يعزو الناس عدم نجاح المذكور إلى أمور كثيرة، ولكنها عند العارفين ليست بالأسباب الحقيقية التي دعت إلى فشله.
سله اليوم يجبك أنه لم يفشل، لا بل العكس قد نجح نجاحا باهرا، ولكنه لم يأكل ثمار نجاحه؛ إذ سرقت منه تلك الأثمار أيادي طماعة.
يقول إنه كان سببا لنجاح فلان الفلاني وفليتان الفليتاني وغيره. أولئك اليوم من كبار التجار، أما هو فمن الناس الزاهدين بالدنيا والآخرة، لا يهمه من أمر الناس شيء، كأنه من الناس بغير روح، وكأنه ناس أنه من الناس بطرق معاملاته.
وحقيقة الحال أنه في اليوم الذي وصل به عيسى إلى نيويورك شمر عن ساعد الجد وطفق يقرن قوة إرادته إلى ذكائه واجتهاده، يعمل في النهار وبعض الليل؛ ليحصل ما أمله من النجاح في بلاد النجاح، ولكنه كان يخفق في حين أن أعماله تزهر وتثمر فتتناول أثمارها أيدي الغير، ويبقى المسكين على الحصيرة لا طويلة ولا قصيرة.
بعد وصوله بأيام جاءه دعيبس بن الأسمر من بلده، وعرض عليه شأنا إذا سارا فيه يقتادان به الثروة الكبيرة في المستقبل غير البعيد، دعيبس رجل قضى بضع سنوات يبيع المسابح والصور المقدسة في نيويورك وما حولها، وقد جمع بصنعته مبلغا كبيرا من المال بالربح والتقتير. هذا عرض على عيسى أن يفتحا محلا تجاريا في نيويورك يضع دعيبس رأس المال وعيسى يبذل خبرته، وفي آخر العام تشطر الأرباح بينهما، وهي فكرة حسنة دخلت لساعتها إلى عقل عيسى ، فأبرما الشركة، وما هي إلا أيام قلائل حتى باشرا العمل تحت اسم د. أسمر وشركاه.
حاول عيسى أن يدحش اسمه في اسم الشركة، ولكنه لم يستطع لعناد شريكه، وخاف أن تنفرط الفكرة، فرضي قانعا بالأرباح في المستقبل عن أن يشهر اسمه، وعبثا جرب أن يقنع شريكه أن العمل والخبرة مثل رأس المال، وأن الربح لا يأتي به رأس المال وحده إذا ما قرن بالعمل والخبرة، ولكن عيسى أخيرا قال: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.»
تأسس محل د. أسمر وشركاه على أساس مكين، وقد بذل مديره وأحد أعضائه عيسى الباشق كل ما أعطاه الله من المواهب العقلية والاجتهاد النفسي لينجح الشركة، ويجعلها من أكبر المحال التجارية في القريب العاجل، أما شريكه فكان يأمل أن يبلع نيويورك دفعة واحدة دون أن يصرف في سبيل بلعته ريالا واحدا. وهذا أول موضوع للخلاف بين الشريكين؛ لأن عيسى كان يفتكر أن يؤسس المحل في السنة الأولى على دعائم الثقة والإعلان؛ ولهذا لم يكن ليبخل في أمر من الأمور يقتضي فيه البذل، أما شريكه فكان يقف عثرة في سبيله، غير مقتنع ببرهان عيسى؛ لأن البذل التجاري في اعتقاده ليس إلا تبذيرا، وأن الربح في الاقتصاد، فكل سنت توفره تربحه كما يقول المثل الأميركي.
وهكذا قضى دعيبس معظم السنة الأولى مجتهدا عاملا، باذلا قصاراه مرتقا ما كان يفتقه شريكه بشحه وبخله، وكثيرا ما كان يبذل من جيبه الخاص على أمور تخص المحل؛ لئلا يثير ثائر شريكه حتى مضت السنة الأولى، فكان مجموع ما صرفه موازيا حصته في الأرباح، أما أرباح دعيبس فكانت إملاء من كوز الأرملة عذراء طاهرة لم تمسها يد، وقد ذهل شريكه عيسى أيما ذهول لهذا الأمر، ولما سأله من أين كان يصرف على نفسه، أجابه: أنه كان «يمضيها هنا وهناك.»
في رأس السنة الجديدة جاء دعيبس إلى مكتب عيسى، وقال إنه يفتكر بحل الشركة، فواحد منهما يشتري حصة الثاني.
وما كان عيسى يعلم السبب الداعي شريكه إلى حل الشركة بالرغم من نجاحها في بدء تأسيسها ونجاح شريكه بالربح الذي ضمه إلى رأس ماله الخاص، مع أنه هو المسكين نفسه اشتغل وشقي وبذل كل ما كان بوسعه على أمل أن تزداد الأرباح في السنوات المقبلة أضعافا، فيكون له رأس مال مذخور.
Bog aan la aqoon