Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Noocyada
رأى أفلاطون أنه ليس من المصادفة أن تكون الدول التي يحكمها أمثال هؤلاء دولا غير منتجة، سيئة الإدارة، ومنعدمة الاستقرار فقال: «من المؤكد أن تتعاقب على تلك المدن أنظمة حكم مثل الطغيان وحكم الأقلية والديمقراطية واحدا تلو الآخر.» أما ما سره في إيطاليا فكانت المجتمعات الفيثاغورية التي ضمت الحكماء وعلماء الرياضيات الذين عقد معهم صداقات دائمة وألهموه فلسفيا ومن بينهم أرخيتاس التارانتومي رجل الدولة الفيلسوف وعالم الرياضيات الذي اجتمعت فيه قيم الصداقة والإلهام معا. ومن المرجح أن الاتصال بهؤلاء الرجال هو السبب في رحلة أفلاطون إلى إيطاليا.
عقد أفلاطون صداقة أخرى لها قيمتها في سيراقوسا أثناء جولته الأولى، رغم أنها كانت في النهاية سلاحا ذا حدين؛ فقد آمن ديون وهو أحد أقارب الطاغية ديونيسيوس الأول «بحرية أهل سيراقوسا في ظل أفضل النظم القانونية»، وعلى ذلك «قدم له أفلاطون أفكاره المثالية عن الجنس البشري» ووجد في ديون متلقيا نهما لها. وبمجرد أن أنار أفلاطون بصيرة ديون «عقد الأخير العزم على قضاء بقية حياته بشكل مختلف عن معظم الإغريق في إيطاليا وصقلية متمسكا بالفضيلة بدلا من المتعة أو الرفاهية.» ولعل ذلك التحمس لأفكاره هو ما دفع أفلاطون للعودة بعد عدة أعوام إلى سيراقوسا أثناء حكم ديونيسيوس الثاني ولكن بنتائج مؤسفة.
لقد كان ديون كالسمكة التي خرجت من الماء بالنسبة للحاشية الفاسدة المتنازعة التي أحاطت بديونيسيوس الأول الذي قرب إليه الفيلسوف المحب للمتعة «أرسطيبوس»، الذي تتلمذ على يد سقراط، ويا لها من مفارقة عجيبة! وقد وصف بلوتارخ الوضع هناك بأنه «نظام يعتبر المتعة والإفراط فيها هما الخير الأسمى.» وهذا هو الشيء الذي لم يستطع أفلاطون تحمله. وقد انتهت زيارة أفلاطون الأولى لسيراقوسا نهاية سيئة نوعا ما. وقد جاء في إحدى الروايات أن ديونيسيوس الأول قد عرضه في سوق الرقيق، وقام بعض الأصدقاء بإنقاذه منه.
عندما انتهت هذه المرحلة من رحلات أفلاطون عاد إلى أثينا وأسس ما يعرف بالأكاديمية، وكان هذا عام 387 قبل الميلاد وأفلاطون في الأربعين من عمره. اشترى أفلاطون أرضا على بعد ميل من أسوار المدينة إلى جوار بستان مقدس كان يتعبد فيه البطل أكاديموس، وأنشأ مؤسسة جامعية بها مفكرون يعملون بالجهود الذاتية. ولكن من الصعب تكوين صورة عن الحياة اليومية داخل أكاديمية أفلاطون. وطبقا للقانون وجب تسجيلها كمؤسسة دينية تختص بأحد المعبودات، وقد اختار أفلاطون ربة الفنون التي كانت في ذلك الوقت مسئولة عن كل الأنشطة الفكرية وليس الفنون فحسب. وكانت بعض أنشطة الأكاديمية تحاكي تلك التي كانت تقيمها الجماعات التابعة لمذهب فيثاغورس التي رآها أفلاطون في إيطاليا. ونظمت ولائم عشاء شهرية في الأكاديمية ربما تشبه تلك التي تعدها الجامعات القديمة في عصرنا الحاضر في بعض المناسبات. وربما عقدت بعض الدورات التعليمية للعامة. وقد تحدث أرسطو وآخرون عن محاضرة لأفلاطون ألقاها ربما في الأكاديمية بعنوان «الخير» لكنها لم تنجح. وبغض النظر عما كان يتوقعه الحضور من تلك المحاضرة، فقد شعروا بالحيرة والضيق بسبب اضطرارهم إلى الاستماع إلى قدر كبير من الرياضيات المبهمة.
