حبر على ورق
صندويش
الأونسكو وإنتاجنا الأدبي
بقرة وعنزة
شبابنا الحائر
شهوة الحكم
الدنيا واسطة
لا يحولون ولا يزولون
سوس وقراد
إقطاعية برلمانية
Bog aan la aqoon
كالعيس في البيداء
حساب الحمص
على هامش جلسة الثقة
من أين لك هذا؟
دجاجة الاستقلال
بق البحصة يا شماس
إميل لحود
فوضى النياشين
حامل وسام
الجنود سياج الدولة
Bog aan la aqoon
سيكي الكلب البوليصي
ديك يصلي ليلة عيد الميلاد
صاحبنا الصيف
ارفس الحواجز وامرق
الشجر تتهم البشر
كوافيرنا
عثمان ومعاوية وأبو ذر
أوانسنا وعوانسنا
بمناسبة العام الجديد
موسم المقامرة
Bog aan la aqoon
رسالة إلى السماء
كنوز مرصودة
حبر على ورق
صندويش
الأونسكو وإنتاجنا الأدبي
بقرة وعنزة
شبابنا الحائر
شهوة الحكم
الدنيا واسطة
لا يحولون ولا يزولون
Bog aan la aqoon
سوس وقراد
إقطاعية برلمانية
كالعيس في البيداء
حساب الحمص
على هامش جلسة الثقة
من أين لك هذا؟
دجاجة الاستقلال
بق البحصة يا شماس
إميل لحود
فوضى النياشين
Bog aan la aqoon
حامل وسام
الجنود سياج الدولة
سيكي الكلب البوليصي
ديك يصلي ليلة عيد الميلاد
صاحبنا الصيف
ارفس الحواجز وامرق
الشجر تتهم البشر
كوافيرنا
عثمان ومعاوية وأبو ذر
أوانسنا وعوانسنا
Bog aan la aqoon
بمناسبة العام الجديد
موسم المقامرة
رسالة إلى السماء
كنوز مرصودة
حبر على ورق
حبر على ورق
تأليف
مارون عبود
حبر على ورق
يقولون لك: اكتب. وماذا تريدون أن نكتب؟ ومن يقيم وزنا لما نكتب؟
Bog aan la aqoon
تعود الناس أن يقرءوا ما يكتب بالقلم العريض، فماذا يؤثر بهم الهمز والغمز؟ الجلود متمسحة، وهيهات أن تغرز الإبر فيها، فلا بد لها من المسلات.
كان والدي يوصي الفلاح حين يسلمه الفدان في أول الري ألا يكثر من النكز بالمساس ويقول له: اسمه مساس يا نعمه، ومن اسمه تعرف كيف تستعمله. الفدان الذي تنكزه دائما يتعود، وهناك البلاء.
أنا أعتقد أن كثرة الكتابة وخصوصا تلك التي تكتب بالنبوت لا تؤثر بأحد، وخصوصا في هذا الزمن الذي انهارت فيه المثل العليا وقل الحياء، ألا يسمون الكذاب داهية، والدجال سياسيا، والوصولي ألمعيا، والانتهازي عبقريا، والأنوف الأبي، حمارا لا يعرف يعيش!
ماذا تريدون أن نكتب لمن يطمسون ما نسطر بكلمة عابرة ؟ حكي جرائد؟ إن الذي كان يتوارى حياء إذا لاكت اسمه ألسنة الناس قلما تجده في هذه الأيام.
غفر الله ذنب ابن الوردي الذي جنى على العدالة حين قال:
إن نصف الناس أعداء لمن
ولي الأحكام هذا إن عدل
فأمسى يتمثل ببيته هذا كل مسيء ممن يلون الأحكام. أعرف واحدا كان متهما في نزاهته، وقد رأيته في مساء يوم لهجت فيه الصحف بسوء، فقال يعتذر عن ذلك: إرضاء الناس صعب. المسيح لم يرض كل البشر، وما سلم من لسانهم، فكيف تطلب ذلك من هذا العبد الحقير.
فقلت له: ضميرك مرتاح؟
فقال: جدا.
Bog aan la aqoon
فسكت.
فقال: ما بالك، يظهر أنك مصدق ما كتبوه عني.
فقلبت شفتي وهززت كتفي.
وفي صباح اليوم الثاني رأيته متصدرا إحدى الحفلات وقد أقيمت تحت رعايته، فكالوا له المديح بالمد. كان مطمئنا جدا في تلك الجلسة ينظر وكأنه يتمثل بقول النواسي:
خير هذا بشر ذا
وإذا الله قد عفا
رحم الله ذلك الزمان، يوم كانوا يشهرون الساقطين من أعين الناس فيركب المفلس حمارا، ويطاف به في شوارع المدينة في محفل مهيب. تمشي وراءه صبيان الأزقة ويحييه أصحاب الدكاكين بالبيض المذر، والبندورة المهترئة، والصرامي العتيقة. في تلك الأيام كان الرجل إذا مس اسمه هرول إلى المحاكم ليقيم دعوى الافتراء ليسلم شرفه الرفيع من الأذى. أما في هذه الأيام، فمن يطعن به يضحك ويهزأ، والذي تمدحه لا يبالي، فكأن الكلام أمسى لعبة أطفال ليس غير.
ومع ذلك يقولون لك: اكتب. وماذا تريدون أن أكتب؟ ولماذا أكتب؟ ألأعيش؟
إن صاحب النبوت أرفه مني حالا. إنهم يحتاجون إليه حيث لا يغني عنه غيره، فيعلفونه ويظل معلوفا موقوفا ذلك اليوم.
