52

Hilm Caql

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Noocyada

يقدم أفلاطون هنا صورة بروتاجوراس ببساطة مبالغ فيها، فرغم أن أفلاطون يظهر احترامه للسفسطائيين الأشهر؛ فهو يختلف مع كل معتقداتهم تقريبا، وعارض على وجه التحديد فكرة أنه من المقبول أو حتى من الممكن دفع المال مقابل تعليم قيم وفضائل مثل المواطن الصالح أو السياسي الماهر. ولهذا كان ادعاء السفسطائيين تعليم النجاح العملي هو ما ركز عليه أفلاطون هجومه. وفي الحقيقة كان هذا بعيدا كل البعد عن أن يكون جل منهجهم، فمن بين المواد التي كانوا يدرسونها: قواعد اللغة ونظرياتها، والبلاغة، والنقد الأدبي، والموسيقى، والقانون، والدين، والأخلاق، والسياسة، وأصل الإنسان والمجتمع، والرياضيات، وبعض العلوم الطبيعية. وبين أنفسهم قدموا منهجا متكاملا للتعليم العالي، فبدءوا يحلون كناشرين للحكمة محل الشعراء التقليديين وشعراء القصائد الملحمية والفلاسفة ذوي الأطوار الغريبة الذين عملوا دون أجر مثل أناكساجوراس.

ولا ريب أن بعض السفسطائيين تخصصوا في بعض المواد بينما قدم البعض الآخر تدريبا شاملا. فقد كتب بروتاجوراس مثلا رسالة عن طبيعة الآلهة، يقال إنها قرئت على الملأ لأول مرة في بيت الكاتب التراجيدي يوريبيديس. ومن المؤكد أنه اهتم بالقانون والحكومة حيث إن بريكليس قد أوكل إليه سن القوانين لمدينة جديدة في جنوب إيطاليا. ويقال إن بروتاجوراس وبريكليس استغرقا يوما كاملا في مناقشة مشكلة قانونية تتعلق بتحديد الجاني في حوادث القتل الخطأ في منافسات رمي الرمح. كما كان بروتاجوراس يفسر معاني القصائد، وقد درس اللغة وألف فيها حتى إنه يوصف أحيانا بالنحوي الأول (إذ كانت الفوارق اللغوية التي قدمها مفيدة لأفلاطون الذي أضاف إليها ليدحض آراء بارمنيدس المعقدة بخصوص اللاشيء). وبالنسبة للموضوعات الأقل ارتباطا بالفلسفة ظهر بروتاجوراس في محاورات أفلاطون وهو يناقش قضايا أخلاقية مختلفة ويناقش طبيعة المعرفة، كما كتب بروتاجوراس أيضا مقالا عن الحقيقة يتضمن المقولة الشهيرة والغامضة التي تقول إن الإنسان مقياس كل شيء، وسنناقش هذه الفكرة لاحقا.

كل هذا يجعل بروتاجوراس رجلا موسوعيا باهرا، وقد كان كذلك حقا حتى إنه كتب مقالا عن المصارعة. ولكن ما وصل إليه لا يقارن بسفسطائي أصغر منه سنا هو هيبياس؛ فقد كان هيبياس من الناحية العملية مستعدا لتدريس أي شيء، ولم تقف مواهبه عند التدريس فحسب، بل روى أفلاطون أن هيبياس قد تباهى بأنه عندما ظهر في الألعاب التي كانت تقام على جبل أولمبوس ليلقي بعض قصائده، وقد صنع نعليه وعباءته وسترته وحزامه وخاتمه بنفسه، إضافة إلى فرشاة وقارورة زيت كانتا بحوزته. وفي ظهوره العلني الذي ادعى أنه جمع منه مالا كثيرا كان هيبياس مستعدا لإلقاء خطب محضرة وتلقي الأسئلة من كل الحاضرين. وحينما لم يكن يصنع ملابسه أو حليه كان يجمع تاريخ الرياضيات والفلسفة، كما كان يكتب بعض المسرحيات، إلا أن أفلاطون سخر منه وما ذلك عليه بجديد. ولم يكن تعليم هيبياس عميقا بقدر ما كان موسوعيا متعدد المجالات، ويبدو أنه لم يقدم إسهامات كبيرة في أي من العلوم المتعددة التي درسها، ربما باستثناء اكتشاف أحد المنحنيات الهامة في الهندسة. ولم يقر التاريخ بما أقره هيبياس من تقييم لنفسه والذي نقله أفلاطون على لسانه قائلا: «لم أجد قط رجلا يتفوق علي في أي شيء.»

كان أنتيفون أحد السفسطائيين الأكثر تواضعا من هيبياس، وكانت كلماته أحيانا مفعمة بالتشاؤم؛ فها هو ذا يقول: «إن الحياة كلها مدعاة للشكوى، فليس فيها ما هو مميز أو عظيم أو نبيل، فكل شيء تافه وواهن وزائل ومحزن.» وقد كتب أيضا: «وما الحياة إلا يوم واحد، لا تلبث إلا لهذا اليوم الذي ما إن نر فيه النور حتى ننقل أمانتنا إلى الجيل القادم.» أما أهم كتاباته الباقية فقد تحدثت عن الأخلاق وتحديدا ماهية العدالة، وهذا من المرجح ما كان يدرسه على وجه الخصوص. كما عرض أيضا المزيد من السلع الأساسية للبيع، وكان مهتما على وجه الخصوص بالأحلام وتفسيرها، ويبدو أنه قدم نوعا من خدمات العلاج النفسي.

