وبعد قليل من وفاة أبي يموت أبي الروحي الثاني (عاطف بركات) فأحزن عليه حزنا قريبا من حزني على أبي، وأقف على قبره عند دفنه وأرثيه بكلمة أودعها قلبي، وأنظر إليه في كفنه وهم ينزلونه إلى قبره فيصفر وجهي ويسيل دمعي وأحز بأسناني على سبابتي فأكاد أقطعها، وينظر أقرباؤه إلي فيجدونني أحزن أكثر مما يحزنون، وألتاع أشد مما يلتاعون فيرثون لحالي ويشفقون مما بي.
لقد تسلمني من أبي بعد أن رباني التربية الأولى فرباني التربية الثانية، وقد عاشرته نحو ثمانية عشر عاما من سنة 1907 إلى وفاته سنة 1925 منها أربعة وأنا طالب وهو ناظر وأستاذ، وعشرة وأنا مدرس وهو - أيضا - ناظر وأستاذ، وأربعة وهو يشتغل بالأمور السياسية وأنا أتلقى عنه دروسها - فبعد خروجه من المدرسة على النحو الذي أشرت إليه قبل، تفرغ للسياسة وانضم إلى الوفد ونفي إلى «سيشل» ولما عاد وتولى سعد باشا الوزارة عين «عاطف» وكيلا لوزارة المعارف، وتولى أمر الوزارة كلها، وقد عرض علي إذ ذاك أن أكون مفتشا في الوزارة معه فاعتذرت، ثم عرض علي أن أكون أستاذا للشريعة في مدرسة الحقوق وقبلت، واتصل بناظر الحقوق واتفق معه على ذلك واختبرت دروسي ولكنه مات قبل أن يتم ذلك، فقلب لي ظهر المجن، وقطعت إجراءات التعيين وعين غيري، وانتهى كل شيء كأن لم يكن شيء.
ولم يطل أمده في وزارة المعارف، فقد دب داء السرطان إلى رأسه، وعاني من الآلام المضنية الشيء الكثير. لقد كان يخصني برعايته منذ كنت طالبا، فلم كنت مدرسا أتبعني به في دروس الأخلاق، فكنت ألازمه في دروسه وقد أقضي النهار معه في بيته بمصر الجديدة، ولما نفي في عزبته بجمجرة كنت أقضي معه فيها الأيام. وكان يراسلني من سيشل ويبعث إلي بصورته؛ ولما مرض لم يكن يسمح بزيارته إلا لأقاربه واثنين من أصدقائه كنت أحدهما، وهذا ما مكنني من الاستفادة منه.
كانت أكبر ميزة له في عقله قوة التحليل وسلامة التفكير ، وحرية الرأي وقوة الحجة، والإلحاح في الإقناع وسعة الصدر للرأي المخالف - وكانت حريته في تفكيره أقوى من حريته في عمله، فهو في إصلاحه متحفظ، يقدر كل الظروف المحيطة ويعمل في حذر؛ وأكبر ميزة له في خلقه أداء الواجب لأنه واجب من غير أي اعتبار، وعدله التام ولو لقي في ذلك العناء، في بلد تسره المجاملة ولو بالظلم، ويفرح بالوعد ولو بالكذب؛ وحبه للنظام الدقيق، فكان يشيد بذكر «كانت» إذ كان يرى أداء الواجب لذاته، وإذا كان الناس يضبطون ساعاتهم على موعد خروجه؛ وصدق في القول حتى لم يأخذ عليه طالب ولا أستاذ كذبة، وحدثني أنه وهو طالب في إنجلترا دخن يوما سيجارة في حجرة لا يسمح فيها بالتدخين، فلما أتم تدخينها دخل مراقب المدرسة عليه وعلى صحبه فقال: إني أشم رائحة دخان فمن الذي دخن «فسكت عاطف» ثم كرر المراقب القول وكرر «عاطف» السكوت، ثم خرج المراقب فنظر الموجودون إلى «عاطف» نظرة ازدراء، فعاهد الله من يومه ألا يكذب؛ ورجولة تامة فهو يكره سفاسف الأمور وتوافه القول، إذا تدنى محدثه رفعه هو إلى مستواه، فكان بذلك مهيبا جليلا.
إن عيب عليه شيء فهو قلة مجاملته حتى حيث لا تضر المجاملة بالخلق، وصراحته التي قد تجرح، في موقف لا يدعو إلى الصراحة فيه دفاع عن حق، ثم نظامه العسكري في غير ترفيه. رحمه الله فما أكثر ما نفع وأصلح.
