ذكر سلفنا الصالح ﵃ - أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب، وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذكر المسعودي أنها جزيرة الوقواق لان تلك الجزيرة اعدل بقاع الأرض هواء؛ أتممها لشروق النور الأعلى عليها استعدادً، وان كان ذلك خلاف ما يراه جمهور الفلاسفة وكبار الأطباء، فانهم يرون إن اعدل ما في المعمورة الإقليم الرابع، فان كانوا قالوا ذلك لأنه صح عندهم انه ليس على خط الاستواء عمارة لمانع من الموانع الأرضية، فلقولهم: أن الإقليم الرابع اعدل بقاع الأرض وجه، وان كانوا إنما أرادوا بذلك إن ما على خط الاستواء شديد الحرارة، كالذي يصرح به أكثرهم فهو خطأ يقوم البرهان على خلافه. وذلك أنه قد تبرهن في العلوم الطبيعية أنه لا سبب لتكون الحرارة إلا الحركة أو ملاقاة الأجسام الحارة والإضاءة؛ وتبين فيها أيضًا إن الشمس بذاتها غير حارة ولا متكيفة بشيء من هذه الكيفيات المزاجية؛ وقد تبين فيها أيضًا إن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتم القبول، هي الأجسام الصقيلة غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة غير الصقيلة، فأما الأجسام الشفافة التي لاشيء فيها من الكثافة فلا تقبل الضوء بوجه. وهذا وحده مما برهنه الشيخ أبو علي خاصة، ولم يذكره من تقدمه، فإذا صحت هذه المقدمات، فاللازم عنها أن الشمس لا تسخن الأرض كما تسخن الأجسام الحارة أجسام أخر تماسها، لان الشمس في ذاتها غير حارة ولا الأرض أيضًا تسخن بالحركة لأنها ساكنة وعلى حالة واحدة في شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها عنها. وأحوالها في التسخين والتبريد، ظاهرة الاختلاف للحس في هذين الوقتين. ولا الشمس أيضًا تسخن الهواء أولًا ثم تسخن بعد ذلك الأرض بتوسط سخونة الهواء، وكيف يكون ذلك ونحن نجد أن ما قرب من الهواء من الأرض في وقت الحر، أسخن كثيرًا من الهواء الذي يبعد منه علوًا؟ فبقي أن تسخين الشمس للأرض إنما هو على سبيل الإضاءة لا غير، فان الحرارة تتبع الضوء أبدًا: حتى إن الضوء إذا افرط في المرأة المقعرة، أشعل ما حاذاها. وقد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين القطعية، أن الشمس كروية الشكل، وأن الأرض كذلك، وأن الشمس أعظم من الأرض كثيرًا، وأن الذي يستضيء من الشمس أبدًا هو أعظم من نصفها، وأن هذا النصف المضيء من الأرض في كل وقت أشد ما يكون الضوء في وسطه، لأنه أبعد المواضع من المظلمة، ولأنه يقابل من الشمس أجزاءًا أكثر، وما قرب من المحيط كان أقل ضوءًا حتى ينتهي إلى الظلمة عند محيط الدائرة الذي ما أضاء موقعه من الأرض قط، وإنما يكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا كانت الشمس على سمت رؤوس الساكنين فيه، وحينئذ تكون الحرارة في ذلك الموضع أشد ما يكون فان كان الموضع مما تبعد الشمس عن مسامتة رؤوس أهله، كان شديد البرودة جدًا، وان كان مما تدوم فيه المسامتة كان شديد الحرارة، وقد ثبت في علم الهيئة أن بقاع الأرض التي على خط الاستواء لا تسامت الشمس رؤوس أهلها سوى مرتين في العام: عند حلولها برأس الحمل؛ وعند حلولها برأس الميزان. وهي في سائر العام ستة أشهر جنوبًا منهم، وستة أشهر شمالًا منهم: فليس عندهم حر مفرط، ولا برد مفرط. وأحوالهم بسبب ذلك متشابهة. وهذا القول يحتاج إلى بيان أكثر من هذا، لا يليق بما نحن بسبيله؛ وإنما نبهناك عليه، لأنه من الأمور التي تشهد بصحة ما ذكر من تجويز تولد الإنسان بتلك البقعة من غير أم ولا أب. فمنهم من بت الحكم وجزم القضية بأن حي بن يقظان من جملة من تكون في تلك البقعة من غير أم ولا أب، ومنهم من أنكر ذلك وروى من أمره خبرًا نقصه عليك، فقال: انه كان بازاء تلك الجزيرة، جزيرة عظيمة متسعة الأكتاف، كثيرة الفوائد، عامرة بالناس، يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها ومنعها الأزواج إذا لم يجد لها كفوًا. وكان له قريب يسمى يقظان فتزوجها سرًا على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم. ثم إنها حملت منه ووضعت طفلًا.

