بصورة الطالح الكريه في موضع آخر. وفي سبيل إجراء مجادلة جيدة يغير جلوكون وأديمانتوس - وهما صديقان لسقراط - موضوع المناقشة إلى فساد الأخلاق؛ رغبة منهما في أن يعرفا ما إذا كان بإمكان سقراط أن يعطي جوابا أتم ويحل تلك المسألة أم لا. وأثناء لعبه دور محامي الشيطان يتحدث جلوكون عن راعي غنم أسطوري يدعى جيجيس عثر على خاتم يمكنه من إخفاء نفسه. ويقول جلوكون إنه بهذا الخاتم:
يبدو أنه لا يوجد أي رجل بهذا السلوك الصارم؛ بحيث يحافظ على العدالة ويكف يديه عن ممتلكات الآخرين، رغم أنه قد يتحصل - بموجب ما يتمتع به من حصانة - على ما يريد من السوق، وينتهك حرمة البيوت، ويمارس الفاحشة مع من أراد، ويذبح من أراد ويفلت من العقاب، ويرتكب أشياء أخرى معتبرا نفسه ندا للرب من دون الناس. ويمكن القول إن هذا دليل كبير على أنه ما من أحد يسلك مسلك العدل بمحض إرادته ولكن نتيجة قيود؛ ذلك أن من يملك رخصة ويرفض أن يرتكب أية جريمة فإنه حري بالشفقة شديد الحماقة.
ويضيف أديمانتوس أنه في رده على هذه الأفكار لا ينبغي لسقراط أن يدافع عن العدالة بمجرد بيان أنها تؤدي إلى نيل صاحبها الشرف واحترام الآخرين؛ فلن يؤدي هذا إلا إلى إثبات أن من مصلحة المتصف بالعدل أن يشتهر بين الناس بالعدل لا أن يكون عادلا فعلا. وإن كان الاشتهار بالعدل بين الناس هو المكسب الوحيد الذي يحققه الإنسان العادل؛ فإنه يمكن للإنسان أن يكون شريرا ما دام يستطيع أن يحفظ ماء وجهه. ولذلك يطلب أديمانتوس من سقراط أن يوضح «ما الذي يقدمه العدل والظلم بطبيعتيهما لأصحابهما ... ليكون الأول رجلا صالحا والآخر طالحا.»
هذه مهمة شاقة، ويتعهدها سقراط بطريقة غير مباشرة، فيحول تركيزه من الإنسان العادل أو الروح العادلة إلى المدينة العادلة. ويرى أنه من الأفضل النظر أولا إلى المدينة ككل؛ حيث يسهل فهم العدالة في هذا السياق الأكبر. وبعد تعريفه مفهوم المدينة العادلة بمحاولة تقديم صورة للمدينة المثالية، يشرع سقراط في الرد على مسألة العدالة الفردية. فإذا اتفق الأمران بحيث يكون الرجل العادل والمدينة العادلة متشابهين فسيتأكد سقراط أنه وجد العدالة الحقيقية. وهو يثق تمام الثقة أنه إن وجدها فسيتضح كيف أن الرجل العادل هو الأسعد وسيتضح سبب ذلك، وسيكون قد رد على ثراسيماخوس وأمثاله.