كان جل الخدمة التعليمية للأكاديمية موجها نحو الصفوة من الأثرياء الذين كانوا يتوقون إلى الحصول على مستويات عالية من التعليم. وقد كان نطاق المواد التي تدرس وتناقش أكبر وأوسع مما نعده الآن ضروريا لتحقيق أحد الأهداف الرئيسة للأكاديمية وهو تخريج رجال دولة حكماء. وفي عهد أفلاطون قامت أربع مدن على الأقل باستدعاء خبراء من الأكاديمية لصياغة قوانينها وكتابة دساتيرها الجديدة. وكان من أقوى معتقدات أفلاطون أن هذا الدور يحتاج إلى من تلقوا تدريبا شاملا لتأديته على أكمل وجه. وبناء على ذلك أتاحت الأكاديمية الدراسة في جميع مجالات العلم من الجغرافيا والتصنيف النباتي والتاريخ السياسي إلى أكثر المذاهب الفلسفية تجردا التي تتناول المثل الأفلاطونية، ولا شك أن أفلاطون قد قام بالتدريس بنفسه في مجال المثل. وأصبحت الأكاديمية مركزا مشهورا للبحث في علمي الرياضيات والفلك على وجه الخصوص. وقد ارتبط بالأكاديمية اسما اثنين من أهم علماء الرياضيات قبل إقليدس وهما هرقل البنطي وأودوكسوس الكنيدوسي، وهناك أيضا ظهر اهتمام أرسطو - الذي التحق بها في السابعة عشرة من عمره - بعلم الأحياء.
لقد رأى أفلاطون أن هناك بعض المواهب الفطرية التي يتطلبها السعي للتعلم، وأكد على أن من يبحث عن الحكمة ينبغي أن يدرك «عدد المواد التي تجب دراستها وقدر العمل الشاق الذي تتطلبه وضرورة تبني نظام معيشي منظم من أجل هذه الغاية.» وربما خضع بعض تلاميذ الأكاديمية لهذا النظام بمحض إرادتهم لمجرد أنهم تطلعوا للحكم وأرادوا أن يصلوا إليه بالطريق السليم، ولكنهم لم يشكلوا كثرة؛ فليس من الممكن أن كل الباحثين الذين تخرجوا في الأكاديمية كانوا من الساسة الطموحين أو المحبطين. ومن المؤكد أن مفهوم أفلاطون عن الفلسفة بوصفها حب الحكمة بأنقى صوره قد جذب بعض الناس إلى ذلك الحب في حد ذاته، كما انجذب أفلاطون نفسه للحياة الفكرية بذاتها وليس لمجرد أنها تحضير للحياة السياسية، ولكن أسلوب الحياة الأكاديمية كان يزعجه، حيث يقول: «كنت أخشى أن أجد نفسي في النهاية مجرد كلمات؛ أي أن أكون رجلا لم يشترك بإرادته قط في أي عمل أو مهمة فعلية.»