والمقاس أحرى مني بالحظوة والالتفات لأنه يجالسهم ويهدر مالا كما يهدرون، والماجن أقرب إليهم؛ لأنهم يرون فيه الجليس الأنيس.
Bog aan la aqoon
الأديب، وما هو الأديب؟! أما قالوا قديما: أدركته حرفة الأدب. إننا في بلد، آخر الناس فيه رتبة، حامل القلم.
كنت عزمت على ألا أخوض هذه الغمرات لأنني لا أحسن السب والشتم ونحن في زمن لا يفهم ناسه إلا هذه اللغة، وأنا لا أحسنها. شعاري:
العبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامة
ولكن أحرار هذا الزمان تعودوا التقريع، فأية فائدة ترتجى من الكتابة. ولهذا جعلت عنواني الدائم (حبر على ورق). إحياء لذكر ذلك المجهول الذي قال هذا المثل، مثل: شهاب الدين وأخيه، ولا عجب فالحبر والورق أخوان.
إن الكلمة لا تصير جسدا ما لم يتقمصها القارئ وتحل فيه، وإلا فإنها تظل حبرا على ورق. وأين هذا القارئ من قارئ أمي يعتقد أنه فوق الأمة وعلى القمة.
صندويش
صندويش على وزن سلسبيل. وكما جمعوا سلسبيل، سلاسب وسلاسيب، أريد أن أجمع صندويش، صنادش وصناديش. الصندويش طعام المستعجل وزاده، يأكله كيفما يشاء، قاعدا، أو واقفا ماشيا، ولا حرج عليه.
إن المأكولات المعدة في العلب، أغنت الكثيرين عن موقد يدب له بالحطب وقدر تراقب مراقبة الرجل الغيران لزوجة فارك شاردة العين. إن زمن طبخ الهريسة مضى وراح، فالناس أمسوا على دين امرئ القيس، بعد تلك القعدة على ثياب العذارى وإخراجهن من بركة دارة جلجل بالثوب الذي فصله لهن ربهن. ثم كافأهن الشاعر على فضيلتهن تلك بذبحه ناقته لهن.
وظل طهاة اللحم ما بين منضج
Bog aan la aqoon
صفيف شواء أو قدير معجل
إن الناس اليوم في حاجة إلى ما هو أسرح من ذاك القدير المعجل إلى صندويش يسندون به قلبهم، لا إلى طعام يد ويدين يقعدون له. وكذلك قارئ هذا العصر، فإنه محتاج إلى ما يرفه عنه ولا يتعب دماغه وأعصابه. إن أدمغة الناس أصبحت في أصابعهم، وستصبح العقول آلية متى رخص الدماغ الإلكتروني، وصار في استطاعة كل واحد أن يقتني دماغا كما يقتني قلم الحبر - الستيلو أو المداد - كما شاء بعضهم أن يسميه.
إن التفكير العميق مهدد بالاندثار كما كادت أن تندثر النياق والخيال والبغال، ولذلك رأيت أن أفتح دكان صندويش أزود بها عابري السبيل، ويا لهف قلب الأدب من القراء المستعجلين. فلا يستغربن القارئ، إذن، هذا العنوان الجديد. فهو مستعجل لا ينتظر حتى نطبخ، فلا يكاد يقول: هات. حتى نجيب: خذ، فينتش ويكدم.
أظن أن المرحومة ستي كانت أبرع من علماء اللغة في انتقاء الأسماء الجميلة. أما سمت الصندويش عروسا. أليس بين الصندويش والعروس شبه رائع. كلاهما ممشوق القامة، لذ المقبل. ناهيك أن اسم العروس حلو الوقع في جميع النفوس ولا أحاشي نفوس الشيوخ مثلي.
وبعد، فأي صندويش نقدمه اليوم؟ إن السياسة طاغية على تفكيرنا في هذه الأيام، وإصلاح الوطن وجهة الجميع، وكل يدعي وصلا بليلى. فالمثاليون منا ملتهبون غيرة على إصلاح الوطن حتى تعجز الإطفائية عن إخماد نار حميتهم ... لست أنكر أن فينا من هم من هذا الطراز العالي، أما الأكثرون فتنطبق عليهم هذه الحكاية.
ضاقت الدنيا بأحدهم فالتجأ إلى الدير لينخرط في سلك الرهبانية.
وبعد ألف يا ويلاه، اجتاز أزمنة التجربة الحادة التي يمر بها المبتدئ. وأخيرا هونها الله وجاءت ساعة التكريس. ركع الطالب على درجة الهيكل أمام قدس الأب العام، فطرح عليه هذا السؤال التقليدي: ما غايتك من لبس هذا الأسكيم - قلنسوة الراهب - يا أخي؟
فأجابه الأخ بعين بلقاء: راحة جسمي وكبر بطني.
فمات الرهبان الحاضرون من الضحك، ولكن الأب عبس في وجوههم، فعادت الضحكات أدراجها، وقال المحترم للأخ: ما هكذا يجاوبون يا أخي. قل: حبا بمريم العذراء وخلاص نفسي.
ونحن إذا عرضنا هذا السؤال على موظفي الدولة، فكم واحدا يجيبنا بغير ما يشبه جواب ذاك الراهب الهارب من الفقر الذي لم يتعرف عليه الروح القدس، ولا مر بباب صومعته؟
Bog aan la aqoon
كنا نقول فيما مضى عند التعجيز: إن فعلت كذا أعطيك طربوشي، أو إن صار كذا أحلق شواربي، ولكنني اليوم صرت بلا طربوش ولا شوارب، فما عساني أقول له، وعلى ماذا أخاطره؟ ليس له عندي إلا صندويش لا يحلم بمثله، وهدية المقرف ليمونة حامضة.
