وفي الحادي عشر من الشهر المذكور جرى في مسجد المدينة امتحان إحدى طالبات هذه المدرسة البالغة من العمر تسع سنوات في حفظ القرآن واستظهاره أمام جمهور غفير من الوجهاء والأعيان، وقد فازت تلك الفتاة في الامتحان فوزا مبينا وتلت القرآن جميعه في ساعات متوالية، فلقبت بالحافظة، وحسب العادة الجارية عندهم ألبسها الإمام عمامة خضراء صغيرة، وعلى إثر الامتحان أولم والد الفتاة السيد حسن النحاس وليمة فاخرة لجميع الحاضرين.
ثم قالت الجريدة عن حفظ القرآن ما مؤداه : إن استظهار القرآن وحفظه عادة قديمة عند المسلمين، ولا تخلو الآن عندنا مدينة أو قرية من حافظين وحافظات للقرآن الكريم، وهذه العادة كانت لها أهمية عظمى في صدر الإسلام؛ لحفظ القرآن سالما من التغيير والتحريف؛ لعدم انتشار المطابع في ذلك الوقت، ونسخه الخطية كانت قليلة جدا، ولذا كان يحفظه الحافظون جيلا عن جيل، فلما شاعت المطابع طبع منه ملايين النسخ.
ومن ذلك أيضا أن حضرة الفاضلة السيدة صفية عليه خانم عقيلة سليم أفندي جانتورين تحصلت من وزارة المعارف على رخصة لإنشاء مكتب، وبعد أن فازت بضالتها المنشودة شادت من جيبها الخاص دارا فسيحة للمدرسة؛ لتعليم الأولاد فيها اللغتين: العربية، والروسية، وصناعة الأحذية والحدادة، وقد استحقت هذه الفاضلة الشكر.
وقد أخذت بعد ذلك النهضة بين مسلمي روسيا تسير سيرا مطردا، وظهر بينهم من نوابغ الكتاب والمؤلفين الذين تلقوا العلوم في مدارس روسيا وأوروبا العالية، وأخذوا قسطا وافرا من مدنية الغرب؛ مثل: صدر الدين أفندي مقصودوف أحد النواب المسلمين في مجلس الدوما، الذي خطب من عهد قريب خطبة في مجلس الدوما كان لها دوي هائل في جميع أنحاء روسيا، أنحى فيها باللائمة على بعض الموظفين الروسيين الذين يضطهدون في بعض الجهات المسلمين ويصادرون مدارسهم، ولكني لدى إمعان النظر في خطبته ألفيته يبالغ في سرد الحوادث، وكأني به كان يبلغ تلك المبالغة؛ ليجعل لخطبته تأثيرا في النفوس، ويحرك الحكومة على الاقتصاص من الموظفين الذين يخالفون القوانين ويعتدون على الرعية بدون حق، والذي أعلمه بنفسي وسمعته من أفواه الكثيرين من كبار مسلمي روسيا وسراة القوم أن المسلمين في روسيا يرفلون بحلل الصفاء، ويرتعون في رياض الهناء.
