كان شهر مارس شهرا كئيبا ومزدحما بكثير من العمل في المستشفى. كانت الممرضات المساعدات يقلن إنه دوما أسوأ الشهور وتحدث خلاله المشاكل والمتاعب. ولأسباب عدة، كان الناس يعتقدون أنهم سيموتون فيه، وذلك على الرغم من أنهم استطاعوا تجاوز أزماتهم الصحية في فصل الشتاء. ولو حدث أن تغيب أحد الأطفال في الفصل الدراسي، فلم أكن أدري حينها إن كان هذا معناه أن حالته قد ازدادت سوءا على نحو مفاجئ، أم أنهم جعلوه يرتاح في سريره لأن هناك شكا في إصابته بنوبة برد. كانت لدي سبورة متنقلة أدون على جوانبها أسماء الأطفال، ولم أعد الآن أضطر لمحو أسماء الأطفال الذين كان يطول غيابهم؛ إذ كان يقوم بذلك بعض الأطفال الآخرين دون أن يخبروني؛ فقد كانوا يتفهمون جيدا القواعد التي كان لا يزال علي تعلمها.
وأخيرا سنح الوقت للطبيب بأن يقوم ببعض ترتيبات الزفاف؛ فقد دس رسالة قصيرة أسفل باب حجرتي يخبرني فيها بأنه علي أن أستعد للزواج بحلول الأسبوع الأول من شهر أبريل؛ فقد كان بمقدوره أخذ يومين راحة، ما لم تطرأ أي أزمات ومشاكل حقيقية في المستشفى. •••
سنتجه إلى هنتسفيل.
سنذهب إلى هنتسفيل، وهي المدينة التي ستشهد زفافنا.
بدأنا ذلك اليوم الذي أثق تماما أنني سأظل أذكره طوال حياتي. أرسلت ثوبي الأخضر المصنوع من قماش الكريب لكي ينظف تنظيفا جافا، ولففته بعناية ووضعته في حقيبة الرحلات القصيرة؛ فقد علمتني جدتي ذات يوم حيلة للف الثياب بعناية، وهي أفضل من طيها تلافيا لتجعدها. وهكذا اعتقدت أنه كان علي أن أغير ملابسي في أي حمام في مكان ما. رحت أرقب الطريق لأرى إن كانت هناك بعض الزهور البرية التي ربما ظهرت قبل أوانها، وذلك حتى أتمكن من قطف بعضها لأصنع منه باقة. هل كان سيوافق هو على أن أحمل باقة من الزهور؟ لكن على أية حال كان الوقت مبكرا جدا حتى لنمو زهور أذريون الماء، ولم يكن المرء ليرى شيئا على ذلك الطريق الخالي المتعرج سوى أشجار التنوب المارياني الرفيعة، ومساحات ممتدة من نبات العرعر وبعض المستنقعات. وتناثرت بصورة عشوائية عبر الطريق بعض الكتل الصخرية التي ألفت رؤيتها هنا، والتي كانت أرصفة صخرية مائلة من الجرانيت ملطخة باللون الأحمر.
كان الراديو يذيع موسيقى حماسية؛ حيث كانت قوات الحلفاء تتقدم أكثر فأكثر نحو برلين. وقال الطبيب، الذي كان اسمه الأول أليستر، إنهم يتأخرون في تقدمهم حتى يسمحوا للروس أن يدخلوا أولا. وأضاف أنهم سيندمون على ذلك.
والآن وبعد أن ابتعدنا كثيرا عن أمندسون، كان بإمكاني أن أناديه بأليستر. كانت هذه هي أطول رحلة قطعناها معا بالسيارة، وقد أثارني تجاهله الذكوري لوجودي - الذي كنت أدري تماما بأنه سرعان ما كان سينقلب إلى النقيض - وراقت لي مهارته الطارئة في القيادة. وأثارتني أيضا حقيقة كونه جراحا بالرغم من أنني لم أكن لأعترف بذلك، ولكني كنت أعتقد في تلك اللحظة أنني على استعداد لأن أسلم نفسي له في أي مستنقع، أو حتى في حفرة موحلة، أو أن أشعر باحتكاك عمودي الفقري بأي من الصخور المترامية على جانبي الطريق، إن أراد هو مضاجعتي. كنت أدرك أيضا أنه كان يجب علي أن أحتفظ بتلك المشاعر لنفسي.
تحولت للتفكير في المستقبل. توقعت بمجرد وصولنا إلى هنتسفيل أننا سنذهب إلى أحد القساوسة، ونقف حينها جنبا إلى جنب في إحدى غرف المعيشة التي ستشبه في روعتها شقة جدي وجدتي، وأجمل غرف المعيشة التي عرفتها طوال حياتي. إنني أتذكر تلك الأوقات التي كان يستدعى فيها جدي ليقوم بطقوس الزفاف حتى بعد تقاعده، وكيف كانت جدتي تضع بعضا من البودرة الحمراء على وجنتيها، وترتدي سترتها المزينة بالدانتيل ذات اللون الأزرق الداكن التي تدخرها لمثل هذه المناسبات.
لكنني اكتشفت أن هناك طرقا أخرى للزواج، واكتشفت إحساسا بالنفور تجاه عريسي لم أتبين كنهه؛ فهو لم يكن يريد أن يتم الزواج على يد أحد القساوسة، بل من المفترض أننا كنا سنملأ في مبنى بلدية هنتسفيل نموذجين نتعهد فيهما أننا لسنا متزوجين، ونأخذ موعدا للزواج على يد قاضي صلح في وقت لاحق من نفس اليوم.
حل موعد الغداء، وتوقف أليستر خارج مطعم يشبه تماما ذلك المقهى المتواجد في أمندسون. «هذا سيفي بالغرض.»
Bog aan la aqoon