الأونسكو وإنتاجنا الأدبي
الكتاب يتيم مسكين في لبنان، وأين يبيت الفقير المعدم!! فالأوادم (الطازة) يبنون قصورا مقببة لا يجد الكتاب فيها مكانا يسند إليه رأسه. والموظفون، كبارا وصغارا، بينهم وبين المطالعة عداوة بيت الأعور، إذا أهديت إلى واحد منهم كتابا فلا يفض بكارته لأنه عنين لا يأتي الكتب.
الأغنياء الطازة لا يطربون إلا لرنة الذهب، وخشخشة الورق النقدي. فاهد إليهم كتابا يعلم الجمع، فما يجديهم كتاب أدب يلهيهم عن الطرح والضرب.
ماذا تقول في موظف كبير يحشر في زمرة الأدباء، تهدي إليه كتابا فتراه بعد حين عند غيره. فوالله لو استطعت استعادة كتابي ذاك لزففته إليه ثانية بطبل وزمر.
يقولون: لبنان بلد الإشعاع، وأين هو الإشعاع؟! وأنت إذا دخلت بيتا من بيوت زعمائه فلا تجد فيه إلا سلاحا عتيقا وحديثا، خناجر وطبنجات، بندقيات ومسدسات، قلما تجد إلى جانبها كتابا أو كراسا. إني أرجو وآمل بعد أن سألتنا منظمة الأونسكو عن محصولنا الأدبي أن نخلص من هزئهم واستخفافهم بالأدب. إذا قيل لهم: فلان عائد من أميركا وهو ملك الأحذية في دار هجرته، حملوه وماركته المسجلة على الرءوس، وإذا قلت لهم: هذا الأديب رفع رأس المغتربين، أشاحوا عنك وعنه بوجوههم مستخفين.
التقيت عند أحد صيارفة بيروت بتاجر لا يملأ العين سمته، فقلت للصيرفي: من هذا الذي تجله كل هذا الإجلال؟!
فقال لي باستغراب وإعجاب: أرأيت (الكمر) الذي على وسطه، إنه محشو بالليرات الذهبية. فقلت: المجد لك أيها الكمر. المجد لك. ورأسه كيف؟ فأجاب: أنا يعنيني خصره.
أبمثل هذا الرأس البور تنمو الكتب الأدبية؟! قالت الصحف: إن الجداول التي أرسلت إلى منظمة الأونسكو تدل على أن الإنتاج الأدبي ضئيل في لبنان. قلت: ولماذا لا يكون ضئيلا، وأحد الأدباء المتظرفين قد أعد خاتما يسم به وجه كتابه: هذا كتاب أهديه لأني لا أجد من يشتريه.
يا لها من دعاية مرة، ويا ذل الكتاب في لبنان. حلو أنت ومر يا سعيد، ولكنك تغمز حمارا، كما قال ابن العميد للصاحب.
Bog aan la aqoon
الكتب يا منظمة الأونسكو موجودة إذا كنت تطبعين، فدور النشر طبعت وتطبع ما تستطيع، ولكن الكتب الأدبية لا يقرؤها غير الأدباء والمتأدبين، وقلما يستطيع أديب شراء كتاب. وإذا بيع كتاب استعاره العشرات من الناس. وهكذا تنام الكتب في مستودعاتها لا تحلم بغير مداعبة الفئران ومغازلة الجرذان.
أرأيت كيف استحال بلد الأبجدية بلد موزو وتوميغان؟!! النافذون من الأمة لا ينشدون غير جذعانها أصحاب الزنانير العريضة، والسراويل القرقية. أولئك هم الذين يكتبون المدائح بالنبوت، ويخطبون بالبندقية، ويحيون بالمسدس، فتظهر (الشعبية) ويبلغ الأرب الرخيص.
بقرة وعنزة
تأدبوا يا قضاة الأرض. هكذا صاح النبي داود في المزمور الثاني. والحكم ملح الأرض، هكذا جاء في المثل. فمتى كانت لنا ضمائر حية عدلنا واطمأنت قلوبنا واستراحت نفوسنا القلقة، ولهذا خلقت الموازين والسجلات.
إن في أعماق شخصيتنا يستقر ذلك الشيء الذي تواضع الناس على تسميته ضميرا أو وجدانا، وهذا الضمير يقوى ويشتد إذا ظل الإنسان يدفع نفسه في طريقه إلى التسامي. الضمير تخلقه فينا تربيتنا الأولى، ولكننا إذا أهملناه وتركنا محاسبة أنفسنا وتصاممنا عن سماع صوته، مات رويدا رويدا وقضينا حياتنا في سكرة لا نستفيق منها إلا في السكرة الكبرى، سكرة الموت.
إذا أراد واحد منا أن يمتدح رجلا ويثني على استقامته قال: فلان صاحب ضمير، وفلان ضميره حي، كأنهم يعتبرون الطماع غير العادل ميت الضمير.
قد راقبت الحيوانات الداجنة فوجدت في تصرفات بعضها، أثرا للضمير أو الوجدان. فالكلب أو الهر إذا أخذ خلسة ما لا يحق له أخذه، بدا عليه القلق والاضطراب حين يراه صاحبه متلبسا بالجريمة.
وما الإقرار بالجنايات الكبرى إلا من عمل الضمير، ولولا ذلك لا يعترف مجرم بما جنت يداه. وما العدالة البشرية إلا بنت الضمير، تلك الجرثومة التي تجعل من الإنسان ملاكا بشريا، ومتى نمت فيه جعلته فوق البشر.