ومن نوابغ الكتاب المسلمين في روسيا الكاتب الشهير أحمد بك أجايف المقيم الآن في الآستانة العلية يحرر بجرائدها، وقد رأيت لحضرته في بعض مؤلفاته مقدمة دافع بها عن الدين الإسلامي، وذكر الأسباب التي حملت الأوروبيين على الطعن على ذلك الدين؛ لسبب جهلهم معتقداته، وقد رأيت أن أنقلها عنه بالحرف الواحد:
قال الكاتب يذكر الترهات والاختلاقات التي كان ينسبها الأوربيون للدين الإسلامي كما يأتي: إن سواد الأوروبيين الأعظم الذي يسلم بداهة بالأمور دون بحث بأسبابها ونتائجها؛ وذلك بالنظر لاستيلاء العقائد الفاسدة على عقولهم، ورسوخها في أذهانهم؛ سواء كان في أوروبا أو روسيا فإنهم يعتقدون اعتقادا متينا بأن الذنب على الإسلام في جميع ما يجري في البلاد الإسلامية، ولولا وجوده لكانت الحال هناك على غير ما هي عليه الآن، المعتقدون بهذا الاعتقاد يرون أن المسلمين ما داموا مسلمين لا يستطيعون الإقبال على المدنية الأدبية العمومية، ثم إنهم - أي الغربيين - يزعمون أن الشر جميعه متمثل في الإسلام، ويتصورون أن أعظم وسيلة تنقذهم منه هي ملاشاة نفس الدين ومحقه من وجه الأرض، وهذه الأفكار رسخت في العقول منذ أجيال عديدة سالفة من جراء الخصام والشقاق والنزاع العنيف بين الغرب والشرق؛ وذلك في خلال قرون مديدة بسبب اختلاف الإسلام والمسيحية، الأمر الذي يظهر الرجل الساذج الذي لم يعتد التبصر والتفكر والتروي بأن هاتين الديانتين على طرفي نقيض في الجواهر والمعتقدات، ولا يمكن التوفيق بينهما، وأخيرا فإن هذا الاعتقاد ساد مدة طويلة بين أهل الغرب، يدلنا على ذلك دلالة واضحة الآداب البزنطية واللاطينية المضادة للإسلام، ومن أراد زيادة إيضاح فعليه أن يقف على مؤلفات ومخلفات العصور الوسطى، لا سيما الفترة التي حدثت فيها الحروب الصليبية.
والإنسان يتأثر تأثيرا شديدا تهتز له أعصابه لدى مطالعته تلك الترهات والمثالب والمطاعن التي كان يتناشدها مغنو وشعراء الرومان الساذجون، وينادي بها النساك ورجال الدين في المعابد والمجتمعات العامة والبراري؛ يصفون فيها شخص وتعليم سائق الجمال الذي أطلقوا عليه اسم «النبي العربي الكاذب»،
2
ومن الأمور المضحكة المبكية نظر أهل الأجيال الوسطى إلى الإسلام، واعتقادهم به، فكان الشعب يصدق بداهة كل افتراء على الإسلام وأتباعه، وقد بالغوا في استنباط المفتريات والسفاسف لدرجة لا يجوز تصديقها؛ لما فيها من الغرابة المنكرة، وقد أدى بهم الجهل إلى تصوير محمد بهيئة الشيطان ذي قرنين، وأطلقوا عليه (ضد المسيح) الراسخ في أذهان القوم بأنه يفسد الناس ويخرجهم عن دينهم، ولذلك لا بد أن يزج في سعير النار؛ حيث لا يقر له فيها قرار، ثم إن تيورين الكاذب المفتري ألف رواية وصور فيها محمدا بهيئة الصنم ماهوم الذي كانوا يعبدونه في قادس ولم يجسر كارلوس الأعظم على تحطيمه وتكسيره؛ خوفا من الأبالسة المختفية في جوفه.
ومما مر يتضح للقارئ أن العقول النيرة كانت منغمسة بمثل هذه الاعتقادات الفاسدة والمفتريات الباطلة البعيدة عن الحقيقة بعد السماء عن الماء، وقد أجمعوا عليها كلهم حتى إنه لو قام بينهم في مثل ذلك الوقت رجل كشف الله له عن نور الحقيقة وجاهر بها؛ لكنت ترى الناس يصبون عليه صواعق سخطهم ونقمتهم؛ فقد كادوا يحرقون دانتي في النار؛ لأنه عد محمدا في (روايته الإلهية) بين الرجال العقلاء المصلحين ذوي المدارك السامية، فاضطر لكي ينجو من سخط الشعب الذي تهدده بالقتل أن يضعه في عداد الرجال الأشرار الذين عاثوا في البلاد فسادا، وبثوا بذور الشقاق والنفاق والخصام بين معاصريهم؛ مثل «فراد التشينو» و«برتران بورن» وغيرهما اللذين هم في عرف الشعب من سكان جهنم، ثم إن المصور الإيطالي الشهير أركانيوس وضع عدة رسوم للأشخاص الذين يحتقرون جميع الديانات على الإطلاق واتخذوها لمجرد الهزء والسخرية، فصورهم واقفين في جهنم ولهيب النار يكتنفهم من جميع الجهات؛ وفي مقدمتهم محمد، وأفيردوئيس (الوليد بن رشد)، والمسيح الدجال أو ضد المسيح.
Bog aan la aqoon