فهذه الأعمال جميعها أو أكثرها كنت أنفذ أوامرها بوضع رسومات وشروط مع المقاولين ونحو ذلك لضرورة تعلقها بديوان الأشغال، فكنت في مدة إحالة هذه الدواوين علي، مشغولا بالمصالح الأميرية، وتنفيذ الأغراض الخديوية ليلا ونهارا حتى أرى وقتا ألتفت فيه لأحوالي الخاصة بي، ولا أدخل بيتي إلا ليلا، بل وكنت أفكر في الليل فيما يفعل بالنهار، لا سيما وأعمال القنال الملح كانت قد تمت، وكان الخديوي قد صمم لتمامها على عمل مهرجان، ودعا لذلك كثيرا من ملوك أوربا وسلاطينها وعظمائها، وهذه الحالة تستدعي استعداد السكك الحديد وعرباتها وتهيئة المدينة لدخولهم، فكنت مع النظر في أحوال تلك الدواوين مشغول الفكر دائم السفر في مصالح هؤلاء المدعوين إلى أن انقضى جميع ذلك على أحسن حال، وأحسن إلينا من طرف الخديوي بالنيشان المجيدي من الرتبة الثانية، وأهدي إلينا من طرف قرال النمسا نيشان (غرانقوردون)، ومن طرف قرال فرنسا نيشان (كماندور)، ومن دولة البروسيا نيشان (غرانقوردون)، وغير ذلك من النياشين.
وقد بقيت تلك المصالح تحت يدي إلى رمضان سنة ثمان وثمانين، ثم انفصلت عن ديوان السكة، ثم عن المدارس والأشغال بعد أيام قلائل، ثم عن الأوقاف بعد مضي قليل من شوال من تلك السنة، وكانت أسباب الانفصال أن ناظر المالية إذ ذاك، وهو المرحوم إسماعيل باشا صديق، كان قد رغب أن يضم دخل السكة الحديدية إلى المالية، وحصل الكلام بيننا في ذلك فقلت له: «لا مانع وإنما يكون الصرف على السكة الحديدية تابعا للمالية حينئذ، ولا أكون مسئولا إلا عن مجرد إدارتها بشرط أن يصدر أمر الخديوي بذلك حتى لا يعود علي سؤال فيما عساه أن يحصل من الضرر» فلم يوافق ذلك أغراضه، ورماني بما رمى، فترتب عليه ما ترتب، لكني لم أقم في بيتي إلا نحو شهرين.
ثم صدرت الأوامر الخديوية في يوم عيد الأضحى بجعلي ناظرا على ديوان المكاتب الأهلية، وأمرت بتنظيم ديوانها، وعمل رسومات لتجديد مكاتب في مدن الأرياف وبلادها كل على حسبه، وما يناسبه، لعلم الخديوي أن مكاتب الأرياف غير مستوفية لدواعي الصحة، ولا لشروط النجاح في التعليم، فرسمت ذلك، وألحقت به تقريرا لبيان ما يلزم اتباعه في جميع المكاتب بحسب الأهمية، وكان الغرض عمل نموذج في كل جهة ليجري البناء على مثله، لكن عرضت عوارض أخرت ذلك.
وفي شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين أحيل علي نظر الأوقاف ثانيا، وبعد قليل أحيل علي نظر ديوان الأشغال، فلم يمض إلا يسير حتى تحولت نظارة هذه الدواوين على نجل الخديوي إسماعيل باشا دولتلو «حسين كامل باشا»، فبقيت بمعيته بوظيفة مستشار.
وفي جمادى الآخرة سنة تسعين انفصل ديوان الأشغال بنفسه تحت رئاسة المشار إليه وجعلت وكيله، وفي شهر شعبان من هذه السنة جعلت عضوا في المجلس الخصوصي، وبعد قليل انفصلت عن الخصوصي بسبب ما ألقاه إليه الواشون كإسماعيل باشا صديق وأضرابه من أن كتابنا «نخبة الفكر» الذي أمرني بتأليفه، فيما يتعلق بأمر النيل، مشتمل على ذم الحكومة الخديوية وتقبيح سياستها، فأقمت في بيتي مع جريان الماهية علي من المالية.
ثم في شهر صفر سنة إحدى وتسعين جعلت رئيس أشغال الهندسة بديوان الأشغال مذ كان هذا الديوان ملحقا بديوان الجهادية تحت نظارة دولتلو «حسين باشا» المشار إليه، ولما انفصل ديوان الجهادية، ألحق بديوان الداخلية تحت نظارة نجله الأكبر الجناب التوفيقي الخديوي الأفخر، وكان إذ ذاك ولي عهد الحكومة الخديوية المصرية.
وفي سنة اثنتين وتسعين جعلت مستشارا بمعيته في ديوان الأشغال، وفي شهر ذي القعدة من تلك السنة انفصل ديوان الأشغال بنفسه تحت نظارة دولتلو «إبراهيم باشا» نجل المرحوم أحمد باشا، فبقيت بمعيته مستشارا بهذا الديوان.
