Nolosha Bariga
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Noocyada
فقد قامت في البصرة جمعية على هذا النمط تحت رئاسة طالب النقيب بك وهو وجميع أسرته مشهورون بممالأة السياسة الإنجليزية في الشرق العربي.
ومن أعمال حزب اللامركزية المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس سنة 1913 الذي كان رئيسه المسكين عبد الحميد الزهراوي وقد أعدم هو أيضا. وكان للحزب وللمؤتمر قرارات ترمي إلى تفكيك أجزاء الدولة وتؤدي إلى الحكم الذاتي وتشتيت شمل الإمبراطورية العثمانية بغير حرب ولا قتال، وهذا ما كان يرمي إليه المستعمرون، وقد أسهبنا القول على مؤتمر باريس في مكان آخر من هذا الكتاب. وقد اتصل طالب النقيب من البصرة بمؤتمر باريس ووافق على قراراته، و«تشرف» رئيس المؤتمر وبعض أعضائه بمقابلة وزير خارجية فرنسا وإبلاغها القرارات وتوسلوا إليها في أن تساعدهم وأفصحوا عن ميولهم نحو فرنسا وطلب حكمها في بلاد سورية، وكانت وزارة خارجية إنجلترا ووزارة خارجية فرنسا على علم بما يجري وعلى اتصال بالأعضاء، وهذه هي الأسباب التي دعت الأتراك للحكم على بعض هؤلاء الناس بالإعدام فقد اقترفوا جناية الخيانة العظمى نحو حكومتهم ووطنهم.
الحركة العربية خدمة للاستعمار
كان الحلفاء قبل الحرب ولا سيما من سنة 1911 إلى أوائل سنة 1914 يعتقدون بحدوث حرب عظمى في أوروبا وينتظرون أن تنضم تركيا إلى ألمانيا، وكانوا يعلمون قوة الأتراك الحربية لا سيما إذا وجدوا مدربين من الألمان، ولهذا أخذوا يعملون بشدة في سبيل تفكيك روابط الألفة بين الترك والعرب حتى يدب الفشل في عناصر الدولة فإذا جاءت الحرب يكون العرب قد خرجوا على الدولة، فلجئوا إلى الطرق السياسية بشراء ذمم بعض الخونة الذين لبسوا ثياب النعرة العربية، ووحدة العرب، والدولة العربية المستقلة، ومبدأ العروبة وغير ذلك من الترهات، وأنفقوا عليهم الأموال الطائلة وجعلوهم في كل مكان في الشرق والغرب، ومعظمهم من السوريين المسلمين وغيرهم لأنهم أقدر الناس على العمل في مثل هذه الدسائس وأشره خلق الله في حب المال، ولم يفت هؤلاء الخونة أن يستروا مقاصدهم الحقيقية بثوب الرياء السياسي فجعلوا للبرنامج أسلوبا خلابا يرمي إلى تبديد أوصال الدولة العثمانية فإنهم لم يطالبوا فقط بحكم ذاتي لا مركزي للعرب، بل طالبوا بمثله لكل العناصر التي تتألف منها الدولة، فقد جاء في المادة الثانية:
القصد من تأليف هذا الحزب بيان محسنات الإدارة اللامركزية في السلطنة العثمانية للشعب العثماني المؤلف من عناصر ذات أجناس ولغات وأديان وعادات مختلفة، والمطالبة بكل الوسائل المشروعة بحكومة تؤسس على قواعد اللامركزية الإدارية في جميع ولايات الدولة العثمانية.
ولما كان المريب يكاد يقول خذوني، وكانت هذه الطغمة تعلم أن الحزب مظهر كاذب لأعمال سرية خطيرة، فقد جاء في المادة الثانية ما ينفي تهمة لم يوجهها إليهم أحد غير ضمائرهم:
ليس هذا الحزب خفيا وليس فيه ما يعد من الأسرار، فهو ينشر مقصده المبني على المطالبة باللامركزية الواسعة جهرا وعلانية دون الخشية من أحد (؟!) لاعتقاده يقينا أن الدولة لا تبقى في العالم السياسي إلا إذا بنيت حكومتها على أساس اللامركزية الإدارية.
