14

Hilm Caql

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

Noocyada

الحر والبرد والرطوبة والجفاف،

أربعة أبطال يتملكهم الغضب، يسعون نحو الغلبة.

بالإضافة إلى ما لا يعد ولا يحصى من الأقوال الأخرى. ولكن كيف ينشأ الساخن والبارد والرطب والجاف من المطلق غير المحدود؟ لم يكن بوسع أناكسيماندر إلا أن يقول إن الأمر به نوع من «التمايز». ربما تكون نظريته قد تركت العديد من الأسئلة بلا إجابات، ولكنها على الأقل محاولة للتعامل مع بعض الأسئلة الأخرى. وبالنسبة لأناكسيماندر تكمن ميزة افتراض أن كل شيء قد تطور من كتلة بدائية غير محدودة في أنه يسعى إلى حل لغز لم يكن إلا ليؤرق طاليس أو أي شخص آخر يعتقد أن أحد العناصر الطبيعية هو «أصل» الأشياء الحالية. واللغز كالتالي: إذا كان أصل كل الأشياء من الماء فكيف تكونت النار؟ ألم يكن من المفترض أن تخمد عند لحظة مولدها؟ وكان الحل الذي توصل إليه أناكسيماندر يكمن في القول إن الأضداد الأساسية قد خلقت معا من المطلق غير المحدود، بحيث لا يحظى أي من المواد المتصارعة بأفضلية على خصمها بطريقة غير عادلة.

وبمزيد من التفاصيل، تسير رواية أناكسيماندر عن خلق الكون على النحو التالي: انفصلت بيضة أو بذرة أو حبة سماد تحتوي على الأضداد الأساسية، كالساخن والبارد، عن المطلق غير المحدود، ثم أخذت تنمو حتى أصبحت كتلة باردة رطبة محاطة بحلقة من نار، وأدت الصدمة التي نشأت عن ارتطام الساخن بالبارد إلى نشأة غشاوة داكنة بين الاثنين كون الجزء البارد الأرض، أما النار فقد تشكلت منها النجوم. والأرض عبارة عن قرص مسطح أو ربما أسطوانة، ولكنها ليست جسما كرويا بالتأكيد. والعجيب في الأمر أن الشمس والقمر والنجوم ليست أجساما كروية فحسب، بل إنها عجلات من النار تدور حول الأرض كل منها محاطة بحلقة مجوفة من الضباب، وفي تلك الحلقات ثقوب تخرج منها النار؛ ولذلك تكون كل حلقة من حلقات الضباب مشابهة للأنبوب الداخلي المثقوب لإطار الدراجة المنفوخ والمليء بالنيران، وما نراه عندما ننظر إلى الضوء في السماء إنما هو هذه الثقوب، أما الخسوف فهو ما نراه عندما يسد أحد الثقوب لفترة.

يؤكد ذلك التفسير على أن ثمة الكثير في الكون أكثر مما تراه العين. وسيبدو تصور أناكسيماندر للأجرام السماوية أقل غرابة إذا حاولنا أن نتخيل كيف توصل إليه، فقد تكون صورة الشجرة التي تنمو وتغير لحاءها هي ما دفعه إلى تخيل النجوم على هيئة حلقات. ويبدو أن أناكسيماندر قد استخدم تلك الصورة ليوضح كيف تكون غلاف من اللهب حول الأرض أثناء الانفصال الأصلي بين الساخن والبارد. وإذا أخذنا هذه الصورة بعين الاعتبار يسهل أن نرى كيف تخيل الأجرام السماوية على شكل عجلات سلختها الأرض كالجلد يسلخ من اللحم، وهو ما يفسر على الأقل من أين أتت. وكل ما كان يحتاج إلى تفسيره هو لماذا تبدو لنا هذه الأجرام نقطا أو كرات من الضوء، وهو ما أجابت عليه نظرية فتحات التنفس أو الثقوب.

وثمة فكرة أخرى خيالية في دراسة أناكسيماندر لعلم الكون اشتهرت بتعقيدها أكثر مما اشتهرت بغرابتها الواضحة. لم يفكر أناكسيماندر في أن الأرض بحاجة إلى أية وسادة سواء من الماء أو من أي شيء آخر لتمسكها، ولكنه رأى أنها ترتكز على مركز الكون الكروي ويدور حولها كل شيء آخر، وأن هذا الوضع المحوري هو ما يفسر عدم سقوط الأرض في الفضاء؛ فهي محفوظة في مكانها عن طريق التوازن كما أوضح أرسطو (في شرحه لوجهة نظر أناكسيماندر وليست وجهة نظره الخاصة) قائلا:

حيث إنه يتحتم على ما يقع في المركز ويتصل بالطرفين بصورة متساوية ألا ينحرف مثقال ذرة لأعلى أو لأسفل أو ناحية الأطراف، ومن المستحيل عليه أن يتحرك في اتجاهات عكسية في الوقت ذاته، فإنه بالضرورة يظل ثابتا.

