Xigmadda Galbeedka Qeybta Koowaad
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Noocyada
وعلى الرغم من التنظيرات المتمردة التي قام بها فيكو في ميدان علم الاجتماع، فقد ظل كاثوليكيا مخلصا، أو حاول على الأقل، أن يجد للعقيدة النقلية مكانا في مذهبه. أما مسألة إن كان هذا ممكنا دون فقدان للاتساق، فتلك بالطبع مسألة أخرى ... غير أن الاتساق ليس من مزايا فيكو، بل إن أهمية فيكو تكمن، بالأحرى، في استباقه العجيب للقرن التاسع عشر وتطوراته الفلسفية. ففي علم الاجتماع يبتعد عن تصور العقليين للدولة المثلى، ويأخذ على عاتقه مهمة تجريبية هي دراسة كيفية نمو المجتمعات وتطورها، وفي هذا كانت أصالته كبيرة، ولأول مرة نجد لديه نظرية حقيقية عن الحضارة البشرية. كل ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بالفكرة الرئيسية التي دار حولها تفكيره كله: وهي الفكرة القائلة إن الحقيقة هي الفعل، أي
Verum Factum ، حسب التعبير اللاتيني.
الفصل الثاني
التجريبية الإنجليزية
بدأ يظهر، في أعقاب عصر الإصلاح الديني، موقف جديد إزاء السياسة والفلسفة في شمال أوروبا. وقد ظهر هذا الموقف بوصفه رد فعل على فترة الحروب الدينية والخضوع لروما مركزا في إنجلترا وهولندا. فقد ظلت إنجلترا، إلى حد بعيد، بمنأى عن الفظائع التي ترتبت على الانقسام الديني في القارة الأوروبية. صحيح أن البروتستانت والكاثوليك ظلوا لفترة ما يضطهد بعضهم بعضا بطريقة تفتقر إلى الحماس الشديد، وأن المذهب التطهري (البيوريتاني) في عهد كرومويل كان في نزاع دائم مع الكنيسة. ومع ذلك لم ترتكب فظائع على نطاق واسع. والأهم من ذلك أنه لم يحدث تدخل أجنبي عسكري. أما الهولنديون فقد تحملوا عواقب الحروب الدينية كاملة، وبعد صراع طويل ومرير ضد إسبانيا الكاثوليكية، حققوا آخر الأمر اعترافا باستقلالهم المؤقت في عام 1609م، ثم أصبح هذا الاستقلال نهائيا بعد معاهدة وستفاليا عام 1648م.
ويطلق على هذا الموقف الجديد تجاه مشكلات الميدان الاجتماعي والثقافي اسم الليبرالية، وهي تسمية أقرب إلى الغموض، يستطيع المرء أن يدرك في ثناياها عددا من السمات المتميزة. فقد كانت الليبرالية أولا، بروتستانتية في المحل الأول، ولكن ليس على الطريقة الكالفينية الضيقة. والواقع أنها كانت أقرب بكثير إلى أن تكون تطويرا للفكرة البروتستانتية القائلة إن على كل فرد أن يسوي أموره مع الله بطريقته الخاصة - هذا فضلا عن أن التعصب والتزمت يضر بالأعمال الاقتصادية. ولما كانت الليبرالية نتاجا للطبقات الوسطى الصاعدة التي كان التقدم التجاري والصناعي يتحقق على يديها، فقد كانت معارضة للتقاليد القائمة على التمييز، والتي ترسخت لدى الطبقة الأرستقراطية، ولدي الملكية على حد سواء. ومن ثم كان محور الموقف الليبرالي هو التسامح. وهكذا ففي القرن السابع عشر، الذي كان فيه الصراع الديني يمزق معظم البلاد الأوروبية الأخرى، وكان التعصب الأعمى يسومها العذاب، كانت الجمهورية الهولندية ملاذا لكافة أنواع الرافضين والمفكرين الأحرار. ذلك لأن الكنائس البروتستانتية لم تكتسب أبدا تلك السلطة السياسية التي كانت الكاثوليكية قد تمتعت بها خلال العصور الوسطى؛ ومن هنا أخذت سلطة الدولة تزداد أهمية بصورة ملحوظة.
كان تجار الطبقة الوسطى، الذين اكتسبوا ثروتهم وممتلكاتهم بجهودهم الخاصة، ينظرون بسخط إلى السلطة المطلقة للملوك. لذلك كانت الحركة تتجه نحو الديمقراطية المبنية على حقوق التملك وعلى الحد من سلطة الملوك. وإلى جانب إنكار الحق الإلهي للملوك، ظهر شعور بأن في استطاعة الناس أن يتجاوزوا أوضاعهم بجهودهم الخاصة، ومن ثم بدأ الناس اهتماما متزايدا بالتعليم.
ويمكن القول بوجه عام إن الناس كانوا ينظرون بارتياب إلى الحكومة أيا كانت، على أساس أنها لا تلبي احتياجات التوسع في التجارة، وتقف عقبة في وجه نموها الحر. وفي الوقت ذاته كان هناك اعتراف بالأهمية القصوى للحاجة إلى القانون والنظام، مما أدى إلى التخفيف إلى حد ما من المعارضة التي توجه إلى الحكومة. ومن هذه الفترة ورث الإنجليز ميلهم المشهور إلى الحلول الوسطى، وهو الميل الذي يعني في الميدان الاجتماعي إيثار الإصلاح على الثورة.
وهكذا فإن ليبرالية القرن السابع عشر كانت، كما يوحي اسمها، قوة للتحرر (liberation) . فقد حررت من كانوا يمارسونها من كافة ضروب الطغيان؛ السياسي والديني والاقتصادي والعقلي، ذلك الطغيان الذي كان تراث العصور الوسطى المتداعي لا يزال متشبثا به. وبالمثل كانت الليبرالية مضادة لذلك الحماس الأعمى الذي اتصفت به الفرق البروتستانتية المتطرفة، ورفضت السلطة التي كانت تدعيها الكنيسة للتشريع في أمور العلم والفلسفة. وهكذا ظلت الليبرالية المبكرة، المتقدة حماسا بفضل نظرتها المتفائلة، والمندفعة بطاقة لا حدود لها، تخطو خطوات هائلة دون أن تعاني نكسات كبرى، إلى أن جاء مؤتمر فيينا فأغرق أوروبا في مستنقع إقطاعي من نوع جديد، هو «الحلف المقدس».
ولقد كان نمو الليبرالية في إنجلترا وهولندا مرتبطا بالأوضاع العامة للعصر إلى حد لم تؤد معه إلى إثارة ضجة كبيرة، غير أنها مارست في بلاد أخرى، وخاصة فرنسا وأمريكا الشمالية، تأثيرا ثوريا في تشكيل الأحداث التالية.
Bog aan la aqoon