1 / 1

فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها، وضعته في تابوت أحكمت زمه بعد أن أروته من الرضاع؛ وخرجت به في أول الليل في جملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر، وقلبها يحترق صبابةً به، وخوفًا عليه، ثم إنها ودعته وقالت: "اللهم انك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئًا مذكورًا، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى تم واستوى. وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفًا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد. فكن له، ولا تسلمه، يا أرحم الراحمين" ثم قذفت به في اليم. فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها. وكان المد يصل في ذلك الوقت إلى موضع لا يصل إليه بعد علم. فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة، مستورة عن الرياح والمطر، محجوبة عن الشمس تزاور عنها إذا طلعت، وتميل إذا غربت. ثم أخذ الماء في الجزر. وبقي التابوت في ذلك الموضع، وعلت الرمال بهبوب الرياح، وتراكمت بعد ذلك حتى سدت مدخل الماء إلى تلك الأجمة. فكان المد لا ينتهي إليها، وكانت مسامير التابوت قد فلقت، وألواحه قد اضطربت عند رمي الماء في تلك الأجمة. فلما أشتد الجوع بذلك الطفل، بكى واستغاث وعالج الحركة، فوقع صوته في أذن ظبية فقدت طلاها، خرج من كناسه فحمله العقاب، فلما سمعت الصوت ظنته ولدها. فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها حتى وصلت إلى التابوت، ففحصت عنه بأظلافها وهو ينوء ويئن من داخله، حتى طار عن التابوت لوح من أعلاه. فحنت الظبية وحنت عليه ورئفت به، وألقمه حلمتها وأروته لبنًا سائغًا. ومازالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى. هذا ما كان من ابتداء أمره عند من ينكره التولد. ونحن نصف هنا كيف تربى وكيف أنتقل في أحواله حتى يبلغ المبلغ العظيم. وأما الذين زعموا أنه تولد من الأرض فانهم قالوا إن بطنًا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينه على مر السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى. وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جدًا وكان بعضها يفضل بعضًا في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج. وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان: فتمخضت تلك الطينة، وحدث فيها شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها: وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدًا، منقسمة بقسمين، بينها حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى وتشبث به تشبثًا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل؛ إذ قد تبين أن هذا الروح دائم الفيضان من عند الله ﷿، وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم. فمن الأجسام ما لا يستضيء به، وهو الهواء الشفاف جدًا؛ ومنها ما يستضيء به بعض الاستضاءة، وهي الأجسام الكثيفة غير الصقيلة وهذه تختلف في قبول الضياء، وتختلف بحسب ذلك ألوانها، ومنها ما يستضيء به غاية الاستضاءة وهي الأجسام الصقيلة كالمرأة ونحوها. فإذا كانت هذه المرأة مقعرة على شكل مخصوص، حدث فيها النار لإفراط الضياء. الذي هو الروح، الذي هو من أمر الله تعالى، فياض أبدًا على جميع الموجودات؛ فمنها ما لا يظهر أثره فيه اعدم الأستعداد، وهي الجمادات التي لا حياة لها، وهذه بمنزلة الهواء في المثال المتقدم، ومنها ما يظهر أثره فيه، وهي أنواع النبات بحسب استعداداتها وهذه بمنزلة الأجسام الكثيفة في المثال المتقدم؛ ومنها ما يظهر أثره فيه ظهورًا كثيرًا، وهي الأجسام الصقيلة في المثال المتقدم. ومن هذه الأجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله لضياء الشمس أنه يحكي صورة الشمس، ومثالها. وكذلك أيضًا من الحيوان ما يزيد على شدة قبوله للروح أنه يحكي الروح ويتصور بصورته وهو الإنسان خاصة. واليه الإشارة بقوله ﷺ: "إن الله خلق أدم على صورته". فان قويت في هذه الصورة حتى تتلاشى جميع الصور في حقها، وتبقى هي وحدها، وتحرق سبحات نورها كل ما أدركته، كانت حينئذ بمنزلة المرأة المنعكسة على نفسها المحرقة لسوها وهذا لا يكون إلا للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا كله مبين في مواضعه اللائقة به، فليرجع إلى تمام ما حكوه من وصف ذلك التخلق.