مثل الأرض هنا كمثل حمار بوريدان الشهير الذي ترك في منتصف المسافة بالضبط بين حفنتين من التبن فاحتار بينهما ولم يستطع أن يقرر أيهما يأكل حتى هلك جوعا في النهاية. وتعد فكرة أناكسيماندر تلك فكرة متقدمة من عدة جوانب (ولا يعنينا في هذا المقام كونها فكرة خاطئة، على الأقل لافتراضها أن الأرض مركز الكون). فهي أولا فكرة رياضية ممتعة، وعلى غرار لاعب السيرك الذي يقفز في الهواء واثقا من أن زميله سوف يتأرجح كي يلحق به، فقد قفز أناكسيماندر حاجز الدعم المادي بشجاعة وآمن بفكرة رياضية للوقوف على حقيقة الأرض. لم تكن قوانين الحركة الخاصة بجاليليو أو نيوتن والتي تحفظ الأشياء في مسارها الثابت بطريقة يمكن معها حسابها بدقة قد اكتشفت بعد، ولكن لدينا مبدأ رياضي عام يستشهد بالمسافة المتساوية من الأرض إلى حواف الكون، وهو يستخدم لتفسير أمر أساسي. وعلى غرار المطلق غير المحدود لدى أناكسيماندر، فإن مبدأ التوازن الخاص بأناكسيماندر خفي وموضوعي، ولكنه في الوقت ذاته كالآلهة في قوته. وكانت تلك الفكرة جديدة غير مألوفة لدى علماء الطبيعة الآخرين الذين سارعوا بإعادة الوسادة المادية للأرض كي ترتكز عليها.

إن تماسك رواية أناكسيماندر مثير للإعجاب؛ فهو لم يصف الحياة الحيوانية على الأرض بلغة الخرافات بل ذكر أنها نشأت عن عملية «التمايز» نفسها التي تفسر نشأة الكون. وكما تكون الضباب البدائي الذي يحيط بالأجرام السماوية عن طريق الصراع بين الساخن والبارد؛ فقد انبثقت الحياة من الضباب بفضل تحفيز حرارة الشمس. وظلت فكرة نشأة الكائنات الحية تلقائيا من المادة الدافئة الرطبة منتشرة حتى القرن السابع عشر حين بدأ المجهر يشير إلى غير ذلك، ولكن تلك الفكرة استمرت حتى القرن التاسع عشر. ومن المفترض أن أناكسيماندر قد اعتقد أيضا أن المخلوقات الأولى كانت محاطة بشرنقة شائكة، مستخدما المصطلح نفسه للقشرة أو اللحاء والذي استخدمه في تفسيره لغلاف اللهب الذي تكونت منه النجوم. وقد بنيت الرواية بأكملها لتكون عبارة عن فكرة موحدة؛ ومن ثم فهي تتسم بأقصى درجات البساطة.

كان تفسير أناكسيماندر لظهور الإنسان ذاته بارعا، رغم أنه لم يكن يتمتع بالبصيرة الكافية. ثمة فكرة مغلوطة تقول إنه استبق نظرية التطور، وهذه الفكرة تستمد قوتها من بعض الملاحظات - مثل تلك المذكورة في أحد المصادر المهمة الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي - التي تنسب إليه فكرة نشأة الإنسان وتطوره من كائنات مختلفة النوع. لكن للأسف، لم يكن أناكسيماندر هو داروين. وثمة روايات أخرى أكثر ثراء تؤكد أن ما كان يدور بخلده هو أن البشر الأوائل كانوا يحملون في أحشاء الأسماك، أو كائنات تشبه الأسماك، تؤدي وظيفة الأم البديلة. وبالطبع لم يقصد أناكسيماندر أن أحد الأنواع - وهو الإنسان - قد تطور تدريجيا من نوع آخر وهو الأسماك، ولكن يبدو أن ما دفعه إلى القول بتلك النظرية هو ملاحظة أن الإنسان يحتاج إلى فترة رضاعة طويلة بشكل استثنائي لا يستطيع فيها الاعتناء بنفسه، إضافة إلى اعتقاده أن أوائل البشر ما كانوا ليبقوا على قيد الحياة إذا ما اعتمدوا على أنفسهم. وما إن اعتنت بهم الأسماك وتمكنوا من الاعتناء بأنفسهم حتى خرج الجيل الأول من الأطفال المائيين إلى اليابسة حيث أمكنهم الاعتناء بصغارهم فيما بعد. •••

Bog aan la aqoon