الفصل الرابع والعشرون
ودق جرس التلفون بمنزلي في مصر الجديدة وأنا قاض بمحكمة الأزبكية سنة 1926، وإذا المتكلم صديقي الدكتور طه حسين يطلب إلي مقابلته، وذهبت لمقابلته فإذا هو يعرض على أن أكون مدرسا بكلية الآداب، فترددت قليلا ثم قبلت، لنفوري من القضاء وحبي للتدريس، وذهبت إلى الكلية حيث قصر الزعفران الآن، فوجدت شيئا جديدا علي، لا هو كالأزهر ولا هو كمدرسة القضاء. أساتذة كأنهم عصبة أمم، هذا إنجليزي وهذا فرنسي وهذا بلجيكي وهذا ألماني وقليل من الأساتذة المصريين، وليس فيهم معمم إلا أنا، وعميد الكلية بلجيكي، والطلبة أحرار، يحضرون الكلية أو لا يحضرون، ويحضرون الدرس أو لا يحضرون. وأقسام الكلية متشعبة: قسم للفلسفة يتزعمه الفرنسيون، وقسم للإنجليزية يتزعمه الإنجليز، وقسم للغات القديمة، وقسم للجغرافيا، وآخر للتاريخ ... الطلبة موزعون على الأقسام، ومن الطلبة عدد كبير يقضي سنة في كلية الآداب إعدادا لكلية الحقوق، وقد قضيت زمنا حتى أفهم كل ذلك، وأحسست أن الجو مبعثر، ليس هناك ارتباط وثيق بين الطلبة بعضهم وبعض ولا الأساتذة بعضهم وبعض، لا كالذي كنت أرى في مدرسة القضاء، وأن الدراسة كالحرب المائعة؛ فتبعثر الأقسام في الدراسة وتبعثر الأساتذة في الجنسية جعل نسيج الكلية مهلهلا، وأقرب معنى حدث في نفسي أنني في أزهر بقبعة، ولذلك لم آلف هذه الأوضاع إلا بعد عهد طويل. وصدمني أول أسبوع أنني أحسست حركة تذمر بين العميد البلجيكي والأساتذة لأسباب لا أدريها، وجاءتني بعد ذلك عريضة موقع عليها من بعض المدرسين والأساتذة يعلنون فيها ثقتهم بالعميد لميزاته وكفايته، فلم أشأ أن أوقع عليها لأن الثقة إنما تبنى على المعرفة وأنا لم أعرفه - وإدارة الكلية في يد مجلس لها، ولست عضوا في المجلس إذ لا يكون عضوا إلا أستاذ أو مساعد أستاذ، أما مدرس مثلي فلا، فكان امتناعي عن التوقيع سببا في امتعاض العميد مني وتقديره لي معا، وأخذت أهيئ نفسي للبيئة الجديدة على مضض حتى فهمت الأوضاع واستقامت الأمور. وكان الطلبة كلهم ذكورا ليس فيهم فتاة. وشاهدت مرة ثلاث بنات في قسم الفرنسية علمت أنهن نصف مصريات، أبوهن طبيب مصري كبير
1
وأمهن ألمانية، فساءلت نفسي: هل أعيش حتى أرى طالبات مصريات صميمات في الكلية؟..! ولكن الزمن كان أسرع مما توقعت، فامتلأت الكلية بالبنات بعد قليل.
ها أنذا أطلق كتب الفقه، وأعود إلى كتب اللغة والأدب والنحو، ودرست في أول سنة درسين: درسا أقرأ فيه الكامل للمبرد ودرسا أقرأ فيه البلاغة. ومن قديم لم تعجبني البلاغة العربية، فبحثت في المكتبة الإنجليزية عن كتب في البلاغة فأنا أقرؤها وأقارن بينها وبين ما كتب في البلاغة العربية وأختار خيرهما وأوفق بين مصطلحاتهما، وأكثر ما كنت أكره الدراسة في الفصول الكبيرة العدد لطلبة كلية الحقوق فأشعر إذ ذاك أني أدرس في الهواء لا رابطة بيني وبين الطلبة، ولا أستطيع الإشراف عليهم إشرافا جديا، ولا أتبادل معهم عواطفهم ولا أحسن توجيههم لكثرة عددهم، ولهذا تخلصت من هذا الدرس أسرع ما يمكن وجهدت أن أدرس في فصول محصورة لعدد محصور.
Bog aan la aqoon