وفي بكرة يوم الأضحى من سنة ثلاث وتسعين غدوت لملاقاة الخديوي إسماعيل باشا وتهنئته بالعيد الجديد على حسب العادة، وكان بسراي عابدين، وقد اجتمعت هناك جميع الأمراء والأعيان والمشايخ وأرباب التشريفات لتهنئته، وتهنئة أنجاله على حسب العادة، فقابلناه إثر صلاة العيد، وهنأناه، فأكرمني إكراما زائدا، وأنعم علي بالنيشان المجيدي من الرتبة الأولى (غرانقوردون).
وبقيت على هذه الحال إلى أن ظهر في سنة 1876 ميلادية قصور الحكومة عن أداء ما عليها لكثرة ما أصدرته من البونات، وما أثقل كاهلها من الديون ذات الأرباح الكثيرة حتى أدى ذلك إلى الحجز على أغلب أملاكها، وإلى تداخل الدول الأجنبية في أمورها، وآل الأمر إلى تعيين لجنة من معتمدي الأجانب ذوي خبرة للنظر في المالية وفروعها، وجعل في هذه اللجنة دولتلو «رياض باشا» نائبا من طرف الحكومة المصرية، فكان هو الذي عليه المعول في معرفة الحقائق، وتم الأمر بتقرير هيئة للحكومة على أسلوب جديد، فترتبت في سنة 1878 ميلادية هيئة نظارة يرأسها دولتلو نوبار باشا فكنت من رجالها ناظرا على ديواني الأوقاف والمعارف، وصدر الدكريتو من لدن الحضرة الخديوية من منطوقة أني أريد عوضا عن الانفراد المتخذ الآن طريقا في الحكومة المصرية أن تكون لهذه الهيئة إدارة عامة على المصالح، بمعنى أني أروم القيام بالأمر من الآن فصاعدا بالاستعانة بمجلس النظار والاشتراك معهم في تسيير المصالح، وأن يكون أعضاء مجلس النظار كل منهم كفيلا بالآخر، يتفاوضون في جميع المهمات، ويتداولون الرأي فيها، ويقررون ما تستقر عليه أغلبية الآراء، وتصدر قرارات المجلس على حسب الأغلبية، وأقررها بالتصديق عليها، ثم ينفذها النظار، فجرى العمل بذلك، وأخذت هيئة النظارة في إدارة المصالح على هذا النمط، وشرعت في تسديد الديون من دخل البلاد ومن قرضة استدانتها من بنك روتشلد بلوندره وهي ثمانية ملايين ونصف مليون من الجنيه الإنجليزي، ورهنت في ذلك أملاك العائلة الخديوية من أراض زراعية وغيرها بعد تنازلهم عنها للحكومة، وكان مبلغ إيرادها سنويا أربعمائة ألف وستة وعشرين ألف جنيه إنجليزي، وجعلت لإدارة تلك الأملاك مصلحة مستقلة عرفت بمصلحة الدومين.
وفي تلك المدة صرفت ما في وسعي في توسيع دائرة المعارف، فشرعت في بناء بعض المدارس كمدرسة طنتدا ومدرسة المنصورة، وفي تكثير عدد المكاتب وترتيب المدرسين وما يلزم للتعليم من أدوات وكتب، واعتنيت بأمر الأوقاف، ونشرت المعاونين للكشف عن الأماكن وبيان المتخرب منها والعامر، وما يناسب استبداله وتجديده على حسب ما يعود بالمصلحة على الأوقاف، وبيان الأصقاع ونحو ذلك، وكان أكثر مكاتبها متعطلا ما بين دارس وفاقد ثمرة التعليم لعدم لياقة المعلمين للتعليم، فوجهت الهمة نحوها حتى ظهرت بالتدريج النتيجة للمتعلمين وأهليهم، ولما تمت دفاتر الأماكن والمكاتب التي بالمدن والقرى، أخذت في إنجاز مقتضياتها على حسب نصوص وقفياتها، مراعيا في ذلك ما فيه المصلحة وما يقره المفتي. وكانت هيئة النظارة مساعدة للمعارف والأشغال العمومية وكل ما فيه التقدم، وقد اهتمت بتنظيم أمر الإيراد والمصرف، وأبطلت من المغارم ما يبلغ نحو مليونين من الجنيهات، ولكن ألجأتها ضرورة الاقتصاد إلى إلغاء بعض المصالح، وقطع المرتبات الجارية على غير قانون، كالإنعامات ومرتبات الإشراقات، وتنزيل عدد الجيش العسكري إلى القدر الكافي لاحتياجات البلاد وبذلك أحيل كثير من ضباط العسكرية على المعاش، فأساءت هذه الإجراءات ونحوها كثيرا من الناس سيما ضباط العسكر، وحصل اللغط بذم الهيئة، والتنديد على أعمالها، وكثرة القال والقيل، حتى تجمع كثير من ضباط العسكر حول المالية، يطلبون متأخراتهم، وجرت منهم أمور جاوزت حد الأدب، فتشوشت الأفكار داخل القطر وخارجه، واضطربت الأحوال، ولم يزل الاضطراب يتزايد حتى صار وسيلة للقول بعدم موافقة هيئة النظارة لحال البلد، وانبنى على ذلك سقوطها.
Bog aan la aqoon