ظللت أكتب المقالات في مجلة «الرسالة» فلما حالت الحوائل دون الاستمرار فيها أخرجت لجنة التأليف مجلة «الثقافة» وعهدت إلي أن أكون مديرها، فكنت أقرأ أكثر ما يرد إليها من مقالات وأحرر فيها مثل ما كنت أحرر في «الرسالة». وكان خيرا لي لو جربت قلمي في أنواع الأدب الأخرى غير المقال لأجرب ملكاتي وأقف على موضع القوة أو الضعف فيها، كالقصة مثلا، وقد عالجت ذلك في بعض الأحيان ولكني لم أستمر فيه، وكان من الخير أن أستمر وأنتقل من القصص القصيرة إلى القصص الطويلة، فإما نجحت وإما أخفقت، ولكن فات الأوان.
وبعد أن كتبت هذه المقالات في «الرسالة» و«الثقافة» طلب إلي أن أكتب في مجلات أخرى: الهلال والمصور وغير ذلك ففعلت، ولما كثرت مقالاتي جمعت بعض ما كتبت وزدت عليها وأودعتها ثمانية أجزاء سميتها «فيض الخاطر».
وعلى هامش هذا طلب إلي أن أذيع أحاديث في محطة الإذاعة فأذعت، وكانت أحاديثي أشبه ما تكون بمقالاتي من حيث موضوعاتها وأسلوبها، إلا أنني تعمدت في هذه الأحاديث أن تكون أسهل موضوعا وأبسط تعبيرا، ونزلت في ذلك إلى أن دنوت من العامية لتناسب جمهور السامعين، ولم أر في ذلك بأسا بل لقد هممت أحيانا أن أتحدث بالعامية لأني أرحم الأميين وأشباههم ألا يكون لهم غذاء عقلي يستمتعون به. وأكره من الأدباء أرستقراطيتهم، فلا يكتبون إلا للخاصة ولا يتفننون إلا لهم. وواجب الأدباء أن يوصلوا غذاءهم إلى كل عقل، ونتاجهم الفني إلى كل أذن، فإذا لم يفعلوا فقد قصروا. وقد لفت نظري لهذا مرة أن حضر إلى مصر رجل كبير من مسلمي الصين، فتقابلنا مرارا وتحدثنا كثيرا، وفي مرة عرفته بالأستاذ توفيق الحكيم، وقلت له إنه أديب كبير، فسألني هل هو أديب شعب أو أديب أرستقراطي؟ فرن السؤال في رأسي، فلما قلت له هو أديب أرستقراطي، سألني: فمن من أدبائكم شعبي؟ فحرت جوابا، وآلم نفسي ألا يكون لجمهور الشعب أديب، وكثيرا ما شغلت ذهني مشكلة العلاقة بين اللغة الفصحى واللغة العامية وأن صعوبة اللغة الفصحي - ولاسيما من ناحية الإعراب - تحول دون انتشارها في جمهور الشعب وبخاصة إذا أردنا مكافحة الأمية وتعميم التعليم، فنحن لو أردنا تعميم التعليم بين الجماهير باللغة الفصحى المعربة احتجنا إلى زمن طويل، ولم نتمكن من إجادة ذلك كما نتمكن إلى اليوم من إجادة تعليم المثقفين إياها. فطلبة المدارس يقضون تسع سنين في التعليم الابتدائي والثانوي وأربع سنين في الجامعة ثم لا يحسن أكثرهم الكتابة والقراءة، وكثيرا ما يلحنون في الإعراب. ومن أجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها وفي محاضرة في المجمع اللغوي أن نبحث عن وسيلة للتقريب، واقترحت أن تكون لنا لغة شعبية ننقيها من حرافيش الكلمات (على حد تعبير ابن خلدون) ونلتزم في أواخر الكلمات الوقف من غير إعراب، وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات ولغة الكتابة للجمهور؛ ولا تكون اللغة الفصحى المعربة إلا لغة المثقفين ثقافة عالية من طلبة الجامعة وأشباههم، وإلا الذين يريدون أن يطلعوا على الأدب القديم ويستفيدوا منه وبهذا تكسب اللغة العامية والفصحى معا، فاللغة الفصحى الآن لا تتغذى كثيرا من استعمال الكلمات اليوم، وهذا الاستعمال اليومي في الشارع وفي البيوت وفي المعاملات من طبيعته أن يكسب اللغة حياة أكثر من حياتها بين الدفاتر، وفي الأوساط الخاصة، ويكسب اللغة العامية رقيا يقرب من الفصحى، وهو يمكننا من نشر الثقافة والتعليم لجمهور الناس في سرعة، ويمكننا من تقديم غذاء أدبي لقوم لا يزالون محرومين منه إلى اليوم. وهو إجرام كبير كإجرام حبس البريء وتجويع الفقير، ولكن هذا الاقتراح لقي معارضة شديدة بل وتجريحا عنيفا.
الفصل الثاني والثلاثون
انتدبت - وأنا أستاذ بكلية الآداب - مديرا للإدارة الثقافية بوزارة المعارف وكان ذلك سنة 1945، ووزير المعارف إذ ذاك الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وهي إدارة ليس لها أول يعرف ولا آخر يوصف، واختصاصها واسع سعة لا حد لها لمن شاء أن يعمل، وضيق أشد الضيق لمن شاء ألا يعمل، ومن اختصاصها النظر في الأساتذة الذين يندبون إلى الأقطار العربية، والطلبة الشرقيين حين يريدون الدخول في المدارس المصرية، وتنظيم العلاقة بين مصر والبلاد الشرقية والبلاد الأجنبية في الشئون الثقافية، وتنظيم الإذاعة المدرسية، وتنظيم الحياة الاجتماعية للطلبة خارج المدرسة، واستخدام السينما في الثقافة وغير ذلك.
