91

لو استعرضت حياتي من أولها إلى آخرها لكانت «شريطا» فيه شيء من الغرابة وفيه كثير من خطوط متعرجة، فما أبعد أوله عن آخره، وما أكثر ما فيه من مفارقات، وتغير في الاتجاهات، ومخالفة للاحتمالات، فمن كان يراني وأنا في مدرسة أم عباس الابتدائية يظن أنني سأكمل دراستي الابتدائية والثانوية، وقد أكمل الدراسة العالية وأشغل الوظيفة التي تتفق ونوع الشهادة: معلما أو قاضيا أو مهندسا أو نحو ذلك. ثم تغير هذا الاتجاه فجأة إلى الأزهر، فمن كان يراني في الأزهر يظن أني إما أن أنقطع عن الدراسة فأكون إماما في مسجد، وإما مدرسا في مدرسة أهلية أو نحو ذلك، وإما أتممها فأكون عالما في الأزهر، له كرسي بجانب عمود من عمده يجلس عليه بعمامته الكبيرة وجبته الواسعة، يشرح المتن والشرح والحاشية، ثم تغير هذا الاتجاه أيضا فجأة إلى مدرسة القضاء، فكان أكبر الظن أن أكون كزملائي قاضيا شرعيا يتنقل في مناصب القضاء حتى يكون رئيس المحكمة الشرعية العليا أو قريبا منه، ولكن تغير أيضا هذا الاتجاه فاتصلت بالجامعة، وكنت أستاذا بكلية الآداب وعميدا لها.

وتغيرت عقليتي تبعا لهذا التغير، فلم تعد عقليتي تنسجم مع العقلية الأزهرية؛ بل ولا مع زملائي من مدرسة القضاء. ومنذ قليل قابلت صديقا كان من أحب الأصدقاء إلي في مدرسة القضاء وأقربهم إلى عقلي، فحادثته وأطلت الحديث معه، فإذا أنا في واد وهو في واد.

وكم من الفروق بين معيشتي الأولى ومعيشتي الأخيرة! وإن الفرق بينهما - كما قال الجاحظ - كالفرق بين امرئ القيس إذ يقول:

تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

وقول علي بن الجهم:

فبتنا جميعا لو تراق زجاجة

من الخمر فيما بيننا لم تسرب

كنت في البيت كالذي وصفته - أولا - في منتهى السذاجة والبساطة، لا ماء في المواسير، ولا آلة من آلات المدنية الحديثة، فأصبحت أسكن في بيت فيه الحديقة، وفيه أثاث المدنية الحديثة، فيه الراديو والتليفون وما إلى ذلك.

ولم أركب القطار في حياتي الأول إلا وأنا في السادسة عشرة من عمري، ركبته إلى طنطا فحزنت وبكيت، وفي آخر حياتي ركبت الطيارة من القاهرة إلى لندن وأنا مسرور مبتهج.

Bog aan la aqoon