كان مكتوبا على تاج كسرى أنوشروان أربع آيات عرفت بآيات التاج، والآية الأمامية هي هذه: العدل يدوم وإن دام عمر، والآية الورائية: الظلم لا يدوم وإن دام دمر. فحسب الملك العادل أنه لا يحتاج إلى جنود تحميه وينام ملء عينيه.
ومن حكايات الفرس أن ملكهم أنوشروان ذهب ذات يوم في رحلة يصطاد، ولما حان وقت غدائه افتقدوا الملح فلم يجدوه، فأمر أحد غلمانه أن يذهب إلى قرية قريبة ويجيء بالملح، ثم أوصاه أن يشتريه بحقه، ولا يأخذه مجانا؛ لئلا يحيق الخراب بالقرية.
Bog aan la aqoon
فقال الوزير: أبحفنة ملح تؤخذ بلا ثمن تخرب القرية؟
فقال كسرى: هكذا بدأ الظلم في الدنيا، بدأ قليلا جدا، ثم تمادى الحاكم فيه حتى بلغ الحد الذي نراه.
وحكي عن مار أفرام السرياني أنه كان سميك الذهن يقرأ ليل نهار ولا يعلق بذاكرته شيء. فيئس من نفسه وقنط. وفي ذات يوم مر ببئر فرأى أثر الحبل في (خرزة) البئر، وقد حزها حزا عميقا حتى كاد يبريها، فسأل امرأة كانت تملأ جرتها عما فعل بالخرزة هكذا، فأجابته: الحبل يا أفرام.
فعاد أفرام أدراجه وحمل كتابه إلى البرية حيث اتخذ له مقعدا على صخرة قائمة على كتف واد. وهناك ظل يدرس سنوات، ولكن بقرة لجاره كان يسرحها فتأتي وتعكر عليه وحدته بخوارها، وبينا هي على شفير إذا بأفرام يصيح بها صيحة ردد الوادي صداها فاضطربت البقرة واختل التوازن فتدهورت إلى الوادي وفكت رقبتها.
وجاء صاحبها يندب حظه وبقرته التي كانت كل رزقه. وراح أفرام يساعده على سلخها وتقصيبها محاولا بذلك طمس معالم جريمته.
وخلا لأفرام الجو زمنا وكان له الهدوء الذي أراد بعدما قضى على البقرة. وتفتقت براعم مواهبه فصار ذلك الشاعر المسكوني. ولكن جناية ارتكبت وكان أفرام واحدا من المتهمين فزج في السجن. وطال الحبس فأخذ أفرام يناجي ربه متذمرا من الظلم؛ لأنه بريء مما اتهم به.
وطالت الصلاة والنجوى، والسجن لم تنفتح أبوابه، وأفرام يتألم ويصرخ إلى ربه يسأله الفرج. وفي هدأة الليل بينما كان المسجونون يغطون في نومهم ركع أفرام يتضرع إلى ربه بحرارة ويبكي وينتحب ويقول: أنت تعلم يا رب أنني بريء، فكيف تتركني في ضيقي. أنا مظلوم يا رب، أنا لم أسفك دما كما اتهموني، فمد يدك يا الله وافتح باب حبسي. انتشلني من جب العذاب كما انتشلت يوسف، وأنقذني كما أنقذت دانيال.
أنت وحدك تعلم أني بريء من هذه التهمة فنجني إذن. أين قدرتك يا الله؟ أيقتل الناس بعضهم بعضا ويجازى عبدك.
وبينا كان أفرام في معمعة هذه الابتهالات إذا به يسمع هاتفا يقول له: والبقرة يا أفرام!! فأصغى أفرام إلى الهاتف وهو متعجب كأنه يتساءل، فإذا به يسمع من يقول ثانية: نعم، البقرة التي قتلتها يا أفرام، وشاركت صاحبها في سلخها كأنك لم تقترف إثما.
فتذكر أفرام جريمته وخر إلى ذقنه يبكي. استيقظ ضميره وعرف أنه يكفر عن ذنب قديم كان نسيه، ولكن الله لا ينسى.
Bog aan la aqoon
واستحال سجن أفرام إلى هيكل توبة فنظم في استرضاء ربه من شعر الكفارة شيئا كثيرا. قبل سجنه بريئا، وأخيرا تطهرت نفسه، واعترف المجرم بجنايته وخرج أفرام من سجنه خروج الذهب من النار.
وفي حكاياتهم أمثلة كثيرة على العدل ومحاسبة الله ملوك أرضه عما فعلوا في عباده. حكي عن عبد الله بن عمر أنه حينما اقتربت المنية من والده سأله متى يراه بعد موته؟ فقال عمر: أراك يوم القيامة إن شاء الله.
فقال عبد الله: وددت لو أراك قبل ذلك.
فقال عمر: إذن تراني في المنام بعد يومين أو ثلاثة.
ومات الإمام العادل ومضت الليالي الثلاث ولم ير عبد الله أباه، وبعد اثني عشر عاما جاءه في المنام فسأله ابنه عبد الله: أما قلت لي يا أبت، إنني أراك بعد ثلاث ليال من موتك؟
فقال عمر: لم يكن لي الوقت يا بني، كان ربك يحاسبني عن جسر تهدم أثناء فتح العراق ولم يصلحه العمال وقد عثرت به عنزة فكسرت ساقها.
الله الله ... فكم من رقاب تفك في هذا الزمان، وكم من نفوس تزهق بسبب إهمال العمال، وليس من أحد يحاسب نفسه حتى كاد العدل أن يتوارى.
