فأجابه أحدهم: ولكن عليك أن تشتري أيضا الأيدي التي تعلق الغسيل على تلك الحبال.
ما فيها شي
أميركا أعظم مدرسة يدرك فيها المرء علومه في الحياة، ويكتسب خبرة تعود عليه بالنفع الحسي؛ إذ تجعله رجلا قادرا على الانخراط في هذا المعترك العالمي مما لا تأتيه المدارس ولا الكليات ولا الجامعات.
إلا أن هذه المدرسة العظيمة كثيرا ما يظهر فيها وباء اجتماعي هائل، وعوارضه انتفاخ الأوداج مع ضيق في الجبين، وقد بحث الأطباء بهذا الوباء فما وفقوا إلى معرفة أصله وإدراك أسراره؛ فبقي عنهم مكتوما لا يستطيعون وصف علاجه لمحوه من عالم الوجود.
هذا الوباء الوخيم أصيب به مهاجر سوري بعد سنة من وصوله إلى أميركا في إحدى مدن الداخلية، وقد جاءه عن طريق العدوى؛ إذ زار يوما بيت صديق له فرآه يطالع في إحدى الجرائد العربية، وكان هو يحسن القراءة البسيطة فقط لا غير، فجلس إلى جانب صديقه يشاركه في المطالعة فسرهما المناظرة بين صاحب الجريدة وزميل له، أو بالحرى المهاترة والمشاتمة، وطفقا كلاهما يسبحان بحمد كاتب تلك المقالة لقوة عارضه وتبريزه باستعمال الكلام الجارح، وقد تشوقا كثيرا لمعرفة ماذا يقوله المناظر ردا على ما قرآه في جريدة «السناء»، فاتفقا آنئذ على أن يشترك نخلة الطبطابي بالجريدة الثانية «منار الأمة»؛ ليتسليا بوجهتي المناظرة، ويتلذذا بالردود والأجوبة، وبماذا يقول فلان عن فلان وهذا عن ذاك، ثم يحكما على المبرز.
بعد خمسة أيام جاءت جريدة «منار الأمة» إلى محل إقامة نخلة الطبطابي، أما جريدة «السناء» فظلت ترد على صديقه ديب أبو غانم، فكان كل يوم يجتمع الاثنان فيطالعان الجريدتين بإنعام نظر ولذة فائقة، وكانا يختلفان آونة ويتفقان أخرى على من كان الأقوى حجة من المتناظرين، أو بالأحرى المتشاتمين.
وظل الصديقان كذلك حتى انتقلت منهما الرغبة في مطالعة الصحف العربية إلى التحزب كل منهما للجريدة المشترك فيها. فصارت اجتماعاتهما لا للذة بالمطالعة كجاري العادة، بل للمناظرة بينهما حول أي من الصحيفتين تضرب على وتر الحقيقة، ومن من الصحافيين أقوى قولا وأدعم حجة.
وظل هذا المكروب السام يتقوى في دماغ كل من هذين القارئين حتى عشش فيهما وبنى صروحه الباذخة، وأول ما فعله بهما أنه حرك أوتار الحماسة، فصار إذا طالع أحدهما صحيفة يشارك صاحبها بنظراته ويسبقه بشتائمه، ويتمنى لو أنه قادر على الخوض في معتركهما ليكرسح الصحافي في الآخر، ثم تدرج بهما فعل ذلك المكروب إلى الاختصام فالعداء.
وانتهى الأمر أن صار الصديقان عدوين، إذا رأى أحدهما الآخر حول عنه وجهه، أو بصق على الأرض متمتما بعض كلمات لا تكاد أذنا شفتيه تسمعانها. وبلغ بهما العداء إلى درجة أنهما أصبحا يريدان الإيقاع كل بالآخر.
بعد أيام جاءت جريدة «السناء»، فكاد لب ديب أبو غانم يطير فرحا إذ رأى اسمه بذيل مقالة تبلغ العمودين من الجريدة، وقد قرأها ديب مرارا وأخذها بيده إلى جيرانه، والسرور مالئ وجهه والرقص يقيم قلبه ويقعده، فكان يدفعها إلى الجيران ليطالعوا مقالته ضد صاحب جريدة «منار الأمة»، ولما دخل على أحد السوريين ودفع إليه عدد الجريدة ليقرأ فيه مقالته أجابه ذلك السوري بأنه لا يعرف القراءة. ولكنه رجا منه أن يقرأها له، فظل ديب نحو ساعة يهجئ الكلمات ويعيد العبارات من الأول إلى منتصفها، ثم يعيدها ثانية حتى يتوفق إلى اجتيازها حاملة شيئا من المعنى وأحيانا يبلع كلمة أو كلمتين أو يتقيأ من فيه كلمة أو اثنتين ليستر حاله، وتارة يهز رأسه ويسب في وكيل الجريدة لتغييره بعض الكلمات.
Bog aan la aqoon