1 / 2

قالوا: فلما تعلق هذا الروح بتلك القرارة، خضعت له جميع القوى وسجدت له وسخرت بأمر الله تعالى في كمالها، فتكون بازاء تلك القرارة نفاخة أخرى منقسمة إلى ثلاث قرارت بينهما حجب لطيفة، ومسالك نافذة، وامتلأت بمثل ذلك الهوائي الذي امتلأت منه القرارة الأولى؛ إلا أنه ألطف منه. وفي هذه البطون الثلاثة المنقسمة من واحد، طائفة من تلك القوى التي خضعت له وتوكلت بحراستها والقيام عليها، وإنهاء ما يطرأ فيها من دقيق الأشياء وجليلها إلى الروح الأول المتعلق بالقرارة الأولى. وتكون بازاء هذه القرارة من الجهة المقابلة للقراءة الثانية، نفاخة ثالثة مملوءة جسمًا هوائيًا، إلا أنه أغلظ من الأولين وسكن في هذه القرارة فريق من تلك القوى الخاضعة، وتوكلت بحفظها والقيام عليها؛ فكانت هذه القرارة الأولى والثانية والثالثة، أول ما تخلق من تلك الطينة المتحمرة على الترتيب الذي ذكرناه. واحتاج بعضها إلى بعض: فالأولى منها حاجتها إلى الآخرين، حاجة استخدام وتسخير. والأخريان حاجتهما إلى الأولى حاجة المرؤوس إلى الرئيس، والمدبر إلى المدبر؛ وكلاهما لما يتخلق بعدهما من الأعضاء رئيس لا مرؤوس. وأحدهما، وهو الثاني، أتمم رئاسة من الثالث فالأول منهما لما تعلق به الروح، واشتعلت حرارته تشكل بشكل النار لصنوبري وتشكل أيضًا الجسم الغليظ المحدق به على شكله، وتكون لحمًا صلبًا، وصار عليه غلاف صفيق يحفظه وسمي العضو كله قلبًا واحتاج لما يتبع الحرارة من التحليل وافناء الرطوبات إلى شيء يمده ويغذوه، ويخلف ما تحلل منه على الدوام، وإلا لم يطل بقاؤه، واحتاج أيضًا إلى تحسس بما يلائمه فيجذبه، وبما يخالفه فيدفعه. فتكفل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي أصلها منه بحاجته الواحدة، وتكفل له العضو الآخر بحاجته الأخرى. وكان المتكفل بالحس هو الدماغو المتكفل بالغذاء هو الكبد؛ واحتاج كل واحد من هذين إليه في أن يمدها بحرارته، وبالقوى المخصوصة بهما التي أصلها منه، فانتسجت بينهما لذلك كله مسالك وطرق: بعضها أوسع من بعض بحسب ما تدعواليه الضرورة، فكانت الشرايين والعروق. وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك شيئًا، إلى أن كمل خلقه، وتمت أعضاؤه، وحصل في حد خروج الجنين من البطن، واستعانوا في وصف كمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة، وأنها كانت قد تهيأت لان يتخلق منها كل ما يحتاج إليه في خلق الإنسان من الأغشية المجللة لجملة بدنه وغيرها فلما كمل انشقت عنه تلك الأغشية، بشبه المخاض، وتصدع باقي الطينة إذ كان قد لحقه الجفاف. ثم استغاث ذلك الطفل عند فناء مادة غذائه واشتداد جوعه، فلبته ظبية فقدت طلاها. ثم استوى عبد ما وصفه هؤلاء بعد هذا الموضع، وما وصفه الطائفة الأولى في معنى التربية؛ فقالوا جميعًا: إن الظبية التي تكفلت به وافقت خصبًا ومرعى أثيثًا، فكثر لحمها وكثر لبنها، حتى قام بغذاء ذلك الطفل أحسن قيام. وكانت معه لا تبعد عنه إلا لضرورة الرعي. وألف الطفل تلك الظبية حتى كان بحيث إذا هي أبطأت عنه اشتد بكاؤه فطارت إليه. ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع العادية، فتربى الطفل ونما واغتذى بلبن تلك الظبية إلى أن تم له حولان، وتدرج في المشي وأثغر فكان يتبع تلك الظبية، وكانت هي ترفق به وترحمه وتحمله إلى مواضع فيها شجر مثمر فكانت تطعمه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضيجة؛ وما كان منها صلب القشر كسرته له بطواحنها؛ ومتى عاد إلى اللبن أروته، ومتى ظمئ إلى الماء أرودته، متى ضحا ظللته؛ ومتى خصر أدفأته. وإذا جن الليل صرفته إلى مكان الأول وجللته بنفسها وبريش كان هناك؛ مما ملئ به التابوت أولًا في وقت وضع الطفل فيه. وكان في غدوهما ورواحهما قد ألفهما ربرب يسرح ويبيت معهما حيث مبيتهما. فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال: يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرق بينهما؛ وكذلك كان يحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده ما كانت محاكاته لأصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع. إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها؛ ولم تنكره ولا أنكرها.