وقد قرأت في أيام الصبا، حكاية يونانية كتبت لحث الناس على العدالة. قيل: إن العدل ساد في إحدى المناطق الرومانية حتى كان القاضي يحضر إلى مجلسه ويتربع فيه، ثم لا يمثل أحد بين يديه فيرجع إلى بيته. وأخيرا أذاع أنه مقيم في بيته، فإذا شاء أحد أن يرفع إليه ظلامة فما عليه إلا أن يشد حبل الجرس، فيخف القاضي إلى استقباله وسماع شكواه.
وانقضى الشتاء ولم يدع القاضي أحد. وجاء الربيع فنبت العشب حول حبل الجرس فغطاه . وفي ذات يوم سمع القاضي صوت الجرس، فخرج ليرى من الطارق، فإذا هو بغل خلي سبيله ليرعى. البغل مهزول ما عليه غير جلد منشور على عظم. عمل حتى أدركته الشيخوخة، ولما لم تبق منه بقية ألقى صاحبه حبله على غاربه وصرفه من الخدمة، وظل القاضي يفتش عن صاحب البغل حتى وجده، ولما مثل بين يديه حكم عليه وأجبره على إطعام بغله.
إنها حكايات، وقد تكون أساطير، ولكنها كيفما دارت بها الحال، تعلمنا درسا ساميا.
Bog aan la aqoon
كلنا نطلب العدل، وقلما نجدنا عادلين في أعمالنا. فالعدل يجب أن يسود في كل مكان. في البيت، في الشارع، في الهيكل، في المحكمة. لا يطلب العدل من الحكام - وحدهم - بل علينا نحن جميعا، أن نكون عادلين، وقديما قالوا: لو أنصف الناس استراح القاضي.
شبابنا الحائر
انقضى موسم الشهادات وانتهى كما ينتهي كل موسم في إبانه، فإلى الذين خرجوا من معارك الامتحان سالمين غانمين نقدم تهانينا. وإلى الذين خانهم الحظ - كما يزعمون - تعازينا بأسف غير عميق. أما قال الحكيم العامي: إن فاتك عام فاستبشر بغيره. فإلى العمل الجدي أيها الإخوان، فالرجل المنتظر هو من يقع ويظل ثابتا حيث هو.
ستظفر يا أخي بشهادة إذا انصرفت إلى الكتاب، ولم تتلفت إلى هنا وهناك، ولم يكن وكدك في الصيد منذ اليوم، دع أخبار ابن أبي ربيعة التي يفرضها عليك المنهاج، واقرأها عملا بالواجب ولا تعمل بها. ولكن ما لنا وللمنهاج فأنتم شباب اليوم ترمون إلى أبعد من عمر، تراسلون الفتيات الأوروبيات وتنتظرون الجواب قبل موعد الدرس. وإذا أبطأ عليكم فتشتم عن عنوان ثان وكتبتم إلى التي تعرض بضاعتها على كل قارئ، وقعدتم تنتظرون ساعي البريد لعله يفتح لكم باب الفرج، ومن أين تدخل الشهادة التي تنتظرون.
من ينكر حب هذه البقعة اللبنانية للعلوم والآداب. فمنذ عصور ودهور، وبيوت العلم تشاد فيه. واليوم ألسنا نرى على كل قمة مدرسة تطاول قممه الشاهقة، وفي كل بطحاء دور علم مفترشة كلكلها كما قال الأخطل في عبد الملك، وفي كل مدينة عددا عديدا من المدارس تكاد تضاهي الحوانيت والمخازن عدا. أما العاصمة فلا تسل عن معاهدها فقد أصبحت أكثرها كليات ولم يعد يرضى أصحابها باسم مدرسة، وكل هذه الدور محشوكة بالطلاب حشكا تزاحم بعضها بعضا لتحصل على أكبر عدد ممكن من الطلاب والطالبات.
لا يدرج الطفل عندنا حتى يحبسه والده بين جدران مدرسة، وهناك يطوي الأيام وينشر الأعوام. يظل يخرج من المدرسة ثم يعود إليها إلى أن تقبل السنة الأخيرة، وينال شهادته النهائية التي يحسبها ثروته العظيمة. تتمثل له آلاف الدنانير كارجة بين سطورها، ويرى كل حرف من حروفها يضارع أشهق قصور إسبانيا، وعلى هذه الآمال يخرج من المدرسة إلى مدرسة الدهر.
في موسم الشهادات تفعل المدارس كما يفعل المزارع تماما. هذاك يكوم حنطته المدروسة على بيدره، والمدارس تغربل محصولها أولا. تغربله وتصدره إلى العالم أكياسا. وذوو الشباب تملأ صدورهم الآمال بالغد، فقد أنفقوا الكثير مما يحبون حتى رأوا في يد ابنهم هذا السلاح الثقافي الذي يقاتل به في حرب المعاش. يتخيل الأب كل حرف من شهادة ابنه مبلغا ضخما من المال، وأنه متى تخرج الصبي يقبر الفقر.
ها قد طارت الطيور بأرزاقها ولكن إلى أين؟ أفلت الصبي من القفص فانزاح برقع الوهم عن عينيه فنظر إلى العالم مدهوشا وتمثل لعينه حرج موقفه، فبهت ووقف وقفة المتحير إذ لاح له نور مستقبله الضئيل. الآن درى أن الشهادات كالأوراق المالية. فبقدر ما وراءها من الذهب المرصوف في خزائن الدولة، تكون قيمتها الحقيقية، وها هو يعرض ما في يده في الأسواق والله أعلم بالمصير.
فماذا يصنع يا ترى؟ أيتعلم فن الطب؟ ربما أنه لا ينجح وأمه لا ترضى، لأن الطب يقتضي تحصيله الزمن الطويل، وهي مستعجلة حتى تفي الديون وإلا راح البيت وبستان الليمون وكرم الزيتون.