علينا إذن أن نصف حال المدينة الفاضلة أولا. يقول سقراط (أو ربما أفلاطون) إنها تحتاج إلى نوع من الحرس المجندين لحمايتها من الحروب الأهلية والغزاة. وتحقيق شرط الأمن هو أول شرط لقيام أية دولة مزدهرة، وسيكون هؤلاء الحراس خبراء متفرغين في أمور الدفاع والقانون والنظام؛ حيث إن أفضل المدن هي تلك التي تقدر التخصص. وسيؤدي كل المواطنين العمل الذي يتمتعون بالأهلية الطبيعية له بغض النظر عن المولد والنسب، كما يمكن للمرأة أن تصل إلى أعلى المراتب بسهولة كالمؤهلين من الرجال. وقد كانت هذه فكرة ثورية آنذاك؛ ففي أثينا في زمن أفلاطون كان ينظر للنساء كمربيات ومديرات منزل غير متعلمات يخضعن عمليا لملكية آبائهم أو أزواجهم. لم يكن أفلاطون مناصرا مستنيرا لحقوق المرأة بالمعايير الحديثة؛ حيث آمن بالمعتقد السائد آنذاك الذي يقول إن المرأة عامة أسوأ من الرجل في كل شيء، ولكنه يقول في «الجمهورية» إن المرأة يجب أن تحصل على الفرص نفسها التي يحصل عليها الرجل، وإن أيما امرأة أثبتت كفاءتها فيجب أن يسمح لها بالترقي في مراتب المجتمع.
وينقسم المجتمع في المدينة المثالية إلى ثلاث طبقات: يأتي المنتجون (مثل الحرفيين والفلاحين والتجار) في الطبقة الأدنى، يليهم الحراس، ثم الحكام الذين يجري اختيارهم من بين أفضل الحراس. وإن أظهر ابن أحد المنتجين أو ابنته الكفاءة المطلوبة ينتقل إلى طبقة الحراس، وبالمثل إن لم يكن ابن أحد الحراس بالكفاءة المطلوبة فإنه يكلف بالأعمال الدنيا. وحيث إن الحراس والحكام سيكون لهم قدر كبير من السلطة على الجميع فمن الضروري أن يتجردوا من الأنانية، وأن يسدوا النفع للغير بشكل لا التباس فيه. ويرجع السبب فيما آل إليه العديد من المجتمعات الأخرى من نهايات غير سعيدة إلى عدم تحلي الحكام بالفضيلة. ويحمل سقراط على عاتقه مهمة تحديد نوعية التعليم الذي ينبغي للحراس أن يحصلوا عليه، والبيئة التي يتعين عليهم أن يعيشوا فيها؛ حيث يعيشون حياة جماعية لا يحق لهم فيها الاستئثار بشيء، حتى أزواجهم وأطفالهم سيكونون ملكية عامة. ويحظر عليهم لمس الذهب أو الفضة ناهيك عن امتلاكهما. وستضمن هذه الإجراءات ألا يستخدم أي منهم نفوذه في تحقيق الثراء لنفسه أو تقديم أية مصلحة شخصية على مصالح المجتمع بشكل عام.
ومن الضروري أن تبنى شخصياتهم وهيئاتهم البدنية بطريقة صحيحة، ولن ينصب الاهتمام الدقيق على نظام التغذية والتدريب فحسب، بل على المواد التي يدرسونها والقصص التي تروى لهم والموسيقى التي يستمعون إليها. لقد اعتقد الإغريق أن للموسيقى تحديدا كبير الأثر على الشخصية والمجتمع؛ ولذلك يجب متابعتها باهتمام بالغ. ويشدد سقراط على وجوب «الحذر من ... تغيير نوع الموسيقى لأن تغيير أنواع الموسيقى لا يحدث إلا بتغيير التقاليد السياسية والاجتماعية الأساسية.» (يبدو أن بعض السوداويين من المحافظين المعاصرين مثل آلان بلوم في كتابه «انغلاق العقل الأمريكي» قد رأوا في ظهور موسيقى الروك في خمسينيات القرن العشرين دليلا واضحا على صحة ذلك). وبالنسبة للقصص التي سيستمع إليها الحراس الصغار، فمن الضروري أن تتناول الأبطال الذين يمثلون قدوة حسنة. وقد ذهب سقراط إلى أبعد من ذلك بتحديده بحور الشعر الأكثر إلهاما. وبشكل عام فقد صمم المنهج التعليمي بحيث يزرع الوسطية والفضيلة بإخضاع الحراس المستقبليين الصغار لأكثر المواد رقيا.
Bog aan la aqoon