75

Hilm Caql

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Noocyada

وبما أن بنروز يؤمن أن الحقائق الرياضية توجد في عالم أفلاطوني، وأن الرياضيات هي أساس كل المعرفة العلمية؛ فإنه يرى أن «طبيعة العالم الخارجي الفعلي لا يمكن في النهاية فهمها إلا عن طريق ... عالم أفلاطون المثالي الذي «يمكن الوصول إليه عن طريق العقل».»

ويرى كثير من الرياضيين المعاصرين أن ثمة مبالغة عظيمة في ذلك، ولكن في الوقت نفسه يدرك العديد منهم أن بعض أوجه الأفلاطونية تتمتع بقسط من الأهمية عند شرح معرفتنا بالرياضيات. وبالنسبة للتفكير المعاصر تحظى الأفلاطونية بقبول واسع عند تطبيقها على الرياضيات مقارنة بما سواها من مجالات. فالإيمان بالوجود المجرد للرقم ستة في «عالم أفلاطوني مثالي يمكن الوصول إليه عن طريق العقل» يختلف تماما عن الإيمان بالوجود المجرد للجمال السماوي. فإن اتبعنا ما قاله أفلاطون وسلمنا بوجود مثال للرقم ستة ومثال للمثلث متساوي الأضلاع، يصبح من الغريب أن نتصور أيضا وجود مثال للجمال ومثال للعدل، ومثال للطاولة، وآخر للكرسي، وربما مثال لخنازير غينيا أيضا. وإن كانت نظرية المثل الغريبة هذه هي الإجابة عن سؤال ما، فما هو ذاك السؤال يا ترى؟

لقد نشأت هذه النظرية لتلبية عدد من الحاجات، ولم يكن هناك سؤال محدد تسعى للإجابة عنه. ويبدو أنها خضعت للعديد من التغييرات طوال مشوار أفلاطون الفكري، ويعتقد البعض أنه تخلى عنها في النهاية. وتناقش أعماله الأخيرة ما ووجهت به هذه النظرية من اعتراضات، رغم أنه من غير الواضح مدى قدرة أفلاطون على الرد على تلك الاعتراضات، ولكن الفكرة الرئيسة ثابتة إلى حد كبير. ولقد تطرقنا لبعض الأمور التي قادته إلى وضع تلك النظرية من خلال تناولنا للمفكرين السابقين عليه، ومن خلال ما رأيناه من اهتمام أفلاطون بالرياضيات. ولعل رغبة أفلاطون في التوصل إلى مستوى عميق من الحقيقة الراسخة التي يمكن إدراكها بالتفكير العقلي تعكس انجذابه لأفكار بارمنيدس؛ إذ أمدته هذه الأفكار بإطار مناسب - فضلا عن أشياء أخرى - لمعتقداته الأورفية والفيثاغورية حول تطهير الروح عن طريق التأمل العقلي في حقيقة ما وراء العالم المادي الأدنى قيمة. فمن خلال أفكار هرقليطس - أو مما ذكره صديقه قراطيلوس عن هرقليطس - أتاه الباعث على التفكير بأن التغيرات المستمرة في العالم المادي تشكل عقبة في طريق المعرفة لا يمكن تجاوزها إلا بالاعتماد على شيء ثابت على غرار المثل. ويرى أفلاطون أن بدون المثل سيكون العالم على درجة من الفوضى يصعب معها فهمه. كما استقى أفلاطون بعض أفكاره من سقراط وبحثه عن تعريفات للمفاهيم الأخلاقية، حيث قال إن ثمة حقائق مجردة عن الأخلاق ينبغي للفلاسفة أن يجتهدوا في التوصل إليها وإماطة اللثام عنها؛ فقد جعل أفلاطون سقراط ينطق بأن «الأشياء لا تتفاوت بتفاوت الأشخاص» بل يجب أن يكون لها «جوهرها المناسب الثابت؛ فهي لا ترتبط بنا ولا تأثير لنا عليها، ولا تتغير تبعا لخيالنا ولكنها مستقلة.» وبعبارة أخرى: فإن تلك المثل تضع معايير ثابتة من جهة وتبين خطأ «نسبية» السفسطائيين من جهة أخرى.

