فأجاب: نحن في عصر قسم الدنيا فيه إلى عالمين: عالم قديم وعالم جديد، وهذا الجديد ليس لأمثالنا بل لمن يحصلون الدينار من قلب الصخر، ويكتنزونه في قلب الصخر، وأما ذاك القديم فصار لهؤلاء الناس الذين يعودون إلى أوطانهم بريالاتهم، فيبنون المنازل ويشترون الأرض، ويكون لهم المحل الرفيع في عيون الناس لما في جيوبهم من الريالات.
نحن لم نخلق لهذا العصر!
من أول الطريق
كان الناس من أقارب فهد الضاهر ومعارفه ومواطنيه يرثون لحاله كلما رأوه، ويأسفون على ما يضيعه من الأيام سدى، ويهزون رءوسهم آسفين، وقائلين من أعماق قلوبهم: الله يهديه بحسنة أبيه المسكين وأهله في الوطن!
أولئك كانوا عارفين بحالة عائلته في الوطن؛ فإن أباه أقعده المرض عن العمل ، وهو رب عائلة كبيرة، فما كاد ينهي فهد دروسه الابتدائية حتى استدان له أبوه مبلغا من المال، فأرسله إلى أميركا؛ ليكون له عونا على دهره، وزوده بالنصائح الوالدية والأدعية الأبوية، وقال له: انظر يا ولدي حالتي؛ فإني بها ليس لي إلا الله وأنت من نصير لتحسينها ودفع البلاء عن العائلة، فاذهب إلى أميركا بلاد العمل، وكن رجلا واذكر ألا أمل لي بالفرج إلا بك.
ووصل فهد إلى أميركا، وكان، بادئ ذي بدء، شابا يتلهب غيرة على أبيه المسكين رب العائلة الكبيرة، وقد عقد نيته على أن يبذل كل ما استطاع ليساعد أباه في حاله.
شاب مهذب جميل الصورة، لو أنه لبس فسطانا وبرنيطة للسيدات - وهو كما هو حليق الشاربين طويل الشعر قليلا، أبيض البشرة، أحمر الوجنتين، كبير العينين، مستدير الوجه - لقال الناس إنه من أجمل الفتيات.
وقد كان المذكور في بادئ أمره لا يشغل رأسه إلا الافتكار بحالة أهله والطريقة اللازم اتخاذها لمساعدة أبيه، فاضطر إلى الاستخدام، وكان يرسل إلى أهله ثلث ما يحصل إلا أنه بعد حين اقتصر على إرسال الربع، ثم بعد أشهر على أقل من الربع، وبعدئذ ترك عمله كمستخدم في محل تجاري؛ لأن نفسه عافت الحصر ومالت إلى الاستقلال، فاضطر إلى امتهان البيع بالجزدان، وصار يتنقل من بلد إلى آخر متكلا على مظهره الخارجي البديع ولفظه الإنكليزي الجميل وبعض اجتهاده، وكان يطمح إلى التعرف بأكابر العائلات الأميركية، مترقبا منها الإنعام الكبير وقد حصر كل طموحه في أن يصير عميلا لبيوت الأغنياء في المصيفات والمشتيات.
شاب جميل الخلق إذا وقعت عليه عين قالت صاحبتها: سبحان من خلق! هذا هو فهد الضاهر. وقد كان أيضا هو نفسه ولوعا بجماله، فلم يكن يذخر وسعا ولا مالا ولا وقتا لجعل هيئته ملائكية، معتقدا من نفسه بأن للمظهر الخارجي كل التأثير على الناس الأغنياء والأكابر؛ ولهذا لم يكن قادرا على التوفير؛ فإن كل ما كان يربحه من شغله لم يكن إلا بعض ما تتطلبه نفسه من لباس ومعدات للزينة، وبناء على هذا انقطع عن مساعدة أهله بعد مدة وصار لا يرسل إلى أبيه مبلغا من المال جزئيا إلا بعد أن يكون قد جفف أبوه المحابر، وكتب إلى أناس أقرباء يستعطفون ولده لينجده؛ ولهذا كان الناس الأقارب والمعارف دائما يأسفون على ما وصل إليه ذلك الشاب، ويطلبون له في قلوبهم الهداية لعله يقلع عن البذخ فيوفر مالا يساعد به أهله المعوزين.
وكان فهد يتألم كثيرا لعدم استطاعته مساعدة أبيه، ولكنه في الوقت نفسه يشعر بدافع من نفسه للطموح إلى الغنى الفجائي عن طريق جمال الصورة وحسن الهندام، وهي حالة أليمة لم يكن له مناص من تعذيب عامليها، إلا أن العامل الذي غلب منهما هو الدافع النفسي فيه للزينة والتبرج.
Bog aan la aqoon