1 / 3

فلما ثبت في نفسه أمثلة الأشياء بعد مغيبها عن مشاهدته، حدث له نزوغ إلى بعضها؛ وكراهية لبعض. وكان في ذلك كله ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالاوبار والأشعار وأنواع الريش، وكان يرى ما لها من العدو وقوة البطش، وما لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها، مثل القرون والأنياب والحوافر والصياصي والمخالب. ثم يرجع إلى نفسه، فيرى ما به من العري وعدم السلاح، وضعف العدو، وقلة البطش، عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثمرات، وتستبد بها دونه، وتغلبه عليها، فلا يستطيع المدافعة عن نفسه، ولا الفرار عن شيء منها. وكان يرى أترابه من أولاد الظباء، قد تبتت لها قرون، بعد أن لم تكن، وصارت قوية بعد ضعفها في العدو. ولم ير لنفسه شيئًا من ذلك فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه. وكان ينظر إلى ذوي العاهات والخلق الناقص فلا يجد لنفسه شبيهًا فيهم. وكان أيضًا ينظر إلى مخارج الفضول من سائر الحيوانات، فيراها مستورة: أما مخرج أغلظ الفضلتين فبالاذناب، وأما مخرج وأما مخرج أرقهما فبالاوبار وما أشبههما. ولأنها كانت أيضًا اخفى قضبانًا منه. فكان ذلك ما يكربه ويسؤه. فلما طال همه في ذلك كله، وهو قد قارب سبعة اعوام، ويئس من أن يكمل له ما قد أضر به نقصه، اتخذ من أوراق الشجر العريضة شيئًا جعل بعضه خلفه وبعضه قدمه، وعمل من الخوض والحلفاء شبه حزام على وسطه، علق به تلك الأوراق فلم يلبث إلا يسيرًا حتى ذوى ذلك الورق وجف وتساقط. فما زال يتخذ غيره ويخصف بعضه ببعض طاقات مضاعفة، وربما كان ذلك أطول لبقائه إلا انه على كل حال قصير المدة. واتخذ من أغصان الشجر عصيًا وسوى أطرافها وعدل متنها. وكان بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نباله، ورأى أن ليده فضلًا كثيرًا على أيديها: إذ أمكن له بها ستر عورته واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته، ما استغنى به عما أراده من الذنب والعذاب الطبيعي. وفي خلال ذلك ترعرع واربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد الأوراق التي كان يستتر بها. فكانت نفسه عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذنب من ذنوب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه، إلا أنه كان يرى أحياء الوحوش تتحامى ميتها وتفر عنه فلا يتأتى له الأقدام على ذلك الفعل، إلى أن صادف في الأيام نسرًا ميتًا فهدي إلى نيل أمله منه، واغتنم الفرصة في، إذ لم ير للوحوش عنه نفرةً فأقدم عليه، وقطع جناحيه وذنبه صحاحًا كما هي، وفتح ريشها وسواها، وسلخ عنه سائر جلده، وفصله على قطعتين: ربط إحداهما على ظهره، وأخرى على سرته وما تحتها، وعلق الذنب من خلفه، وعلق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك سترًا ودفئًا ومهابة في نفوس جميع الوحوش، حتى كانت لا تنازعه ولا تعارضه. فصار لايدنو إليه شيء منها سوى الظبية التي كانت أرضعته وربته: فانها لم تفارقه ولا فارقها، إلى أن اسنت وضعغت، فكان يرتاد بها المراعي الخصبة ويجتني لها الثمرات الحلوة، ويطعمها. ومازل الهزل والضعف يستولي عليها ويتوالى، إلى أن أدركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع أفعالها. فلما رأها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعًا شديدًا، وكادت نفسه تفيض أسفًا عليها. فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعه، ويصيح بأشد ما يقدر عليه، فلا لها عند ذلك حركة ولا تغييرًا. فكان ينظر إلى أذنيها والى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيء منها آفة. فكان يطمع إن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع إلى ما كانت عليه فلم ياتت له شيء من ذلك ولا استطاعة. وكان الذي أرشده لهذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك: لانه كان يرى انه إذا غمض عينيه أو حجبهما بشيء لا يبصر حتى نزول ذلك العائق، وكذلك كان يرى انه اذا ادخل إصبعه في أذنيه وسدها لا يسمع شيئًا حتى يزول ذلك العارض، وإذا امسك أنفه بيده لا يشم شيئًا من الروائح حتى يفتح أنفه. فاعتقد من اجل ذلك إن جميع ماله من الادراكات والأفعال قد تكون لها عوائق تعوقها، فإذا أزيلت العوائق عادت الأفعال.