وفي عام 367 قبل الميلاد عندما خلف ديونيسيوس الثاني أباه في حكم سيراقوسا جاءته هذه المهمة المادية من تلقاء نفسها؛ فقد أقنع ديون الملك الجديد الذي كان في الثلاثين من عمره أن يرسل في طلب أفلاطون ليعلمه ويقدم له المشورة. وكان ديونيسيوس الأب قد أبقى ابنه في عزلة وبلا تعليم خوفا منه أن يحيك له المؤامرات وينقلب عليه؛ إذ كان ينظر إلى ولي عهده بوصفه خطرا محتملا. والآن أراد ديونيسيوس الابن أن يترك بصمته وأن يكسب بعض الاحترام، وهو ما رآه ديون فرصة للقضاء على الطغيان في سيراقوسا. وبدافع من هذا الطموح ومن صداقته لديون قرر أفلاطون أن «يهجر أنشطته الأكاديمية لمحاولة إصلاح نظام طاغية، وهو نظام الحكم الذي يبدو غير متوافق مع ما يؤمن به وغير متسق مع شخصيته.»
لقد كان إصلاح أسرة ديونيسيوس الحاكمة تحديا لم ينجح فيه أفلاطون. ربما لم يكن ديونيسيوس الثاني مستبدا كما كان والده، ولكنه أيضا لم يكن تلميذا مثاليا؛ حيث جاء في إحدى الروايات أن «الملك الصغير ظل يحتسي الخمر لمدة تسعين يوما متتالية دون انقطاع ... وفي تلك المدة لم تسمح حاشيته لأحد من رعاياه بالدخول عليه ولا للأمور ذات الأهمية بالوصول إليه، بل هيمن السكر والهزل والموسيقى والرقص والمجون على بلاطه.» وقد حاول أفلاطون وديون برفق ولطف أن يرشدا الملك إلى الطريق الصحيح ولكن تأثيرهما لم يزد الأمر إلا سوءا؛ ذلك أنه أثار الغيرة والشك بين خصوم ديون السياسيين الذين فضلوا أيام الفساد الماضية. وبعد وصول أفلاطون بأربعة أشهر فقط نفي ديون إلى خارج المدينة لأن الحرس القديم أقنع الملك بأن ديون يحيك مؤامرة للانقلاب عليه. وتحمل أفلاطون الوضع لحوالي ثمانية عشر شهرا أخرى ثم عاد إلى أثينا.
والعجب كل العجب أن أفلاطون قد عاد مرة أخرى إلى سيراقوسا بعد حوالي أربعة أعوام، وهو ما قد يكون دليلا على تفاؤله. كان الأمر مختلفا هذه المرة أو هكذا أوهمه البعض؛ فقد نضج ديونيسيوس بما يكفي بحيث اتبع أكثر رغباته جدية وهي الرقي بنفسه وإمبراطوريته عن طريق دراسة الفلسفة. وبصورة ما نجح الملك في إقناع أرخيتاس التارانتومي وبعض المفكرين الآخرين الذين علم أن أفلاطون يكن لهم احتراما ليشهدوا على حسن نواياه. وربما صدقوا هذه القصة وربما صدقها ديونيسيوس نفسه، ولكن بدا بعد فوات الأوان أنه لم يرد إلا تزيين بلاطه ببعض الفلاسفة المشهورين.
وأثناء التماسه موافقة أفلاطون وعد ديونيسيوس أن يعيد ديون ثانية وأن يحسن معاملته. وكان أفلاطون يخشى أن يمس ديون وأصدقاءه الآخرين المزيد من الأذى إن رفض الدعوة، فقرر قبولها. ولكن في الواقع كان الوضع أسوأ من جميع الجوانب هذه المرة؛ فقد وجد أفلاطون ديونيسيوس تلميذا سيئا مرة أخرى، فكان غبيا أو كسولا أو كليهما. لقد ظن ديونيسيوس أنه تعلم كل شيء بالفعل من فلاسفة الدرجة الثالثة في بلاطه، وهذا تحديدا هو ما أزعج أفلاطون. ونكث الطاغية كل وعوده بخصوص ديون، بل سرق كل ممتلكاته ووجد أفلاطون نفسه سجينا من الناحية العملية؛ فهرب بطريقة ما إلى أثينا حيث أكاديميته ولم يكرر ذلك الخطأ بعدها. •••
Bog aan la aqoon