Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Noocyada
لقد اجتمعت المدارس الفلسفية التي انحدرت من سقراط على فكرة أن الحكمة تؤدي إلى الفضيلة وأن الفضيلة تؤدي إلى السعادة. ومن الواضح أنهم اختلفوا في تفسير ما تعنيه السعادة (فكانت الانغماس في المتعة بالنسبة للقورينيين، والانضباط الزاهد بالنسبة للكلبيين)، ولكنهم اتفقوا على أن التفكير الفلسفي نوعا ما هو الطريق إليها، وأن الاشتغال به يؤدي إلى الحياة الصالحة. وقد كانت جل الآراء الأخلاقية لهؤلاء الفلاسفة ذات طابع يؤمن بالفردية نسبيا (شديد الفردية في حالة ديوجين)، ويمكن معرفة كيف أدت حياة سقراط غير المعتادة إلى هذا. ولكن في حالة الكلبيين على الأقل كان هناك اختلاف واضح مع سقراط حول روابط الالتزام الاجتماعي والإخلاص لقيم المدينة. لقد أكد الكلبيون على التناقض بين الحياة الفاضلة وبين حياة المدينة التي يولد الفرد أو يعيش فيها. وقد فعل سقراط ذلك أيضا من منظور معين لكنه لم يفعل ذلك من منظور آخر؛ فقد كان يقبل بالتأكيد أن الفرد يجب عليه أن يتبع ضميره وليس ما تمليه عليه المدينة حينما يتعارض ما تفرضه المدينة مع العدل، ولكنه سعى إلى تحسين الحياة في المدينة بدلا من هجرها بالكلية؛ فحث أهل أثينا على أن يعيشوا معا في ظل العدل وأن يحسنوا قوانينهم وسلوكياتهم عند الضرورة، لا أن يتخلوا عن مشروع الحضارة بكامله ويفقدوا احترامهم للقانون.
لقد أوضح سقراط أنه رغم وجوب عصيان القوانين إذا كانت ظالمة، فإنه يجب الخضوع للعقاب عند الوقوع تحت طائلتها، وهو ما فعله بالضبط عندما أدين رغم أن بعض أصدقائه قد وفروا له فرصة للهروب من السجن ومغادرة أثينا قبل إعدامه. وقد تناولت إحدى محاورات أفلاطون الأولى وتدعى «الكريتو» هذه الحادثة وعرضت أسباب رفض سقراط الهرب. وإضافة إلى إحساسه بالالتزام الأخلاقي تجاه السلطة الشرعية في المدينة وتجاه الإجراءات القانونية السليمة؛ فقد أحب سقراط أثينا ولم يرغب في العيش بمكان آخر. وتوضح بعض الأشياء التي نقلها أفلاطون على لسانه في محاوراته أن سقراط كانت لديه شكوك في الديمقراطية بوصفها صورة من صور الحكم، وهو ما أدى إلى وصفه أحيانا بعدو الديمقراطية. ولكن في الحقيقة كانت هذه شكوك أفلاطون، تماما كما شك في النهاية في كل أشكال الحكومة التي مر بها. لقد أظهر سقراط كل مظاهر الولاء والطاعة لدستور أثينا، ولطالما أشاد بالمدينة وبمؤسساتها، ويبدو أنه لم يغادرها قط إلا أثناء الخدمة العسكرية. أما بخصوص ما إذا كان مؤيدا لطريقتها في الديمقراطية فقد أكد سقراط على ذلك حين رفض الهرب منها. لقد كان ثمة العديد من الدول الأخرى غير الديمقراطية التي كان يمكنه الهجرة إليها. وربما كان من المحرج لخصومه في ذلك الوقت الذين ودوا أن يبعدوه بوصفه عدوا للديمقراطية أنه خاطر بحياته في ظل حكم الطغاة المعادين للديمقراطية برفضه الاشتراك في القبض على رجل بريء.
كان سقراط أكثر ديمقراطية مما يتحمله أهل أثينا. وقد كان هذا الجانب في شخصيته وفي تدريسه السبب في الفردية المفرطة لبعض من مقلديه. ومن الممكن القول إن موقفه تجاه الدين والأخلاق موقف ديمقراطي متشدد؛ فلا شيء مسلم به خاصة إن لم تفرضه سلطة ما تعتبر نفسها فوق المنطق الأخلاقي للناس، سواء أكانت سلطة افتراضية في صورة زيوس أو طاغية من طغاة البشر. وعلى كل إنسان أن يعرف بنفسه الصواب من الخطأ والصالح من الطالح، ولا محيص لأي إنسان من اختبار نفسه وحياته. ويجب أن تكون النتيجة المثالية لمثل هذه المناقشات بين المواطنين مجتمعا عادلا بقوانين عادلة يتوصل الإنسان إليها من خلال الاختبار الجماعي للنفس. وفي حلم سقراط الديمقراطي تؤدي القناعة الفردية إلى التوافق الجماعي، ليس في كل شيء بالطبع، ولكن على الأقل في الخطوط العريضة لكيفية العيش السليم.