كان جورجياس من بين السفسطائيين الأكثر تخصصا؛ إذ كان خطيبا مشهورا وألف عدة كتيبات عن البلاغة. وضمن أشياء أخرى ألف جورجياس عددا من الخطب التي أعدت لتدرس وتقارن كنماذج للجدل الإقناعي، وكانت أطولهن هي الخطبة القوية في الدفاع عن هيلين الطروادية. وقد ركز أفلاطون جل الهجوم الذي شنه على السفسطائيين على هذا الجانب؛ حيث ادعى أنهم لم يهتموا بالحقيقة في جدالهم بل بتعليم تلاميذهم خدع الفوز بالجدال. ولم يكن يعني السفسطائيين ما إذا كنت عادلا أو صاحب حجة قوية؛ فالسفسطائيون سيعلمونك كل أنواع الحيل التي تجدي في أية منافسة كلامية. وقد اقتفى أرسطو أشهر تلاميذ أفلاطون أثر أستاذه، وواصل هجومه على السفسطائيين قائلا: «إن مهنة السفسطائي هي الوصول إلى صورة للحكمة دون الحقيقة، والسفسطائي رجل يكسب المال من الحكمة الظاهرية غير الحقيقية.» •••

إن النقد الذي وجهه أفلاطون وأنصاره إلى السفسطائيين التصق بهم، كما سيشهد أي قاموس تعرف فيه السفسطائية بعد ذلك. فهل كان ذلك النقد مستحقا؟ ولماذا وجه إليهم؟ ليس صحيحا أن منتقدي السفسطائية رأوا أن الجدال والإقناع لا يجب تنميتهما كمهارات أو تدريسهما على الإطلاق. وقد كتب أرسطو نفسه أقوى المقالات تأثيرا عن البلاغة، وذكر فيها ما تعلمه من جورجياس فقال: «حيث أوصى جورجياس بمواجهة جد الخصم بالهزل وهزله بالجد، وهو ما أصاب فيه.» ولم يكن أفلاطون وأرسطو يعتقدان أنه من المنافي للأخلاق تعليم التلاميذ رؤية كلا الجانبين من الجدال - وهي تهمة كثيرا ما وجهت للسفسطائيين وكأنها قمة الوضاعة - حيث قال أرسطو ذات مرة:

يجب أن نكون قادرين على استخدام وسائل الإقناع ... في كلا الاتجاهين، ليس لكي نتمكن من الإقناع بشكل عملي على كلا الطرفين (فلا يجب ألا نقنع الناس بما هو باطل) ولكن لكي نرى الحقائق بوضوح، وحتى نتمكن من دحض حجج من يجادلون بالباطل.

ولم يكن صحيحا أيضا أن أفلاطون وأرسطو قالا إن كبار السفسطائيين كانوا بلا مبدأ ولم تكن لهم أية قيمة، بل كان معظمهم يعامل باحترام يصل إلى حد الإشادة عندما يأتي ذكره. ولكن الحقيقة المثيرة هي أن «الفاسدين» من السفسطائيين أيا من كانوا دائما ما بدوا كمحتالين مندسين بلا اسم، إلا أنهم لم يتعرضوا لنقد أفلاطون اللاذع لشخصهم إلا نادرا؛ ذلك أن دوافع أفلاطون للنقد والهجوم كانت عميقة بحيث يصعب التعبير عنها بوضوح أو مواجهة أي من كبار السفسطائيين بها صراحة.

ثمة عوامل أخرى كانت تقف وراء هذا النقد قد يكون من ضمنها العجرفة؛ فقد كان أفلاطون أحد النبلاء وكان (على عكس تابعه بريكليس النبيل) متشككا في فضائل الديمقراطية، وربما عارض مبادئ السفسطائية المنادية بالمساواة والتي تقول إن كل إنسان يمكن أن يتعلم الحكمة وأن يتحلى بالفضيلة وأن يعد لأداء دور معين في الحكومة إذا كان لديه المال اللازم لاستئجار معلم سفسطائي فحسب. وذكر أحد رفاق سقراط أنه شبه السفسطائيين بالعاهرات لأنهم مستعدون لبيع خدماتهم لمن يدفع ثمنها. ولكن كان هناك دافع شخصي أشد ألما لدى أفلاطون، فلقد ألف معظم أعماله (وربما كلها) بعد محاكمة بطله سقراط عام 399ق.م. وإعدامه، وهي المأساة التي يحمل أفلاطون السفسطائيين المسئولية غير المباشرة عنها. وكان أفلاطون يرى أن الجرائم التي اتهم سقراط بها - وخاصة الادعاء بأنه أفسد عقول الشباب؛ لأنه «جعل الحجة الأضعف تغلب الحجة الأقوى وكان يعلم الآخرين أن يحذوا حذوه» - ناتجة عن سمعة بعض السفسطائيين. وكان كبير متهمي سقراط ديمقراطيا يدعى أنيتوس، وقد زعم أفلاطون أنه كان يكن الكراهية والبغضاء للسفسطائيين، رغم أنه لم يكن يعرف من هم بالتحديد. وفي إحدى المحاورات التي كتبت في الأوقات السعيدة قبل المحاكمة يروي أفلاطون حوارا وديا بين أنيتوس وسقراط، وكان أنيتوس قد وجه نقدا عنيفا لسفسطائيين لم يسمهم، وكان هذا نص الحوار:

سقراط :

Bog aan la aqoon