حياتي
حياتي
حياتي
حياتي
تأليف
علي مبارك
حياتي
إن قرية برنبال الجديدة هي مسقط رأسي وبها نشأت، وكانت ولادتي في سنة 1239 هجرية كما أخبرني بذلك أبي وأخي الأكبر المرحوم الحاج محمد، المتوفى في شهر رمضان سنة 1293، ووالدي هو مبارك بن مبارك بن سليمان بن إبراهيم الروجي، ذكر لي أخي المذكور أن جدنا الأعلى من ناحية الكوم والخليج قرية على بحر طناح، وبسبب فشل كبير حصل في البلد تشتتت عائلتنا في البلاد؛ فمنهم من أقام بناحية دموه وهم عائلة البحالصة، ومنهم من أقام بناحية الموامنة، ولم يبق منهم بالبلدة الأصلية إلا أولاد غيطاس، وأقام جدنا الأكبر إبراهيم الروجي بناحية برنبال الجديدة مكرما معظما، فكان هو إمامها وخطيبها وقاضيها، وبعد موته عقبه ولده سليمان على وظيفته، وعقب سليمان ابنه مبارك، ولما رزق مبارك، الذي هو الجد الأدنى، بأبي سماه باسمه، ونشأ على وظيفة آبائه وأجداده، وهكذا أكثر العائلة، فلذا كانت تعرف في البلد إلى الآن بعائلة المشايخ، وهي عائلة كثيرة الفروع بحيث إن في البلد حارة كاملة تحتوي على نحو مائتي نفس، ولهم بها وظيفة القضاء والخطبة والإمامة وعقود الأنكحة والكيل والميزان، وكانت لهم رزقة بلا مال ولم يكن عليهم شيء مما على الفلاحين، ولا لهم علائق عند حكام الجهات، وبقوا على ذلك إلى أن حصل ضعف أكثر أهل الناحية عن فلاحة الأرض، وانكسرت عليهم أموال الديوان، فرمى الحكام على هذه العائلة مقدارا من الأطيان، وطلبوا منهم أموالها المنكسرة عليها، وضربوا عليهم بعض ضرائب، وشددوا في خلاصها بالسجن والضرب كأسوة الفلاحين، فضاق خناقهم من ذلك لعدم اعتيادهم الإهانة، وبعد بذلهم ما بأيديهم، وبيعهم المواشي وأثاث البيوت، رأوا أن لا ملجأ لهم من ذلك إلا الفرار، ففارقوا البلد وتفرقوا في البلاد، فنزل والدي بقرية الحماديين (من بلاد الشرقية) وعمري إذا ذاك نحو ست سنين، وقبل رحلتنا كنت ابتدأت في تعلم القراءة والكتابة على رجل من برنبال أعمى يسمى أبا عسر قد توفي بعد ذلك. ولعدم إكرامنا بناحية الحماديين لم يطب لنا المقام بها ، فلم نلبث فيها إلا قليلا، وارتحلنا منها إلى عرب السماعنة بالشرقية أيضا، وهم من عرب الخيش، ولم يكن عندهم فقهاء، فأنزلوا والدي منزل الإكرام والإجلال، وانتفعوا منه وانتفع منهم انتفاعا كبيرا، وصار مرجعهم إليه في الأحكام الدينية، وكان رجلا صالحا دينا متفقها حسن الأخلاق، فأحبوه حبا شديدا وبنوا جامعا جعلوه إمامه.