هل يدرس علم الحقوق؟ فعمه وأبوه لا يرضيان. عرفا أن البعض قد دنسوا هذه المهنة الشريفة حين اتخذها وسيلة لابتزاز أموال الأيتام وتحميل الناس أحمالا ثقيلة.
Bog aan la aqoon
أيكون مدرسا وهو يعرف ما كان يكابده أستاذه من الأتعاب وإعمال الفكرة ليبين له غوامض دروسه ناهيك أن الراتب طفيف، ولربما أنه لا يجد مدرسة يدرس بها؛ لأن التدريس صار حرفة من ليس له حرفة، والرواتب كمشاريع الحكومة توضع في المناقصة. وجنابه لا يقنع بالقليل، وأهم من كل ذلك أن بضاعته قليلة وهو غير واثق من نفسه.
أيرضى بعمل عند أحد التجار مدة ليختبره؟ لا. لأن والده أنفق عليه ثروته حتى تعلم هذه العلوم وهو أيضا لا يطيق أن يكون مرءوسا. وإن رضي بتأسيس محل تجاري يعارضه والده وعمه وابن عم أمه زاعمين أن بعض التجار يبيعون الذمة والضمير ويلجئون أخيرا إلى الإفلاس ليأكلوا مال الناس. وقبل وبعد فمن أين له رأس المال؟
أما الوظيفة فقد حاول إدراكها فما أدرك إلا غبارها، إنها كالنعامة ومن أين له خفة الرجل؟ وجد خلف كل كرسي ألفا من أمثاله، وكيف يصل وهو مقطوع الظهر؟ فالخلاصة إذا عزم الشاب على عمل ما يصادف أمامه من المصاعب جبالا فيطرق مدة طويلة دون أن يفتح الله عليه.
أما إذا غضب الله عليه ومال من صغره إلى الشعر والكتابة فهناك النجاح العظيم، وكيل المال المد بالمد. إنه يقضي حياته سابحا في البحر (الطويل) مسترسلا إلى (المجاز المرسل) طامعا بالدر من بحر (الوافر) (هازجا) في أودية النجاح، وإذا أعياه الوزن ففي (الشعر المنثور) نثار الدر والعسجد. وهكذا يعود خائبا؛ لأن مدرسته لا يعنيها النظر إلى شئون الحياة، فما علمته غير النظريات والعصر عصر العمل. ما تعلم غير أدب وبحوث اجتماعية تنأى به عن المهن التي تطعم خبزا. لقد غرست المدرسة في نفسه ما غره منها، فأصبح يرى العمل مهانة تحط من قدر شهادته التي لا يليق بها غير كرسي واسع يترهل عليه.
يدخل الفتيان المدارس وفي نيتهم الهرب من كل حركة يدوية. يرون في الصنائع عارا عظيما إذا لم يكتب لهم النجاح في العلوم، وتطمح أنظارهم إلى المراكز التي ألقيت عهدتها إلى رفاقهم الناجحين، فيقفون عن العمل ويأخذون يقيسون الشوارع عرضا وطولا، يمسون على أمل ويصبحون على فشل، وربك أعلم بالنهاية .
فيا أيها الشاب الغيور إذا كنت تطمع بمركز رفيقك، فلماذا لم تتشبه به أيام كان يسهر ليحصل، وأنت منبطح على (طبقتك) لا تبالي بالدرس خوفا على صحتك الغالية، وعملا بقول المثل (حمار طيب خير من فيلسوف ميت). ألم تتمخض بك أمك المدرسة بضع عشرة سنة نظيره، وإذا بك أنت تولد مسخا ويا للأسف. أما سمعتما شروح معلم واحد فما هذا التفاوت بينكما؟ لقد صدق المثل الإنجيلي بك، فأنت كالعذارى الجاهلات تذهب اليوم إلى العرس ومصباحك لا زيت فيه!
وإن قلت: كان رفيقي ذكيا مجتهدا فنحن نعذرك على هذا، ولكنا نلومك على البطالة، فدونك الصنائع إذ لا بد من أن تجد حرفة توافق ذوقك. ليست الصنائع تحط من شأنك (زادك الله علاء) فكل عمل محلل هو شريف، أما العار (يا صاحبي) ففي البطالة. أما سمعت المثل الذي يردده أبوك وجدك على مسمعك. اشتغل بنحاسة وحاسب البطال.
فلماذا نطمح حيث لا يحمد الطمع، ونقنع حيث تضر القناعة. أتقنع من العلوم بالقشور وتطمع بلباب الرواتب الضخمة، هذا هو الجهل الفاضح ورابع المستحيلات. إنك ترى العمل الصغير محطا من قدرك السامي؛ لأنك تعودت الترف وهذا هو النقص في تربيتنا البيتية. تخلع كل يوم بذلتين، ولكل حصة من النهار عندك ملبوس، وقد صح فيك قول الحريري: ألبس لكل حالة لبوسها. خبرني عن عدد قمصانك وربطات رقبتك، ومناديلك وجواربك، وبوطاتك اللماعة وغير اللماعة.
وهنا فليسمح لي الآباء أن أعنفهم. فهم الذين أوصلوا أولادهم إلى ضيق اليد، أرادوا أن يكبروا نفوسهم بالملبوس، فأضاعوا الفلوس ورموا بهم في هذه الهوة.
لقد عاشوا صغارا مدللين ثم درجوا (مدلوعين مهروقين) وشبوا اتكاليين وعاشوا في ظلنا منعمين.