1 / 4

فلما نظر إلى جميع أعضاء الظاهرة ولم ير فيها آفة ظاهرة - وكان يرى مع ذلك العطلة قد اشتملها ولم يختص بها عضو دون عضو - وقع في خاطرة أن الآفة التي نزلت بها، إنما هي العضو غائب عن العيان مستكن في باطن الجسد، وان ذلك العضو لا يغني عنه في فعله شيء من هذه الأعضاء الظاهرة. فلما نزلت به الآفة عمت المضرة، وشملت العطلة، وطمع لو أنه عثر على ذلك العضو وأزال عنه ما يزال به لاستقامت أحواله وفاض على سائر البدن نفعه، وعادت الأفعال إلى ما كانت عليه. وكان قد شاهد قبل ذلك في الأشباح الميتة من الوحوش وسواها أن جميع أعضائها مصمتة لا تجويف فيها إلا القحف، والصدر، والبطن. فوقع في نفسه أن العضو الذي بتلك الصفة لن يعدو أحد هذه المواضع الثلاثة، وكان يغلب على ظنه غلبة قوية أنه إنما هو في الموضع المتوسط من هذه المواضع الثلاثة، إذ استقر في نفسه أن جميع الأعضاء محتاجة إليه، وأن الواجب بحسب ذلك أن يكون مسكنه في الوسط. وكان أيضًا إذا رجع إلى ذاته، شعر بمثل هذا العضو في صدره لانه كان يعترض سائرًا اعضائه كاليد، والرجل، والأذن، والانف، والعين، ويقدر مفارقتها، فيتاى له أنه كان يستغني عنها، وكان يقدر في رأسه مثل ذلك ويظن أنه يستغني عنه، فإذا فكر في الشيء الذي يجده في صدره، لم يتأت له الاستغناء عنه طرفة عين. وكذلك كان عند محاربته للوحوش أكثر ما كان يتقي من صياصيهم على صدره، لشعوره بالشيء الذي فيه. فلما جزم الحكم بان العضو الذي نزلت به الآفة إنما هو في صدورها، اجمع على البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر به، ويرى آفته فيزيلها ثم انه خاف أنه يكون نفس فعله هذا أعظم من الآفة التي نزلت بها أولًا فيكون سعيه عليها. ثم أنه تفكر: هل رأى من الوحوش وسواها، من ضار في مثل تلك الحال، ثم عاد إلى مثل حاله الأول؟ فلم يجد شيئًا! فحصل له من ذلك، اليأس من رجوعها إلى حالها الأولى إن هو تركها، وبقي له بعض الرجاء في رجوعها إلى تلك الحال إن هو وجد ذلك العضو وأزال الآفة عنه. فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من كسور الأحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة، أشباه السكاكين، وشق بها بين أضلاعها حتى قطع اللحم الذي بين الأضلاع، وأفضى إلى الحجاب المستبطن للأضلاع فراه قويًا، فقوي ظنه مثل ذلك الحجاب لا