3
كان الثلث الأخير من شهر سبتمبر عام 2013م.
أذكر تلك الأيام، عندما أعلنت الحكومة قرارها برفع الدعم عن الدقيق والمحروقات في البلاد، ارتفعت الأسعار في سرعة جنونية، وأصبح الجنيه لا يساوي الورق الذي يطبع عليه، كنت أرى نظرات الوجوم على الوجوه النحيلة في الشوارع، لم يكن هذا قرارا اقتصاديا البتة، كان قرارا بالإعدام للسواد الأعظم من الشعب الذي يعيش تحت خط الفقر.
نظرات ذاهلة ووجوه كالحة تراها تحكي عن البؤس في أعمق أشكاله .
كان الجو العام مشحونا بالتوتر، وهناك نذر انتفاضة شعبية في الخرطوم، بعد أن تناهى إلى مسامعنا حدوث بعض التظاهرات في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، وبورتسودان، وبعض الولايات الأخرى، واعتدت أن أرى سيارات الشرطة تجوب الحواري، ومدرعات مكافحة الشغب متوقفة في بعض الشوارع الرئيسية، وأنا في طريقي للعمل صباحا أو المنزل ليلا.
كان التوتر والترقب هما سيدي الموقف.
لقد مرت قرابة الشهرين منذ رأيت «عمار» آخر مرة، لم يعد لزيارتي مرة أخرى بعد الجلسة الأخيرة، وقد شغلتني دوامة العمل حتى نسيت أمره.
كنت عائدا في وقت متأخر للمنزل، دخلت المنزل، ودخلت المطبخ أعد العشاء، وهو ما كان روتينا يوميا لي، فبعد وفاة «منى» ابنتي منذ عامين، أصيبت زوجتي بحالة اكتئاب حادة، كانت تجلس طوال اليوم ساهمة ترمق المكان بعينين ذاهلتين صامتتين، أحيانا كنت أصحو على صوت بكائها في منتصف الليل، أقوم بتهدئتها وتذكيرها بأنها بين يدي ربها، وعليها الصبر ولا شيء سواه، فتعود للنوم، أو تبتلع أحد أقراص السيبرالكس المضادة للاكتئاب، والتي أصبحت تقتات عليها بشكل يومي في السنتين الأخيرتين.
حملت صينية العشاء ودخلت غرفة النوم، كانت جالسة في طرف السرير تحدق في الظلام عبر النافذة، وضعت الطعام أمامها، وقلت: «لم تأكلي شيئا منذ الصباح.»
نظرت لي بعينيها الذابلتين، ووجهها الشاحب لفترة، وكأنها لا تراني، ولم ترد، فقط راحت تأكل ببطء، وهي ترمق النافذة بنفس الوجوم، قلت لها مجددا، وأنا أضع لقمة في فمها: «هل جاءت أختك اليوم؟» - «نعم، لقد أعدت الإفطار، ونظفت المنزل وأعدت لي الحمام. المسكينة تتعب نفسها معي كل يوم برغم مشاغلها في منزلها.»
Bog aan la aqoon