Nolosha Bariga
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Noocyada
وكان في المباحث الخاصة بالتاريخ والاقتصاد والاجتماع فردا متوحدا وأنداده نادرون، وليس في البلاد من يفوقه في رجاحة العقل ولين العريكة وحسن السياسة، وكان يعرف الناس وشئون الحياة حق المعرفة ولذلك وجد السبيل إلى قلوب الرجال في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وقد ساءت صحته في السنتين الأخيرتين من عمره فاعتزل السياسة وخفت صوته إلى أن ذكرت أسماء المدعوين إلى المؤتمر الهندي فورد اسمه في طليعة المندوبين. وكان هو يشعر بالمرض بل بالموت وقد أخذ يسير نحوه حثيثا، وأنذره أطباؤه وأصدقاؤه بالخطر ولكنه لم يبال بحياته في سبيل خدمة وطنه فسافر وربما كان يشعر بأنه لن يعود إلى وطنه حيا.
ولما افتتح المؤتمر جلسته التمهيدية ألقى المرحوم محمد علي خطابا هاج النفوس ولمس أعماق الأفئدة فطلب استقلال بلاده بعبارة مؤثرة وقال: «إنني لسوء حظي لن أعود إلى الهند المستقلة، ولعلني أموت قبل أن أرى حرية بلادي ولعلكم تخطون لي قبرا في بلادكم.»
وقد صدق ظنه وصحت نبوءته، وكانت أعماله في المؤتمر ختام حياته وتاج جهاده.
ومن البديهي أن رجلا مثله عاش عهودا طويلة في بلاد الحرية أصبح لا يرضى العيش في غير آفاق الاستقلال، وهو إذ كان يعمل لخلاص وطنه من الاستعمار الأوروبي لم ينس إخوانه المسلمين في الهند، بل جعل خلاص بلاده وإسعاد طائفته وكفالة حقوقها أمرين متلازمين في جهاده الدائم المستمر. على أن الذين اختاروا أخيرا أن يثوى مثواه الأخير في القدس وهم السيد أمين الحسيني وإخوانه أعضاء المجلس الأعلى إنما نفذوا إرادة الله الذي أراد أن يكرمه بهذا الجوار الطاهر في تلك البقعة المباركة، كما نفذوا إرادته لأنه كان من أنصار الوحدة العربية الإسلامية، وكانت كل أمانيه وآماله أن يجتمع العالم الإسلامي والعالم العربي على قلب رجل واحد. وقد هب العالمان العربي والإسلامي لتشييع جنازته إلى مقره الأخير، وهما لا يصنعان أكثر من أنهما يوفيانه بعض الجزاء على ما بذل في حياته من جهود أكبر من أن يوفيها جزاء، ثم هما بعد ذلك يجتمعان على قبر رجل كان يعمل لأن يجتمع العالمان العربي والإسلامي في صعيد واحد.
وقد وصل جثمان المرحوم محمد علي إلى بورت سعيد صباح الأربعاء 20 يناير سنة 1931 (2 رمضان 1349) في الساعة السادسة صباحا ومعه أخوه وزوجته وابنته وابن أخيه، وقد أنزل الجثمان في السادسة صباحا بمسعى بعض رجال الطرق المشهورين، وساء مصر كلها أن النعش نقل إلى المسجد وشيع من المسجد تشييعا حكوميا محضا في الساعة العاشرة صباحا في رمضان، وقبل أن يستيقظ أهل بورت سعيد الذين لم يتمكنوا من الاشتراك في تشييع الجنازة، ولم يكن هناك ما يدعو إلى السرعة لأن النعش وصل إلى المحطة في الساعة الحادية عشرة من صباح الأربعاء وبقي بها إلى مساء الخميس 21 يناير حيث نقل في القطار إلى القدس، وكان يمكن تأجيل التشييع إلى ظهر اليوم أو بعد الظهر بساعة ولكن هكذا شاء المتحالفون على عدم إشراك الشعب المصري في تشييع جنازة الفقيد الراحل.
وقد رويت عن السيد عبد العزيز الثعالبي الزعيم التونسي الشهير في خطبة رثائه في ظهر الجمعة 22 يناير سنة 1931 بالمسجد الأقصى نبذة من تاريخ حياته كما شهدها بنفسه، قال:
كنت نزيلا عليه أيام إقامتي في دلهي سنة 1925، وكان يعالج بياض نهاره وهزيعا من الليل بالكتابة والخطابة والتفاهم مع الأحزاب وملاقاة الزعماء ومحادثة رجال الهند وأقطابها، ولكن كان له عمل آخر لا يشغله عنه شاغل في الهزيع الأخير من الليل هو تزكية القلب وتصفية الروح فقد كان ينقطع للتهجد وقراءة القرآن حتى مطلع الشمس ثم يعود إلى استئناف عمله، وهكذا دواليك.
وختم الثعالبي رثاءه بقوله:
إن محمد علي كان عظيما بكل ما في هذه الكلمة من معان، وسر عظمته كان في عقيدته وفي إيمانه وإخلاصه. لقد مات الرجل الذي وضع أساس تحرير الشرق، ولكن هذا لا يعني أن العمل الذي بدأ فيه سوف يتوقف، إن المعول على الإخلاص! لم تكن مواهبه في ذكائه وخطابته وعلمه ولكنها كانت على الأخص في إيمانه ويقينه وإخلاصه.
Bog aan la aqoon