وحمل موسى البدل أتعابه زهاء العشرين سنة ظل فيها مقدرا بخمسين ألف ريال، وكان يقول في نفسه حينما يفطن لحاله: عجبا! ففي تلك الأيام برأسمال خمسين ريالا ربحت خمسين ألف ريال بسنتين، ثم بخمسين ألف ريال لم أربح خمسين ريالا بعشرين سنة!
وهذه معضلة المعاضل لم يكن ليحلها موسى البدل أو ليعرف سببها، وكل ما كان يفتكر به أمر المصروف؛ ففي كل سنة كان يضيق على نفسه الخناق أكثر من قبل حتى انتهى أخيرا أمره بأن أقفل المحل، وصار صرافا.
بالصرافة وجد موسى أن الفرصة للغنى الكثير قد فتحت بابها أمامه، ورأى أنه أصبح ذا مقام عزيز عند قومه وبالأخص التجار، أولئك الذين كان يلح عليهم ويرجو منهم بذل وتواضع أن يؤثروه على غيره فيجابروه ويشتروا من بضائعه، ولم يرحموه، صاروا عندما صار هو صرافا «بانكير» مثل «السمن والسكر»، فكانوا أينما صادفوه يهزون يده بشوق زائد، ويسألونه عن صحته وصحة العائلة، ويشفعون سؤالاتهم بالتمنيات الحسنة، ويعدونه بالزيارات البيتية إلى ما هنالك من ضروب المجاملة، فكان موسى يتناول هذه المعاملة بكل قلبه ورئتيه؛ إذ يتنفس تنفسة طويلة تستغرق دقائق، لاعنا التجارة التي كابدها سنين ولم تعد عليه بأرباح وكان فيها ممقوتا مرذولا، متأملا بالمقام الذي أحرزه بعدما صفى شغله وصار صرافا يقرض هذا وذاك، وبعد أن صار الناس يقبلون يديه ليثق بهم، وقد كان يقبل أيديهم وجها وقفا ليؤثروه على الشيطان، ويساعدوه على تصريف بضاعته.
إلا أن دوام الحال محال، فما جاءت سنة 1907 بعاصفتها المالية في تجارة نيويورك حتى تقلقل سوق التجارة السورية، وعقب ذلك إفلاسات أكثرها لزبائن حضرة «البانكير» السوري.
وخرج موسى من تلك الزوبعة قانعا بذهاب ثلاثة أرباع ثروته وكل أصحابه الذين صيرتهم أصحابه ثروته المرحومة، ومهنته التي جعلت له مقاما في عيونهم، وإنما سرعان ما تلاشى ذلك المقام وتحول الأصحاب إلى أضداد وذلك الشوق الكثير عندما يتلاقون ببعضهم إلى كره وبغض وحقد مما لم يكن ليمحى.
منذ أشهر غير كثيرة أحب طائفة من الناس وأكثرهم أصدقاء موسى البدل - إلا أنهم اليوم أرباب محال تجارية - أن يعقدوا اجتماعا يدعون إليه كبار القوم ليتداولوا بأمر مهم، فكتبوا أسماء عديدين من تجار وأدباء وشبان وباعة جزدان، ولما ذكرت لهم اسم موسى البدل سمعت من أفواه الكل جوابا واحدا قائلين: هذا! وما نفعه؟!
قلت: كيف وما نفعه ؟ أليس من الرجال؟ أولم يكن تاجرا كبيرا وصرافا يزدحم الناس في محله، والسعيد السعيد من كان ينال منهم حظوة في عينيه؟
فسمعت من الكل جوابا واحدا قائلين: إي نعم، كان من زمان، ولكنه اليوم لا يسوى شيئا، فقد خسر ماله وليس من يهمه أمره.
كنت كثيرا ما أسمع في أحاديث الناس ترديد المثل الأميركي «المال يتكلم»، ولم أكن أحله المحل الذي يضعه فيه بنو قومنا حتى ذلك الاجتماع؛ إذ ذاك تأكد لي أن المرء عندهم ليس بأصغريه: قلبه ولسانه، ولا بأكبريه: روحه ودماغه، بل بشيء واحد: ماله.
حي دفين
Bog aan la aqoon