Bog aan la aqoon
خبرني لبناني هاجر وعاد إلى الوطن غانما قال: كنت أتاجر بالثياب الجاهزة متنقلا من مزرعة إلى مزرعة في أرياف البرازيل، أبيع العمال فيها بالدين، وأقبض في نهاية الشهر من صاحب المزرعة، والمزرعة هناك مقاطعة كبيرة. فقلت: لا بد من تقديم هدية لابن هذا السيد، فاشتريت طقما من الجوخ الممتاز وحملته إليه في آخر الشهر . فما رآه الخواجه حتى صاح: ما هذا؟ قلت: طقم للمحروس خورخي، اشتريته له خصيصا لأنني لا أبيع إلا ثيابا عمالية من الكتان الأسمر.
فقال: يا صاحبي، هذا ليس ملبوس ابني، لا أريد أن يتعود ابني لبس الجوخ فتيا؛ لئلا يعرى شيخا. ضب الطقم وبعه ممن تشاء. ثم نده ابنه فجاء، وقال له: نق طقما من هذه الثياب. فانتقى واحدا. وهكذا جبر خاطري ولم يرد أن يعود ابنه (الجخ) صغيرا، فعاد الفتى إلى مراقبة الألوف من عمال مزرعة أبيه والعمل معهم، ولم يضع فرصة الصيف.
أما نحن فنرى القعود هو الحرفة الشريفة، وأن الفلاح والخادم والعامل ليسوا بشرفاء. وهذا الداء فاش بين طلاب المدارس، ولهذا إذا رفع الله مرءا بماله أو وظيفته لا يرجع إلى عمله القديم إذا عانده الدهر. يا حبذا لو كان التلامذة عندنا يشتغلون كابن هذا المزارع المليونير أو كالتلامذة الأميركيين. وهنا أذكر حكاية قرأتها في إحدى الصحف منذ نصف قرن: أقبلت المواسم في بعض جهات الولايات المتحدة، فاضطر الفلاحون إلى ازدياد الفعلة لحصاد المزروعات فنشروا إعلانا يقولون فيه: إنهم يدفعون أجرة الحاصد في النهار خمسة دولارات - هذا قبل الحرب الأولى - فما طرق هذا الخبر مسامع طلبة الكليات، وكلهم أبناء بيوت غنية حتى تسابقوا إلى العمل وحصل كل منهم نصيبه.
أما نحن فقد قتلتنا القنفشة، ديوك حبش، إذا علونا فترا تسامينا كيلومترا. فنحن نزوج أولادنا وننفق عليهم ولا ينفصلون عنا. وهم يفصلونهم عنهم متى رشدوا، ويكون البيت مثابة لهم إذا شاءوا ولكن ببدل. إن ابن تيودور روزفلت ترك ثروة أبيه ولم يتكل عليها، وأراد هو أن يكون مستقبله كما كون أبوه مستقبله. أما نحن فلا يفارقنا هم أولادنا، يرافقنا حتى نغمض أعيننا آخر إغماضة. قد سمعت واحدا بلغ السبعين يبكي أباه الميت الذي جاوز التسعين قائلا: يا أبي. وص أصحابك في.
وقال لي أحد أصدقائي وهو أديب كبير عندما زار مكتبي، سمعته يتأوه فقلت: ما لك؟! فأجاب: بعت من مكتبتي كتبا نفيسة بألف ليرة ذهبية حتى زوجت الصبي .
فقلت له: لو كنت أميركيا لما عناك أمره، ولما أخرجت كتبا كانت هي أساس شهرتك ومنها أتت ثروتك الفكرية.
فقال: وليتك تعلم ماذا صار فيما بعد!
فأجبته: دعني يا سيدي من ماذا صار! صار أن الأب يحب ابنه، والابن يحب زوجته، والزوجة هي وذمتها، وحسبك الله يا محمد!
فبفتيان العالم الجديد فليتشبه طلابنا، وبآبائهم فليقتد آباؤنا. ولعله من هنا قد جاء إخفاق المتعلمين المهاجرين حتى سمعنا أن فلانا الذي تخرج في الكلية الفلانية هو في حالة من الفقر يرثى لها، والمعاز الأمي الذي لا يعرف الألف من العصا، صار في غربته صاحب دور وقصور، ومزارع ومعامل، وشركات ضخمة. هذا الجاهل يطأ الشوك بأخمصيه غير مبال بالصعاب، وذاك - وهو صاحب الشهادة المتنعم في نشأته - تنفخه العظمة الكاذبة ولا يبالي إلا بتركيز القبة وربطة الرقبة والنظر في المرآة ليرى إذا كانت منسجمة مع ثوبه وبوطه وكلساته.
إن النجاح موقوف على العمل، أي عمل كان، ونحن لا عمل ولا ثبات. دأبنا الشكوى من ضيق البلاد، وبطء الحركة، غير عارفين الحقيقة كطفل أصيب بوجع في جسمه، فأخذ يشير طورا إلى رأسه، وحينا إلى معدته، فلم هذا الكسل؟! أليس من الواجب على كل شاب، إن غنيا أو فقيرا، أن يجتهد في هذا العصر الذي لا يعيش به الإنسان إلا لنفسه؟ فمجد الأجداد (رحمة الله عليهم) قد دفن معهم، والمستقبل أسد هصور يزأر في غاب الحياة، وهل يقنص الأسد غير الأسد.
Bog aan la aqoon
فيا عزيزي الشاب الحائر، اسأل الله أن يهبك عملا تؤديه لا ملكا تقتنيه. المدارس تعلم القراءة والكتابة، والكليات تدلنا على ما سنفتش عنه مما نحتاج إلى معرفته، وأنت تتعلم لتحسن تأدية عملك على حقه، وهنا سر النجاح.
