Hilm Caql
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
Noocyada
ويشبه هبوط الإنسان من الفردوس ليزج به بين العناصر والمخلوقات الأخرى في سلسلة إعادة البعث والإحياء ما حدث من تفكك لإمبراطورية الحب القديمة، عندما دمر الصراع الكرة الكونية وقام بفصل العناصر عن بعضها. وكما أن العناصر ستتجمع يوما ما بفضل قوة الحب؛ فإن الأرواح التي تكسوها أنواع مختلفة من اللحم الآن ستعود كذلك إلى سيرتها الإلهية الأولى، فهي تشق طريقها عبر سلسلة من عمليات التناسخ، وفي ذلك قال:
ولكنها في النهاية تأتي بين أظهر الناس على الأرض في صورة أنبياء وشعراء وأطباء وأمراء، ثم ينالون من الجلال والعظمة ما ناله الآلهة قبلهم، فيتقاسمون مع الخالدين شرابهم ومأكلهم ومسكنهم دون ذلك الجزء الإنساني المليء بالأسى والحزن والنصب.
وقد كان إمبيدوكليس حقا ذلك النبي والشاعر والطبيب، كما كان يعامله الجميع كأمير محبوب. بيد أن الطب - أو على الأقل علم وظائف الأعضاء التقليدي - كان محل اهتمامه العملي الأكبر مثلما كانت الرياضيات هي الشغل الشاغل للفيثاغوريين. لقد غالى الفيثاغوريون في تعظيم علم الرياضيات حتى اعتبروا دراسته من أهم الوسائل التي تجلب لهم الخلاص، ويبدو أن إمبيدوكليس قد عظم علم الطب ورفعه إلى هذه المكانة؛ فقد كان الطب على الأقل يستحوذ على إعجاب العامة أكثر من الهندسة.
وكان إمبيدوكليس أول من ينسب إليه الفضل في إنشاء واحدة من مدارس الطب الثلاثة؛ ألا وهي المدرسة «التجريبية»، لعرض أسلوبه في اكتساب المعرفة عن طريق الملاحظة الدقيقة. وقد كان بعيدا كل البعد عن فكرة بارمنيدس التي ترى أن الحواس لا تجر علينا إلا الوهم والخداع، أما إمبيدوكليس فقد حث جمهوره قائلا:
هلموا وكرسوا كل طاقاتكم لملاحظة كيف يبدو كل شيء واضحا جليا، فلا تولوا البصر الثقة الكاملة دون السمع، ولا تعطوا السمع أفضلية على اللسان، ولا تسحبوا الثقة عن أي من الأعضاء الأخرى، فكل منها يشق طريقا للفهم والإدراك، ولكن حاولوا أن تفهموا كل شيء بوضوح.
ورغم كل الإعجاب الذي أبداه إمبيدوكليس لبارمنيدس فقد رفض فكرة الاعتماد على العقل فحسب بوصفه الطريق الوحيد للحقيقة ورفض «سحب الثقة» من الحواس. وسنعرض في موضوعنا التالي لأناكساجوراس الذي نشأ في كلازومني واشترك مع إمبيدوكليس في رغبته في فهم كل ظواهر الطبيعة بدلا من رفضها. ولم يحمل أناكساجوراس أيا من صفات الأنبياء والشعراء التي حملها إمبيدوكليس؛ فقد كان كالملطيين باحثا في الطبيعة يتميز بالصفاء والبساطة؛ مما جعل الأفكار الغامضة عن التناسخ في أشكال الشجيرات والوحوش والأسماك والطيور تتلاشى تماما.
الفصل السابع
العقل والمادة: أناكساجوراس
ولد أناكساجوراس (حوالي 500-428ق.م.) في مدينة كلازومني بالقرب من مدينة سميرنا، ولكن لحسن حظه لم يبق هناك؛ فهو الذي حمل فلسفة الطبعانية الأيونية غربا حيث أثينا. وعندما وصل إلى أثينا عام 460ق.م. كان سقراط حينها لا يزال صبيا ولم يكن أفلاطون قد ولد بعد، ويبدو أن المدينة لم تعرف أي فيلسوف أو رجل علم حتى ذلك الوقت. وقد تحمله سكان أثينا قرابة ثلاثين عاما، وأطلقوا عليه اسما يشوبه التهكم إذ سموه «عقل»، وكانوا يلهون بتداول النوادر عن فكاهاته الساخرة وبعده عن أرض الواقع، ولكنهم لم يكونوا ليتساهلوا معه أكثر من ذلك، فاتهموه في النهاية بالفسق ففر نحو المشرق حتى وصل إلى لامبسكس بعد أن ترك أثرا عميقا في نفوس أهل أثينا.
وتتمثل جريمته المعلنة رسميا في أنه كان يعتقد بأن الأجرام السماوية ليست آلهة تستحق العبادة بل أحجار ملتهبة يجب تجنبها، إلا أن العديد من الكتاب القدامى قالوا إن السبب الحقيقي في مقاضاته هو صداقته للقائد العظيم بريكليس؛ إذ وجد أعداؤه في أناكساجوراس ببعده عن الواقعية هدفا أسهل لهم. ويبدو هذا التفسير معقولا؛ فقد طالت تلك الاتهامات غيره من أصدقاء بريكليس، وشاعت في أثينا المحاكمات ذات الدوافع السياسية بتهمة البدع الدينية بنهاية القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أن تلك المحاكمات لم تكن لتؤدي أغراضها السياسية لو لم تثر الهرطقة والكفر بالغيبيات استياء متأصلا بين أهالي أثينا، أو على الأقل في نفوس بعضهم.
Bog aan la aqoon