ويتحدث أفلاطون بلغة تذكرنا ببارمنيدس في فقرة من محاورته «المأدبة» التي كانت على الأرجح أولى محاوراته التي تتناول المثل. وتأتي المحاورة في سياق مناقشة تجري بعد العشاء بين عدد من الأصدقاء بمن فيهم سقراط يتبادلون خلالها الأدوار في الحديث عن طبيعة الحب. وكان لب الحديث هو ما قاله سقراط عن الحب، وما ذكر أنه سمعه من كاهنة تدعى ديوتيما، التي يقول إنها علمته كل شيء يعرفه عن الحب. حاولت ديوتيما أن تبين أن السعي إلى الحب يجب أن يكون على عدة مراحل، يمكن اعتبار أن كل مرحلة منها تؤدي لتلك التي تليها حتى نصل إلى مرحلة تذوق الجمال ذاته.

يبدأ الأمر (كما ينقل سقراط عنها) بالإعجاب بجسد شخص بعينه. ونظرا لمواطن التشابه بين هذا الجسد وأجساد المتصفين بالجمال عموما، يجب على المحب أن «يجعل من نفسه محبا لكل جسد جميل، وأن يضبط عاطفته تجاه ذاك الجسد، وأن يعتبره غير ذي أهمية.» أما المرحلة التالية فهي إدراك أن «جمال الجسد لا يقارن بجمال الروح» بحيث يبدأ المحب بالتعلق بالأرواح أو الشخصيات الجميلة حتى وإن سكنت أجسادا قبيحة. وهذا النوع من الحب العفيف - الذي يطلق عليه أحيانا «الحب الأفلاطوني» في زماننا - «سيحفز في قلب المحب الميل إلى نوع من الخطاب يسعى من خلاله لخلق طبيعة نبيلة. ومن هنا يتجه إلى التأمل في جمال القوانين والمؤسسات.» وبعد ذلك يجب أن يركز المحب على العلوم بهدف الوصول إلى معرفة «الجمال الكامن في جميع أنواع المعرفة.» وخلال فترة وجيزة سيبدأ في فهم صورة بارمنيدس الكاملة عن الجمال ذاته حيث يقول:

والآن يا سقراط يلهم المحب رؤية روح الجمال ذاته الذي طالما اشتاق إليه. إنه جمال سرمدي لا يأتي ولا يذهب ولا يتفتح ولا يذبل؛ لأنه ثابت لكل شخص في كل زمان وفي كل مكان ومن كل طريق، وهو يتجلى لكل المتيمين على حد سواء بالصورة ذاتها.

ولن يتخذ هذا الجمال صورة الوجه أو الأيدي أو أي شيء مادي يدخل اللحم فيه، ولن يكون في هيئة كلمات أو معارف أو ما دون ذلك من أشياء توجد داخل كيان آخر مثل الكائن الحي أو الأرض أو السموات أو أي شيء خلا ما تمتع بصفة الوحدانية الأبدية؛ حيث يستقي منه كل ما هو جميل، ومهما زادت تلك الأشياء أو نقصت فلن يتغير ذلك المثال أو يتأثر بل سيبقى كلا لا يتجزأ.

لطالما استعان الأدب الغربي بتصور ديوتيما عن تسامي المحب إلى الجمال؛ فقد استعاره الفلاسفة الروحانيون والكتاب المسيحيون الأوائل مثل أوريجن والقديس أوجستين وعدد لا يحصى من شعراء الحب. ولعل ما اتصف به مثال الجمال من أبدية وسرمدية لا تتغير بتغير الزمان أو المكان يبين أن مثل أفلاطون مماثلة لفكرة الواحد لدى بارمنيدس، ولكنها ولدت من جديد وتضاعفت واقترنت بالعالم المادي. وبينما لم يكن هناك بالطبع إلا «واحد» أوحد لدى بارمنيدس، كان لدى أفلاطون مثل مختلفة لكل مصطلح أو مفهوم عام وليس «الجمال» وحده. وبينما كان العالم المادي المتغير مجرد وهم كما اعتبره بارمنيدس، كان هذا العالم بالنسبة لأفلاطون حقيقيا رغم دونيته من جوانب عدة.