شهوة الحكم
مقالي - كما تراه أيها القارئ العزيز - مثل مخازن السمانة، لا أعرف أنظمه على طريقة ال
ABC
لأن جدي علمني، أول ما علمني، الأبجد. فكما يقف المحارب القديم مستعرضا الساحات التي خاض غبارها، كذلك أقف أنا اليوم. في مثل هذا اليوم - 9 شباط - ولدت أنا وازداد عدد النفوس في لبنان واحدا. وقفت أتذكر من عرفت فما بلغت آخر حسي حتى رأيتهم يدرجون أمام عيني فرعبوني. هذا شيخ يدب على العصا، وذاك فتى عجل عليه الموت فطواه الردى، وتلك عجوز صرت الشيخوخة ثنايا وجهها، وهاتيك فتاة ذبلت قبل إبانها. مئات بل ألوف لم يضق عنهم بطن الأرض فصح فيهم قول شوقي:
فيا لك هرة أكلت بنيها
وما ولدوا وتنتظر الجنينا
في هذه المحطة التي أقف فيها كل عام لأودع عاما وأستقبل آخر، وقفت اليوم لا لأقيم حفلة كوكتيل كما يفعل غيري بهذه المناسبة، بل وقفت فنظرت إلى أشباح الماضين، ثم استطردت إلى المقابلة بين الأمس واليوم.
أنظر إلى ناس اليوم فأراهم غير الذين عرفتهم في شبابي. فالموظفون، مثلا، كانوا غير بطرين ولا أشرين، ظلوا متواضعين لأنهم كانوا أغنياء فأفقرتهم الوظيفة، وليس لهم مورد غير معاشهم، ولأن ميزانية ذلك العهد كانت كبركة اليمونة لا تزيد ولا تنقص كما يقولون. وزيادة ربع قرش على مال الأعناق أو الأرزاق كانت تقيم البلاد وتقعدها. أما ميزانية هذه الأيام فكالعجين المخمر يطف على حفافي المعجن فتزداد ملايين بعد الملايين. والمعاشات والدرجات تقفز قفز القبابيط في اليوم القائظ.
وهذا الموظف الحديث النعمة الذي يظن أنه رب ثان على الأرض، يخر على أقدام من هم فوقه ليحظى بالتحية ممن هم دونه. فلولا حبه الظهور لاكتفى بما يقبض ولم يلوث يده، وهذا الجيش العرمرم من الموظفين ماذا يكفيه؟ فلولا وظيفته التي يستغني عن خدماتها لكنا نأكل ويأكل، وننتقل وينتقل بربع التكاليف التي نرزح تحتها الآن.
Bog aan la aqoon
إن هذا الثوب الفضفاض الذي فصلوه في ساعة طمع وكلب هو الذي سبب هذا العسر والغلاء. كان معاش النائب خمسين ليرة فصار خمسماية، ثم جمز جمزة واحدة إلى الألف، وقس على هذا الوظائف الأخرى عالية وواطية. أما العدد فيزيد وينقص حسبما تقضي الأهواء والأغراض.
والولائم لا أول لها ولا آخر، حكومية وشعبية. الحكومة تنفق من كيس الشعب والشعب بطران لا يقتصد، يتشبه بعضه ببعض والتشريفات الشرقية هي طاعون الميزانية. علينا أن نزور ونزار ، وعلينا أن نودع ونستقبل، وفي الحالتين لا بد لنا من إنفاق الملايين لنكون قمنا بواجب ضيوفنا الأعزاء. كل هذا لم تقع عليه عيني في فجر عمري المديد.
إن هذه التقاليد الشرقية، وهذا التقنفش هو الذي أورثنا هذا الضيق. فماذا يضير الضيف لو زارنا وزرناه برفع الكلفة دون أن تهتز الأرض للقائه؟ ترى ألا يصل بالسلامة إلى المكان المقصود إذا لاقته مفرزة من الجنود وأخذت سلامه فصيلة ولم تحشد القوى كلها؟!
ثم ألا يشبع إذا أكل ثلاثة ألوان، عدا الحلوى والفواكه! والمشروب الوطني؟! ألا يصلح لشرب الأنخاب ويساعد على افترار عن الثغر كما تساعد الويسكي والشمبانيا؟! إن كأس خمرة لبنانية معتقة تعبئ الرأس أكثر من الشمبانيا الفرنسية وبنت عمها الويسكي والسكوتشية، ومع ذلك يقول المغني:
ويسكي ما في
في عرق
لحم ما في
في مرق
رحم الله المصلح بنجامين فرنكلن الذي قال: كم من ضيعة ضاعت حين تركت النساء المغزل في سبيل الشاي، وحين ترك الرجال المحراث في سبيل الكأس، أجل إن القرية اللبنانية خلت من سكانها تقريبا، فالخوف والجهل والمرض متآمرون على سلامتها، يتصلون بالمكسيك تليفونيا، والقرية التي تبعد ربع ساعة عن شط البحر لا تتصل بالطبيب ولا تعرف إلا وجه الجابي والمباشر.
فعلى الرءوس أن يكونوا قدوة للشعب ويقللوا من إسرافهم الذي يتشبه به صغار الموظفين، وما أكثر الموظفين في لبنان. تقطع سرة المولود اللبناني على اسم الوظيفة، وقد ينذر لها في البطن كما نذر شمشون الجبار لله. هكذا تحلم الأم اللبنانية بمستقبل ابنها، فليت موسى بدل بعض وصاياه العشر لتصلح للتطبيق في لبنان. لا تشته وظيفة غيرك. لا تشته مال الشعب الذي وكلتك به الحكومة.
Bog aan la aqoon