يكون إلا لمثل ذلك العضو وطمع بأنه إذا تجاوزه ألفى مطلوبه فحاول شقه، فصعب عليه، لعدم الآلات، ولأنها لم تكن إلا من الحجارة والقصب، فاستجدها ثانية واستحدها وتلطف في خرق الحجاب حتى انخرق له، فأفضى إلى الرئة فظن أنها مطلوبه، فما زال يقلبها ويطلب موضع الآفة بها. وكان أولًا نصفها الذي هو في الجانب الواحد. فلما راها مائلة إلى جهة واحدة، وكان قد اعتقد أن ذلك العضو لا يكون إلا في الوسط في عرض البدن، كما في الوسط في طوله. فمازال يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاء في غاية القوة مربوط بعلائق في غاية الوثاقة، والرثة مطيفة به من الجهة التي بدأ بالشق منها، فقال في نفسه: إن كان لهذا العضو من الجهة الأخرى مثل ما له من الجهة فهو في حقيقة الوسط، ولا محالة أنه مطلوبي. لا سيما مع ما أرى له حسن الوضع، وجمال الشكل، وقلة التشتت، وقوة اللحم، وأنه محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم أر مثله لشيء من الأعضاء. فبحث عن الجانب الآخر من الصدر، فوجد فيه الحجاب المستبطن للأضلاع، ووجد الرئة كمثل ما وجد من هذه الجهة. فحكم بان ذلك العضو هو مطلوبه، فحاول هتك حجابه، وشق شغافه، فبكد واستكراه ما، قدر على ذلك، بعد استفراغ مجهوده. وجرد القلب فراه مصمتًا من كل جهة، فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة؟ فلم ير فيه شيئًا! فشد على يده، فتبين له أن فيه تجويفًا، فقال: لعل مطلوبي الأقصى إنما هو في داخل هذا العضو، وأنا حتى الآن لم أصل إليه. فشق عليه، فألقى فيه تجويفين اثنين احدهما من الجهة اليمنى والآخر من الجهة اليسرى، والذي من الجهة اليمنى مملوء بعقد منعقد، والذي من الجهة اليسرى خال لا شيء به. فقال: لن يعدو مطلوبي أن يكون مسكنه أحد هذين البيتين. ثم قال: أما هذا البيت الأيمن، فلا أرى فيه إلا هذا الدم المنعقد.

1 / 5

Usul - Qalabka Cilmi-baarista ee Qoraalada Islaamka

Usul.ai waxa uu u adeegaa in ka badan 8,000 qoraal oo Islaami ah oo ka socda corpus-ka OpenITI. Hadafkayagu waa inaan fududeyno akhrinta, raadinta, iyo cilmi-baarista qoraalada dhaqameed. Ku qor hoos si aad u hesho warbixinno bille ah oo ku saabsan shaqadayada.

© 2024 Hay'adda Usul.ai. Dhammaan xuquuqaha waa la ilaaliyay.