فعند ذلك استطلعت الكافلة المذكورة بمعونة جلبي أفندي وأعوانه وثيقة جردوا فيها اليتيمة عن جميع أملاكها، وأشهدوا عليها بدين جسيم لكافلها، ووضعوا عليها شهادة جماعة من الترك بخط الدري كاتب المحكمة الكبرى، وأنا لا أعلم بشيء من ذلك، ثم أخرجوها لي مجردة ما عليها إلا ثيابها مع أثاث قليل، فأقمنا أياما في راحة، وكانوا قد دسوا لها من قبل أني أغدر بها وأقتلها، استعانة بذلك على تجريدها من أملاكها بإيهامها أن هذا أمر ظاهري أرادوا به حفظ أموالها وأملاكها من تسلطي عليها وانتزاعي لها، فيبقى ذلك عندهم حتى تريده فيكون لها متى شاءت حين تأمن غائلتي، فلما ذهب خوفها وأمن روعها ولم تجد مني تطلعا لشيء من ذلك ولا أثرا مما خوفوها به، أخبرتني بالحجة التي جردوها بها، وأنها تركت حليها هناك، وطلبت مني الإذن في التوجه إليهم لتأتي به إذ لم تجد شيئا مما كانت تخافه، فقلت لها: إن ذلك لا يجدي وهذه حيلة تمت عليك، فلم تسمع، وذهبت ورجعت خالية اليدين باكية العينين حزينة آسفة على ما تم عليها من الحيلة، فحملتني الرأفة على أن أسعى لها في استخلاص حقها، فقدمت في ذلك عرضحال بصورة الواقعة للمرحوم عباس باشا، واتسعت القضية، ونظرت في الدواوين والمجالس، ودخل فيها القاضي والمفتي، ولما حصحص الحق دخل فيها جلبي أفندي بالوسائط حتى خوفني الكتخدا بالنفي إلى السودان إن لم أكف عن هذه القضية، وبعد طول النزاع تممتها بالصلح، فرجع لها العقارات والأوقاف، وضاع عليها المال، وبطل عنها الدين، ولم أصل إلى هذه الغاية إلا بعد أن قاسيت في ذلك من الشدائد والأهوال وعجائب الأحوال ما لو وصفته لطال الشرح واتسع المجال .
وقد بنيت بيتها من مالي، وصرفت عليه نحو ستمائة كيس، وكان موقوفا عليها، فأرادت إشراكي فيه معها في نظير ما صرفته، وكان ذلك لها بمقتضى شرط الواقف، فقبلت ودخلت معها في الوقفية، وكتبت الوثيقة بمحضر من العلماء والأمراء والأعيان، فلما كنت في الأستانة دخلت عليها كافلتها المقدم ذكرها، وقالت لها: إن الرمل أخبر بأن زوجك يموت في سفره، وصدق على ذلك جماعة من حواشيها وحسنوا لها إبطال الحجة المتضمنة حصتي في وقفية البيت، ثم لاذوا بجماعة من أصحابنا الذين لنا عليهم المعروف ليشهدوا لهم بأن الحجة مزورة، وأن التي نطقت يوم كتب الحجة إنما هي أختي تمثلت بها، فظنوها إياها، وحملوها على أن كتبت في عرضا يتضمن أن أخذت أموالها ومتاعها، ثم أرسلوه إلى ابن عمها في الأستانة، وكنت معه في محل واحد، فأرانيه، فقرأته، وأخذت نسخته وسلمته إليه، وقلت: «لا ثمرة الآن في المنازعة هنا فأحفظه عندك حتى نعود إلى مصر، وهناك تظهر الحقيقة، فإن مت قبل ذلك فلها جميع ما يورث عني».
فلما رجعنا إلى مصر عقدنا لذلك مجلسا حضره كاتب المحكمة والشهود وجمع من أعيان العلماء، وجرى الحساب، وهي حاضرة في المجلس، فثبت لي عليها مائة وخمسة وعشرون ألف قرش عملة ديوانية، غير ستمائة الكيس التي صرفتها في عمارة البيت، فبعد ثبوت حقي وظهوره تنازلت في المجلس عن جميع ذلك، ولم آخذ إلا وثيقة من أهل هذا المجلس بجميع ما حصل، وإثبات تنازلي بعد الثبوت، ثم بعد أيام قلائل تركتها وخرجت من البيت ولم آخذ منه شيئا، حتى تركت جواري اللاتي كن في ملكي، وطهرت نفسي مما نسبه إلي أهل البهتان، وأرحت نفسي من تلك الوساوس والهواجس.