لم يكن سقراط سياسيا؛ فقد رأى أنه لا يمكنه أداء دوره إلا عن طريق مجادلة الأفراد فردا فردا أو في جماعات صغيرة، وعن ذلك يقول: «أعرف كيف أصنع شاهدا واحدا على حقيقة ما أقول، وهو الرجل الذي أجادله، أما الآخرون فأتجاهلهم. كما أعرف كيف أحصل على تأييد رجل واحد ولكن في الجماعة لا أدخل حتى في المناقشة.» وعلى مر العصور أخذ تأييد سقراط يتزايد نتيجة احتفاظ محاورات أفلاطون بمجادلاته أو بمثال لها بعد أفول نجم أثينا وولائم العشاء فيها في القرن الخامس قبل الميلاد. وثمة شيء واحد قاله سقراط للقضاة في محاكمته يندر أن نجد في وقتنا الحاضر من يختلف معه وهو: «إذا حكمتم علي بالموت فلن تجدوا من يحل محلي بسهولة.»
الفصل الحادي عشر
جمهورية المنطق: أفلاطون
يحاول أفلاطون في منتصف رائعته «الجمهورية» وضع تعريف للفلسفة بشرح أصل كلمة «فيلوسوفيا» التي تعني «حب الحكمة»، لكن تعريفا كهذا يشوبه الغموض. لذا كان أول تعديل مطروح عليه هو الدفع بأن الفيلسوف هو ذلك الشخص الذي يحب صنوف الحكمة كلها لا بعضها. فهو «لا يجد غضاضة في الاطلاع على كل المعارف ويتصدى لمهمته بسرور ولا يملها.» لكن هذا التعريف لا يزال على قدر غير كاف من الدقة؛ لأنه يشمل أولئك الذين لا يحسنون تمييز الأشياء «ويرغبون فقط في خوض تجارب جديدة.» ويشمل هذا التعريف - على سبيل المثال - من «يتكالبون على احتفالات ديونيسيوس ولا يفوتون أحدها سواء أكانت في الحضر أو في الريف. فهل علينا إذن أن نصف هؤلاء وأمثالهم وكل المهتمين بالفنون الدنيا بأنهم فلاسفة؟» وهنا ترد شخصية سقراط - التي تنطق بلسان أفلاطون في تلك المحاورة - بالنفي. ورغم أن محبي الفنون البصرية والسمعية يشابهون الفلاسفة في بعض الأوجه؛ فالفلاسفة الحقيقيون هم من «افتتنوا بمشهد الحقيقة في ذاتها.» وهذا يعني أنهم لا يهتمون بالأشياء الحقيقية والجميلة فحسب، بل بالحقيقة والجمال في ذاتهما. ولتوضيح هذه الفكرة يقدم أفلاطون شرحا لنظريته عن المثل التي تقودنا إلى لب الأفلاطونية.
إن محبي الفنون البصرية والسمعية «تسرهم النغمات والألوان والأشكال الجميلة وكل صنوف الإبداع الفني، ولكن فكرهم لا يستطيع الاستمتاع بالجمال ذاته.» وأمثال هؤلاء - شأنهم في ذلك شأن السواد الأعظم من الناس - «يؤمنون بالأشياء الجميلة ولكن لا يؤمنون بالجمال في حد ذاته، ولا يمكنهم فهم من يحاول إرشادهم إلى معرفته.» ويقول أفلاطون إن غير الفلاسفة يعيشون في حالة أشبه بالحلم لأنهم يخلطون بين الأشباح المتحركة (أي الأشياء الجميلة) وبين الواقع (وهو الجمال عينه). والفلاسفة الحقيقيون هم من أفاقوا من هذا الحلم؛ فهم يدركون أن ثمة عالما مثاليا قوامه المثل تأتي منه النسخ غير المثالية أو الصور غير الأصيلة التي تتمثل أمامنا بعيدا عن العالم المادي وآرائنا الذاتية، ووظيفة الفيلسوف الحقيقي أن يستعمل البحث العقلي لفهم هذه الحقائق السامية والتركيز على المهم منها.
وأينما صادفت مصطلح «الأفلاطونية»، فغالبا ما يشار إلى مثل هذه الصورة عن الحقيقة السامية للوجود المادي. فعلى سبيل المثال، عندما يحاول علماء الرياضيات في زمننا الراهن وصف طبيعة الأشياء الرياضية (مثل الأعداد) أو بيان الحقائق الرياضية، فهم يستعينون بأفكار أفلاطون؛ ولذلك كتب روجر بنروز يقول:
أتصور أنه عندما يدرك العقل فكرة رياضية ما؛ فإنه يتصل بعالم المفاهيم الرياضية لدى أفلاطون. (ولنتذكر أنه طبقا للمنظور الأفلاطوني، فإن الأفكار الرياضية قائمة بذاتها، وموجودة في عالم أفلاطوني مثالي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق العقل.) وعندما «يدرك» أحدهم حقيقة رياضية ما ؛ فإن وعيه يدخل عالم الأفكار ويتصل به اتصالا مباشرا.
Bog aan la aqoon