يحمل العالم المادي دلائل على المثل السامية، وكل شيء في هذا العالم يشبه «المثال» الذي يحاكيه؛ فالرجل الصالح مثلا «يشبه» مثال الخير ومثال الرجل. وإن هذه العلاقة بين الأشياء المادية والمثل كما يرى أفلاطون هي ما يمنع العالم من أن يكون خليطا فوضويا، بل يجعله تركيبا مفهوما. وهذا يذكرنا بالنهر في مقولة هرقليطس الشهيرة: إذا كان النهر متغيرا دوما فكيف نتحدث عن نهر واحد بعينه، وكيف يمكننا معرفة أي حقيقة عنه؟ ولو أن كل شيء في العالم المادي في حالة متغيرة كما ادعى أفلاطون فكيف يمكننا التعرف على ماهية الأشياء؟ لقد تعرض أفلاطون لصدمة شديدة من أمواج هرقليطس الباردة المضطربة، ففر إلى شواطئ «المثل» الآمنة المستقرة؛ فقد رأى أن المعرفة الأصيلة لا يمكن الحصول عليها إلا مما هو ثابت حتى يتسنى لنا دراسته، والمثل هي الشيء الوحيد الذي يتصف بهذا الثبات.

ويزود الإدراك والمنطق السليم أصحابهما بمحض «آراء» قد تكون خاطئة؛ ذلك أن المرء يجب أن ينظر إلى المثل أيضا في بحثه عن المعرفة الأصيلة المؤكدة. ولكن كيف يمكن للإنسان القيام بذلك؟ إن ذلك يكون بالاستعانة بملكة العقل التي تكمل ما تعرضه الحواس. ومن الناحية العملية فإن ذلك أمر لا يشوبه غموض كما قد توحي الصورة الروحانية لديوتيما؛ فكل البشر يمكنهم القيام بذلك بدرجات متفاوتة فيما يتعلق ببعض المثل على الأقل، فأي رجل في الشارع أو على ضفة نهر قد يمتلك معرفة جيدة عن الأنهار لدرجة أنه قد يصيب في بيان ماهية النهر؛ أي إن بوسعه أن يقدم وصفا عاما لما تشترك فيه الأنهار جميعا، وهو بذلك لديه معرفة بمثال النهر. ومع ذلك فإن الكثير من المثل الأخرى تبدو أكثر تعقيدا وصعوبة كمثل العدالة والخير والجمال. ويتطلب إيجاد وصف صحيح لها أن تعمل ملكة العقل بلا توقف؛ فالمعرفة السليمة بهذه المثل لا يمكن الحصول عليها إلا بالحجاج؛ أي الجدال التعاوني المنطقي لتناول الأفكار وما تعلمه الإنسان بالملاحظة. وقد وصف أفلاطون عملية الحجاج ذات مرة بأنها تجري «عندما تقارن التعريفات والمشاهدات والانطباعات الحسية ببعضها ويفحصها القائمون على توظيف صيغ السؤال والجواب دون منافسة يحركها الحقد؛ فحينئذ ينشأ الفهم.» وعندما كان سقراط يصارع من أجل صياغة التعريفات كان بالتبعية، كما قال لأفلاطون، يبحث عن مثال لما يحاول تعريفه. (وكما رأينا في الفصل السابق اعتقد أفلاطون أن الناس يعرفون المثل قبل مولدهم، ولكن لأنهم ينسون كل شيء عندما يولدون يجب استخراج معرفتهم مرة أخرى باستخدام وسائل سقراط الحجاجية.)

Bog aan la aqoon