ولما ارتاح خاطره وانزاحت عنه الشدائد، التفت إلى تربيتي، فعلمني أولا بنفسه، ثم أسلمني لمعلم اسمه الشيخ أحمد أبو خضر من ناحية الكردي قرية بقرب برنبال، وكان مقيما في قرية صغيرة قريبة من مساكن هؤلاء العرب، وجعل الوالد يرسل لي كفايتي عنده، وكنت لا أذهب إلى بيتنا إلا كل جمعة، ومن خوفي منه كنت لا أعود إليه فارغ اليد، فأقمت عنده نحو سنتين، فختمت القرآن بداءة، ثم لكثرة ضربه لي تركته وأبيت أن أذهب إليه بعد ذلك، وجعلت أقرأ عند والدي، إلا أني لكثرة أشغاله واشتغاله عني تعلقت باللعب والتفريط فنسيت ما حفظته، فخشي والدي عاقبة ذلك، فهم بجبري على الذهاب إلى هذا المعلم، فاستعصيت ونويت الهرب إن لم يرجع عني، وكان لي من الأخوات سبع بنات شقيقات، ولم يكن لوالدتي من الذكور غيري، ولي إخوة ذكور من غير أمي، فلما أدركوا مني نية الهرب أشفقوا من ذلك وحنوا إلي، وسألوني عن مرغوبي في التربية؛ إذ لا يصح بقاء الشخص بلا تربية، فاخترت أن لا أكون فقيها بهذه المثابة، وإنما أكون كاتبا لما كنت أرى للكتاب من حسن الهيئة والهيبة والقرب من الحكام، وكان لوالدي صاحب من الكتاب كان كاتب قسم، وإقامته بناحية الأخيوة، فأسلمني إليه، فرأيته رجلا حسن الهيئة نظيف الثياب جميل الخط، فأقمت عنده مدة، ولي من والدي مرتب يكفيني، فدخلت بيته وخالطت عياله، فإذا هو مجمل الظاهر فقير في بيته، وله ثلاث زوجات وعيال، على قلة من الزاد، فكنت في غالب أيامي أبيت طاويا من الجوع، وكان أغلب تعليمه إياي على قلته في البيت أمام نسائه، وكان خروجه إلى السرحة قليلا، وإذا خرج يستصحبني معه فلا أستفيد إلا خدمتي له، ومع ذلك فكان يؤذيني دائما، إلى أن كنا يوما في قرية المناجاة، فسألني أمام الناظر وجماعة حضور عن: الواحد في الواحد، فقلت له باثنين فضربني بمقلاة بن فشجني في رأسي، فلامه الحاضرون، وذهبت إلى والدي أشكو إليه، فلم أنل منه إلا الأذية. وكان يومئذ مولد سيدي أحمد البدوي، فهربت مع الناس قاصدا المطرية (جهة المنزلة) لألحق بخالة لي هناك، فمرضت بالريح الأصفر في طريقي بقرية صان الحجر، فأخذني رجل من أهلها لا أعرفه، فمكثت على ذلك عنده أربعين يوما، وقد سألوني عن أهلي، فقلت: أنا يتيم مقطوع، وكان والدي في تلك المدة وأحد إخوتي يفتشان علي في البلاد، فاستدل علي في صان، فلما رأيته من بعد هربت، ونزلت بمنية طريف، فأخذني رجل عربي، ولم أقم عنده إلا قليلا حتى هربت منه، ولحقت بأخ لي في بلدتنا برنبال، وكان قد رجع إليها، وبعد أيام قدم إلينا أخي الذي كان يفتش علي، فأخذني بالحيلة إلى والدي، وقد أشكل عليهم أمري، وذهبوا كل مذهب في كيفية تربيتي، وما يصنعون بي، وجعلوا يعرضون على القراء والكتاب فلم أقبل، وقلت: إن المعلم لا أستفيد منه إلا الضرب، والكاتب لا يفيدني إلا الضياع والأذية ويستفيد مني الخدمة.
ثم عرض علي والدي أن يلحقني بصاحب له من كتبة المساحين، فرضيت بذلك، فلما عاشرته رغبت في عشرته لما كنت أكتسب من صحبته من النقود التي تنالني مما يأخذه من الأهالي، فأقمت عنده ثلاثة أشهر، ولكني لصغر سني وعدم معرفتي بما ينفع وما يضر، كنت أفشي سره وأخبر عما يأخذه من الناس، فطردني، فبقيت في بيتنا أقرأ على أبي، ويستصحبني في قبض الأموال الأميرية التي على العرب (وكان منوطا بذلك) فكنت أباشر الكتابة وبعض المحاسبات، ثم بعد نحو سنة جعلني مساعدا عند كاتب في مأمورية أبي كبير بماهية خمسين قرشا أبيض له الدفاتر، فأقمت عنده نحو ثلاثة أشهر، وقد خلقت ثيابي وساءت حالي ولم أقبض شيئا من الماهية إلا الأكل في بيته، ثم عينني يوما لقبض حاصل أبي كبير، فقبضته وأمسكت عندي منه قدر ماهيتي، وكتبت له علما بالواصل، ووضعته في كيس النقدية، فلما وقف على ذلك اغتاظ مني وأسرها في نفسه.
Bog aan la aqoon