وكان «ع» بك قد أسس جمعية العهد التي تعد أكبر حزب عربي عسكري ألفه ضباط العرب في الجيش العثماني لإصلاح أحوال العرب السياسية والاجتماعية، و«ع» بك مؤسس هذا الحزب بطل من أبطال الجيش العثماني ويسمى بطل برقة، وقد أبلى بلاء حسنا في مقدونيا وألبانيا وبلاد البلغار وفي طرابلس حيث انتصر في 16 يوليو سنة 1911 في موقعة «كان»، ولما عاد إلى طرابلس اعتقلوه برهة قصيرة وذلك في سنة 1914 وحاكموه عسكريا ثم أفرج عنه بناء على وساطة الخديو عباس وتدخل سفير إنجلترا في الأستانة إكراما لأسرة «ع» بك، وقد اتهموه بالرغبة في تأسيس دولة عربية في طرابلس يتولى هو سيادتها.
وقد أذيعت عبارات كثيرة في أثناء الاعتقال والمحاكمة كانت يشتم منها التحامل لأنه يحوم حولها، ولكن لم تثبت على الرجل تهمة معينة كما هي عادة الزعماء أهل الذكاء والحذر، فقد قيل عنه إن فكرته تناقض المصلحة العثمانية فقد سعى وهو في طرابلس الغرب في بث الفكرة العربية بين الأهلين وفي إنشاء دولة عربية مستقلة يتولى إدارة شئونها وكاد ينجح لولا معارضة بعض ضباط الترك، وقيل إنه اجتمع بالإيطاليين أثناء الحرب (حرب طرابلس) اجتماعا مهما ولكن لم يعرف أحد ما دار في هذا الاجتماع من الكلام، وقيل إنه عدو لأنور ولتركيا، وقيل إنه اتفق مع الإمام يحيى على ضم اليمن إلى مصر وكان يسعى وهو في بنغازي إلى تنفيذ هذه الفكرة وجعل بنغازي واليمن دولة عربية واحدة، وقال آخر إن الإيطاليين دفعوا له مالا كبيرا وإنه اتصل بخديو مصر واتفق معه على خطة لمصلحة الطليان، وقيل إنه احتفظ بثلاثين ألف ليرة من أموال الحكومة سلمها إليه أنور باشا. وقد حكم على «ع» بك بالإعدام ولم يثبت مطلقا أنه اختلس مالا أو خان الوطن لمصلحة الطليان، ولكن أنور - رحمه الله - أظهر شمما في قبول وساطة إنجلترا والخديو في حق صديقه القديم فأطلق سراحه وعاد البيك إلى مصر، ولما قامت الثورة العربية في الحجاز في سنة 1917 تولى قيادة جيوشها وقتا قصيرا، وسافر إلى بلاد الأفغان وبلاد الفرس وحاول تنظيم الجيوش هناك ولكن إقامته لم تطل وعاد إلى مصر، وبقي مدة طويلة في راحة واعتزال إلى أن اختير لرياسة عمل مفيد، وليس ع. ي. بك ضابطا شجاعا حاذقا فقط بل هو من ذوي الرءوس المدبرة في السياسة فقد أسس جمعية العهد كما أسلفنا وجعلها جمعية سرية وغايتها السعي وراء الاستقلال الداخلي للبلاد العربية على أن تكون متحدة مع حكومة الأستانة اتحاد المجر مع النمسا، وهو يرى ضرورة بقاء الخلافة الإسلامية في ملوك العثمانيين والاحتفاظ بالقسطنطينية.
وكان حزب اللامركزية مصادقا لحزب العهد ثم حصل بينهما شقاق، وسبب ذلك قبول عبد الحميد الزهراوي منصبه بمجلس الأعيان بعد أن أنذره «ع» بك برفضه، وقد وصف البيك صديقه الزهراوي بإحدى خلتين البله والسذاجة أو الخيانة، والأولى في نظرنا أصح وذلك لأن الزهراوي ومن كانوا على شاكلته قبلوا إصلاحات تافهة لا تكفل سوى المنافع الذاتية لأشخاصهم.
Bog aan la aqoon