ثم بعد عودنا من هذا السفر الطويل خلي سبيل العساكر ولحقوا ببلادهم، ورفض كثير من الضباط، فكنت ممن رفض، وسكنت في بيت صغير بالأجرة مع أخ لي كنت تركته في المدرسة عند السفر مع ابن أخ آخر ليتربيا فيها، فطردا منها بعد سفري، ولم يعطف عليهما أحد ممن كنت أساعدهم في مدة نظارتي، ولم يشفق عليهما إلا سليمان باشا الفرنسي فإنه أدخلهما في مكتب كان أنشأه بمصر العتيقة على نفقته، وشملهما برأفته، ثم غرق ابن أخي في البحر، وبقي أخي إلى أن جئت فالتحق بي، فكانت حالتي بعد سبع سنين مضت من عودي من بلاد أوربا كحالتي عند عودي منها، وذهب ما رأيته من الأموال والمناصب وجميع ما كسبت يداي، ولم يبق بالخاطر غير ما فعل الناس معي من خير وشر، وما أكسبني الزمان من صدماته وغرائب تقلباته، حتى حلا لي التخلي عن الحكومة وخدمتها، وغضضت طرفي عن التطلع للمناصب وعزمت على الرجوع إلى بلدي والإقامة بالريف والاشتغال بالزرع والتعيش من جانبه، وترك الاشتغال بالقيل والقال، وقلت: عوضنا الله خيرا في نتائج الفكر وثمرات المعارف، ولنفرض أنا ما فارقنا البلد ولا خرجنا منها.
وبينما أنا أتجهز للسفر إلى البلد على هذه النية، صدر أمر بأن جميع الضباط المرفوضين يحضرون بالقلعة للفرز، فحضرنا، وكان المنوط بالفرز أدهم باشا وإسماعيل باشا الفريق وجملة من الأمراء، فكان أهم ما يعتنون به معرفة عمر الإنسان، وكانوا يعرفون السن بالنظر إلى السن، فهالني هذا الأمر وثقل علي، ووددت أن لا أكون طلبت، فلما وصلني الفرز عافاني من ذلك أدهم باشا لسابق معرفته بي، وكتبت في المختارين للخدمة، فتعطلت عن السفر.
وبعد قليل تعينت معاونا بديوان الجهادية، وأحيل علي النظر في القضايا المتأخرة المتعلقة بالورش والجبخانات وغيرها من ملحقات الجهادية، وألحقوا بي كاتبا، فاشتغلت بها زمنا وأتممنا جملة منها.
وفي ذات يوم كان إسماعيل باشا الفريق ناظر الديوان إذ ذاك مشتغلا برسم بعض المناورات العسكرية، فلم يحسن ذلك، وتحير في إتمامها، فدعاني فرسمتها في عدة أفرخ من الورق على الوجه اللائق، فوقع عنده ذلك موقعا حسنا، وأثنى علي ووعدني بذكري بخير عند المرحوم سعيد باشا، وطلب مني وضع اسمي على الرسم، فقلت عافني من ذلك، ولا تذكرني عنده، فأراني أن في ذلك فوائد جمة وأنه عين الصواب.
ثم لما عرض عليه الرسم وتكلم معه بما تكلم ، أمر بإبطال التحقيق وحفظ القضايا بالدفترخانة وإلحاقي بمستودعي الداخلية، فبقيت كذلك زمنا قليلا، وكان علي بعض القضايا.
ثم دعيت إلى وكالة مجلس التجار، فأقمت فيه شهرين، وكان سلفي فيه رجلا من الأرمن له سند قوي سهل له به الوصول إلى المرحوم سعيد باشا، فرمى في بما رمى، فرفعت من هذه الوظيفة، وتأسف لرفعي التجار البلديون لما رأوه من البت في القضايا على وجه الحق، فأقمت في بيتي نحو ثلاثة أشهر، ثم تعينت مفتش هندسة نصف الوجه القبلي، فأقمت فيه نحو شهرين، ثم خلفني في ذلك علي باشا إبراهيم، ثم دعاني المرحوم سعيد باشا لعمل رسم لاستحكامات أبي حماد، ودعا علي باشا إبراهيم للكشف على الجانب الغربي من النيل إلى أسوان، فاشتغلنا بذلك مدة بلا مرتب، ولما تممت الرسم ذهبت إليه لعرض الرسم عليه وكان في طره فلم أتمكن من ذلك، وصرت أتردد على طره أياما لهذا القصد، فلم يتيسر، ثم قام إلى قصر النيل، فترددت على ذلك الموضع أيضا، فلم يتم المقصود، ثم قام إلى الإسكندرية فتحيرت في أمري إذ كان لا يثبت في مكان، ولم يتيسر لي عرض نتيجة المأمورية عليه، فالتزمت الإقامة بمصر حتى أتمكن من لقائه، وطالت المدة، وفرغ المصروف، ثم قدم إلى مصر فذهبت إليه، فلم أتمكن من الدخول إليه، فقال لي مأمور التشريفات: كن معنا على الدوام لعلك تجد فرصة في وقت من الأوقات تتمكن بها، وحضر علي باشا إبراهيم أيضا فاصطحبنا، ولازمنا معيته في السفر ثلاثة أشهر بلا وظيفة (مرتب)، ولا شغل، مع كثرة التنقلات من بلد إلى بلد، ومن موضوع إلى آخر.
ثم لما كان ذات يوم في الجيزة وقع نظره علي، فناداني وكلمني وسألني عما صنعت في الرسم، فقدمته له، فنظر فيه قليلا ثم قال: أبقه حتى نجد وقتا لإمعان النظر فيه، ثم لم يلتفت إليه بعد ذلك، ولكن ربطت لي وظيفة.
Bog aan la aqoon