وقد نشأت عندي فكرة لا أدري من أين نبتت، فقد لاحظت خطأ وزارة المعارف في قصرها جهودها على التعليم داخل جدران المدرسة، مع أن في عنقها تثقيف الشعب بأجمعه في المدارس وغير المدارس بالصور المختلفة، وخطأ آخر وقعت فيه وهو فهمها أن نشر الثقافة لا يكون إلا بواسطة تعليم القراءة والكتابة، مع أنه يمكن نشر الثقافة بواسطة السمع، وبواسطة عرض الأشرطة السينمائية على الناس ونحو ذلك من وسائل من دون القراءة والكتابة؛ وقد كنت قرأت نتفا عن تعليم الكبار في الممالك الأجنبية، فعكفت - أنا وشابان ممن يعملون معي في الإدارة الثقافية - على قراءة الكتب التي تصف النظم التي اتبعت في هذا السبيل، فنحن نجتمع كل يوم عصرا في حجرة متواضعة في لجنة التأليف والترجمة، نقرأ ونترجم وندرس ونبحث: أي هذه النظم يصلح لمصر، وأيها لا يصلح، ونضع تقريرا مفصلا عن هذه الفكرة التي سميناها. «الجماعة الشعبية»، والتي سميت فيما بعد «بمؤسسة الثقافة الشعبية»، يشتمل على نوع من الطلبة والطالبات الذين تلقي عليهم المحاضرات من غير تقييد بسن ولا رغبة في شهادة ولا امتحان عند الدخول، كما يشتمل على شعب الدراسة من دراسة مهنية ودراسة نظرية وبرنامج مائع لكل هذا، يمكن تحويله حسب الظروف والمناسبات، فإذا جدت مسألة فلسطين مثلا ألقيت محاضرات عن فلسطين، وإذا جدت رغبة في تعلم الآلة الكاتبة أنشأنا لها فرعا. ومن حيث الإدارة فقد اقترح لها مجلس إدارة من خيار الرجال في مصر للإشراف عليها. ومن حيث المكان، فمدارس وزارة المعارف والورش الصناعية والميكانيكية أمكنة للجامعة الشعبية، ومدارس البنات أمكنة لتعليم البنات والسيدات. ومن حيث مدرسوها ومدرساتها، فكل المدرسين والمدرسات بوزارة المعارف صالحون لأن نختار منهم أساتذة الجامعة الشعبية. ومن حيث الزمان فهو في المساء من الخامسة إلى الثامنة.
وعرض كل هذا على وزير المعارف فقبله وشجع الفكرة، ورصد لها نحو عشرة آلاف جنيه للبدء بها، وأدخلت في خطاب العرش، وأصبحت حقيقية بعد أن كانت خيالا، وأعلن عن الجامعة الشعبية وشعبها، فكثر الإقبال عليها ونجحت نجاحا يدل على أن حاجة الناس كانت ماسة إليها، وكلما ظهرت فيها بعض العيوب تدوركت بقدر المستطاع، واتسعت شيئا فشيئا، وزادت ميزانيتها شيئا فشيئا، وبعد أن اقتصرت الفكرة أول أمرها على القاهرة عممت في سائر الأقاليم تقريبا، وأصبح موظفو السينما ينتقلون إلى العمال والفلاحين في القرى وإلى المصانع، يعرضون الأفلام الثقافية، ومعهم بعض المحاضرين، وترى فيها الموظف الكبير والعامل الصغير يدرسان جنبا إلى جنب فنا جديدا، وترى السيدة وبنتها بجانبها تتعلمان تدبير المنزل، والطبخ والخياطة وما إلى ذلك. ولم يمض إلا قليل حتى أصبح عدد الطالبين والطالبات فيها يتجاوز سبعة عشر ألفا، وأصبحت ميزانيتها نحو سبعين ألفا. ومع هذا نرى أننا إذا قسنا أنفسنا ببعض الممالك الأخرى لا نزال في حرف الألف.
وعنيت وأنا في الإدارة الثقافية هذه بتشجيع ترجمة أمهات الكتب الغربية إلى اللغة العربية، فكان هذا العمل نواة توسعت فيها الوزارة فيما بعد.. إلى غير ذلك. ولكني لم أعتز بشيء اعتزازي بابنتي العزيزة الجامعة الشعبية، ولذلك لما تخليت عن الإدارة الثقافية بعد سنة تقريبا كان لي شرف الاحتفاظ برياسة مجلس إدارتها إلى اليوم.
فلما مرضت المرض الأخير، استقلت من رياسة مجلس إدارتها وصممت على الاستقالة وتخففت من كثير من اللجان. وأرسل إلي وزير المعارف إذ ذاك بكتاب، جاء فيه: «كنت أود أن تحظى المؤسسة بجهودكم الطيبة، وآرائكم السديدة ولكني اضطررت عملا بنصح أطبائكم أن أقبل استقالتكم مع الأسف الشديد». «وإني أنتهز هذه المناسبة فأشكر لعزتكم ما قدمتم للثقافة عامة ومؤسسة الثقافة خاصة من عمل طيب وجهد مشكور راجيا لكم حياة سعيدة وصحة كاملة موفورة».
وحدث بعد ذلك حادث غريب يعد من أعاجيب القدر، ذلك أني في يوم من صيف سنة 1946 ذهبت إلى دار الحكومة في «بولكلي» بالإسكندرية لزيارة صديق لي هو سكرتير مجلس الوزراء،
Bog aan la aqoon